الجمعة 27 سبتمبر 2024

هل نفهم بعض حقاً؟ أم مشاكلنا جميعا

19-8-2017 | 15:20

بقلم – د. محمد فتحى

لا بأس أن يكون مدخلنا هنا دعابة تخص ممثلنا الفذ أحمد زكى، إذ دخل الرئيس‏‏ حسنى مبارك‏‏ الاستديو الذى يجرى فيه تصوير‏ “ناصر‏٥٦”‏‏ فهرع كثير من الفنانين لمصافحته، لكن زكى وقف فى مكانه دون حراك‏، وعندما ناداه وزير الإعلام‏‏ صفوت الشريف‏‏ لمصافحة الرئيس قام بتبديل ملابسه‏‏ واتجه نحو مبارك‏ قائلا‏:‏ عفوا‏..‏ فقد كنت قبل دقائق‏ عبدالناصر‏، الذى لا أعتقد أنه كان يمكن أن يجرى لمصافحة أحد‏، بل كنا جميعا نهرول نحوه‏.. والرئيس‏‏ مبارك‏ يغادر المكان مر على استديو “ناصر‏٥٦”‏ ثانية، وهرول من هرول، وكان زكى منهمكا فى تمثيل دور ناصر‏ فأشار مبارك له قائلا:‏ “خلى بالك منا يا ريس إحنا أمانة فى رقبتك”‏!

لكن ماعلاقة دعابتنا بما جاء فى العنوان “أم مشاكلنا جميعا”؟

يقضى الواحد منا معظم ساعات يقظته فى التواصل مع الآخرين، ومن هنا فالتواصل أهم مهارات الحياة. ولأن التواصل يكون مع زوجك أو طفلك أو جارك أو رئيسك أو زميلك..، ويدور حول كل أمور حياتنا الشخصية والزوجية والاجتماعية والمهنية و.. فعلى كفاءة هذا التواصل تتحدد حظوظنا جميعا من التوفيق، بل والنجاح والفشل الحقيقيين.

وللتواصل الفعال نواميس إذا اتبعها المرء كان التوفيق حليفه فما هى حظوظ كل منا من اتباع هذه النواميس؟

لا بأس من إيضاح الأمر بحكاية شاعت فى «الأدبيات العلمية للتواصل».

«وضع الطالب النظارة على عينيه لكنها لم تساعده، بل زادت إبصاره سوءا.

كان الطبيب قد استمع إلى الشكوى فى عجلة والتليفون يقاطعه، قبل أن يقبل على تصرف مذهل.. خلع نظارته وهو منهمك فى إحدى المكالمات وناولها للطالب..

- جرب هذه.

تململ المريض وهو يخلع النظارة ويعيدها للطبيب، الذى عاجله فى كرم حاتمى..

- لا عليك يمكنك الاحتفاظ بها فلدى غيرها.

- لكننى لا أرى بها شيئا!

- قل كلاما غير هذا.. أنا أرتديها منذ سنوات، وهى تساعدنى كثيرا بالفعل.

أسقط فى يد الطالب فواصل الطبيب:

- ما خطبك؟ إنها جيدة.. أنا متأكد.. بل هى جيدة جدا.. إننى استخدمها سنوات.. تحلى بالإيجابية وحاول.

كرر المريض المحاولة..».

نستغرب ولا شك ما فعله الطبيب.. لكن كلنا نندفع ونحاول التواصل والتعايش، بل وحل مشاكلنا وإصلاح أحوال من حولنا، على نفس طريقة الطبيب الذى يقدم «نظارته هو الشخصية لمرضاه»! دون بذل الوقت والجهد اللازمين لفهم وتشخيص «أحوالهم» تشخيصا حقيقيا، قبل محاولة تقديم العلاج ، وإن معظم الناس لا ينصتون الواحد للآخر بنية فهم ما يقول، فهم إما يتحدثون أو يعدون أنفسهم للرد. ومن ثم فهم ينتقون مما يستمعون إليه مايتفق مع تصوراتهم الذهنية، ويقرأون سيرتهم الذاتية فى حياة الناس.. «أنا أفهمك»، «أنا أدرك شعورك جيدا»، «لقