الجمعة 17 مايو 2024

تل بسطة «بوباسطة».. العاصمة التاريخية والحضارية

تل بسطة

ثقافة13-1-2023 | 14:28

د. سنية بشرى محمود

تشكلت مصر سياسياً وإدارياً فى الربع الأخير من الألف الرابع قبل الميلاد، ومع بدايات العصر التاريخى بدا واضحاً أن مصر تسير بخطى ثابتة نحو الاستقرار وترسيخ دعائم وحدتها السياسية، وفى نهاية العصر العتيق وبداية الدولة القديمة استقرت أحوال مصر بشكل واضح إدارياً وسياسياً واقتصادياً. وكان لإقليم شرق الدلتا دور بارز فى هذا الاستقرار؛ بما له من مقومات جغرافية واقتصادية، فضلاً عن اهتمام الملوك المصريين منذ بداية التاريخ المصرى بموقعه المتميز فهو بوابة مصر الشرقية والمدخل الحقيقى للبلاد حرصوا على حمايته وتحصينه ضد الغزو الأجنبى، وتأمين طرقه التى سلكها التجار. وقد برز بإقليم شرق الدلتا عدد من المدن التى تمثل أهمية تاريخية وأثرية وحضارية قصوى من بينها "تل بسطة".

تتضمن محافظة الشرقية العديد من المواقع والتلال الأثرية التى تعود لمختلف العصور المصرية القديمة وكذلك العصرين اليونانى والرومانى، فقد شهدت أرضها قيام العديد من عواصم مصر القديمة هما: "تانيس- صان الحجر" (عاصمة الأسرة الحادية والعشرين)، "تل بسطه" (عاصمة الأسرة الثانية والعشرين).

موقع تل بسطه

يذكر المؤرخ اليونانى هيردوت الذى زار مصر فى القرن الخامس قبل الميلاد (450 ق.م) أن أطلال التل الشاسعة كانت تقع بالقرب من الطرف الجنوبى الشرقى ضمن إطار شرق مدينة الزقازيق الحالية عاصمة محافظة الشرقية فى الدلتا، وتسمى أطلالها الآن "تل بسطة". ولكونها تقع على أحد فروع النيل فقد سمى هذا الفرع بالفرع "البوبسطى" الذى كان يمتد من مدينة تانيس (صان الحجر) شمالاً إلى بوبسطة جنوباً، ويبلغ اتساعها من كل الجهات ما بين 1200-1400م. وأعطى موقعها بالقرب من فرعي النيل البيلوزى والتانيسى في نهاية الوادي المعروف الآن ب "وادي الطميلات" الاستراتيجى أهمية تجارية وسياسية خاصة؛ لمرور البعثات الاستكشافية إلى سيناء للبحث عن النحاس والفيروز، بالإضافة إلى الحملات العسكرية المتجهة إلى آسيا براً أو بحراً مرت بالقرب منها. ربما يكون هذا قد ساهم في ازدهار المدينة طوال أيام التاريخ المصرى القديم.

كما يذكر المؤرخ الجغرافى "استرابو" من بين ما ذكره عن المدينة، مشاهدته للقناة التى تمر بالقرب منها للربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر مروراً بالنيل حيث تحكمت فى مدخلها. كما شاهدها "ديودور الصقلى". وزاد من أهمية وادى الطميلات الاستراتيجية  امتداد هذه القناة فيه، والتى عرفت قديماً باسم قناة "سيزوستريس"، حيث ازدادت أهميتها فى موسم الفيضان فى الربط بين البحرين المتوسط والأحمر عندما ترتفع المياه وتغمر الوادى حتى تتمكن السفن قديماً ذات الغاطس الكبير من مواصلة رحلتها، والتى تابعتها بعد وصولها للشواطئ المصرية الشمالية، ثم تواصل سيرها عبر الفرع البيلوزى أو التانيسى فى طريقها إلى الشرق عبر قناة "وادى الطميلات"، حيث تتجه السفن من "بر باستت" للوصول إلى خليج السويس بعد عبور البحيرات المرة، ثم لتواصل رحلتها البطيئة عبر البحر الأحمر.

ولقد حظت تل بسطه بأهمية دينية كبرى خلال القرن الأول الميلادى عندما حلت العائلة المقدسة "السيد المسيح والسيدة العذراء ويوسف النجار" أرض مصر قاموا بزيارتها وأقاموا فيها.

عاصمة الإقليم

كانت المدينة  فى البداية جزءاً من الإقليم الثالث عشر من أقاليم مصر السفلى طبقاً للقائمة الجغرافية الموجوده على جدران المقصورة البيضاء للملك سنوسرت الأول بمجموعة معابد الكرنك التى أعيد بناؤها بواسطة عالم الآثار الفرنسى هنرى شيفرية، ثم أصبحت عاصمة الإقليم الثامن عشر من أقاليم مصر السفلى (إيم-خنت أى إقليم الطفل الملكى الجنوبى). وعاصمة لمصر كلها فى الأسرة الثانية والعشرين، وكذلك فى الأسرة الثالثة والعشرين. يذكر لبيب حبشى أن تلك الأسر أطلق عليها "الأسر البوباسطيه".

وقد بلغت المدينة قمة ذروتها خلال عصر الأسرة الثانية والعشرين؛ فقد قام الملك أوسركون الأول ببناء صالة أعمدة، كما قام بإضافة العديد من المناظر فى معبد المعبودة باستت، فضلاً عن تشييد معبد صغير للمعبود أتوم.

كما قام الملك أوسركون الثانى بإضافة فناء إلى المعبد الرئيسى بمناسبة احتفاله بالعيد الثلاثينى (عيد الحب-سد).

كما كانت تعرف فى النصوص المصرية باسم "بر باستت" أى "مقر الربة باستت" على اعتبار أنها كانت المركز الرئيسى لعبادة الربة "باستت" التى رمز لها بالقطة. وكانت تسمى أيضاً "بو-با-ستت". وقد جاء اسمها فى العبرية "بى-باست" ومنها التسمية اليونانية "بوباستيس". وقد حرفت كلمة "باستت" لتصبح فى العربية "بسطة" ولكونها منطقة آثرية على شكل تل فقد أصبحت تعرف  "تل بسطة".

المعبودات

معبودات هذا الإقليم "إيزيس"، "باستت"، كما توجد بعض الدلائل على وجود "أتوم". ولكن المعبود الرئيسى للمنطقة هى المعبودة التى تأخذ شكل القطة "باستت".

المعبودة القطة باستت:

ولقد لعبت القطة دوراً كبيراً فى الفكر الدينىى للمصرى القديم، وتميزت بشعبية دينية فاقت غيرها من الحيوانات، وعرفت كهيئة ورمز لعدد من الأرباب والربات، وفى مقدمتها الربة "باستت" حيث عادة ما تصور فى هيئة سيدة لها رأس قطة. ويذكر علماء الحملة الفرنسية فى موسوعة وصف مصر أنه "كانت تدفن فى هذه المدينة مومياوات القطط التى كان يقدسها المصريون بنفس القدر الذى كانوا يقدسون به عجول أبيس، وكما كانوا ينقلون مومياوات هذه العجول المقدسة إلى هرموبوليس فقد كانوا ينقلون مومياوات القطط المقدسة إلى بوباسطة".

ويذكر هيردوت أن هناك احتفال كبير كان يقوم به المصريين، ويوصف هذا الاحتفال قائلاً: "وفى هذا الاحتفال كان الرجال والنساء يسلكون طريق البحر؛ حيث كان ركوب البحر من بين وسائل القدوم إلى المدينة. يبحر الرجال والنساء معاً، ويحمل كل قارب عدداً كبيراً من الجنسين، وتطبل بعض النسوة على الطبول التى بأيديهن، وبعض الرجال يزمرون طول الطريق، أما باقى الرجال والنساء فيغنون ويصفقون؛ فإذا بلغوا أثناء إبحارهم مدينة من المدن جنحوا بزورقهم إلى الشاطئ ويواصلوا احتفالاتهم بنفس الطريقة والناس يفعلون مثل ذلك عند كل مدينة على شاطئ النهر. وعند وصولهم إلى بوباستيس يحتفلون بالعيد، ويقدمون تضحيات عظيمة، ويستهلكون من النبيذ فى هذا العيد أكثر مما يستهلكون فى بقية العام كله. ويبلغ عدد المتجمعين فى هذه المناسبة- وفقاً لقول أهل البلاد- سبعمائة ألف من الرجال والنساء عدا الصبية.

 ومن أهم الآثار المكتشفة فى تل بسطة:

معبد للملك تتى أول ملوك الأسرة السادسة – عصر الدولة القديمة.

معبد للملك بيبى الأول من ملوك الأسرة السادسة. ولم يتبق من المعبد حالياً سوى بعض الأعمدة.

المعبد الكبير للمعبودة "باستت" والذى بدأ فى بنائه منذ عصر الدولة القديمة، واستمرت الإضافات به فى عصر الدولة الوسطى والدولة الحديثة، وأهم ما تبقى منه يرجع لعصر الأسرة التاسعة عشرة لعهد الملك رمسيس الثانى، والملكين "أوسركون الأول والثانى" (من ملوك الأسرة الثانية والعشرين)، والملك نقتانبو الثانى "نخت نبف" (من الأسرة الثلاثين). وقد دمر المعبد تدميراً شديداً، ونقلت أحجاره الجرانيتية هنا وهناك.

ولم يتبق إلا بعض العناصر المعمارية وأجزاء من تماثيل وأحجار عليها كتابات هيروغليفية.

وكان من بين وصف هيردوت لمعبد "بوبسطيس" ما يثبت وجود مجريين نهريين فى المدينة حيث قال: "وهذا فى وصف المعبد: فيما عدا المدخل يقوم على جزيرة، إذ ينساب فى النيل مجريان لا يختلطان ببعضهما، بل يسيران حتى مدخل المعبد، كل على حدة، هذا من جانب، وذلك من الجانب الآخر، وعرض كل منهما مائة قدم، تظللهما الأشجار، والمدخل ارتفاعه عشرة أبواع مزخرف بأشكال، ارتفاعه ستة أذرع، ويقع المعبد فى وسط المدينة ويراه الطائف حوله من جميع الجهات، إذ بينما ارتفعت المدينة بفعل أكوام الطمى، بقى المعبد كما شيد منذ البداية، ولم يلحق به أى تغيير لذا من الممكن رؤيته......".

تمثال من الجرانيت الوردى للأميرة "مريت آمون" من عصر الأسرة التاسعة عشر - عهد الدولة الحديثة.

عدد من المقابر لكبار كهنة المعبودة باستت.

مجموعة أعمدة من العصر اليونانى الرومانى التى تنتمى للشكل الكورنتى.

عدد من الكتل الحجرية التى عثر عليها بواسطة حفائر جامعة الزقازيق وتم تسجيلها ونقلها غلى متحف الجامعة.

بئر تل بسطه يرجع إلى العصر الرومانى - وهو بئر من الطوب اللبن تم اكتشافه عام 1991.

نشاط السكان بـ "بر باستت"

هناك العديد من الأنشطة التى عرفتها "بر باستت" فى العصور المصرية القديمة، ومن أهمهم: نشاط استقبال القوارب والمراكب فى احتفالات معبودتها "باستت" أو مرورها من القناة القديمة التى امتدت منها لتربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط. ونشاط تربية الماشية وقدومها للمدينة كجزء من نشاط سكانها المزدهر والمرتبط بتقديم القرابين لمعبودة المدينة.

المتحف الإقليمي داخل المنطقة الأثرية بـ"تل بسطا"

فى إطار خطة الدولة لوجود عدد من المتاحف الإقليمية بجميع محافظات مصر، تم افتتاح "متحف آثار تل بسطا"  داخل المنطقة الأثرية بـ"تل بسطا" بمدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية. يحتوى المتحف على مجموعة متنوعة من الآثار التى تعود إلى عصور تاريخية مختلفة. وقد تم تخصيص قاعة خاصة بالمعبودة "باستت" بها العديد من تماثيل الآلهة مصنوعة من البرونز.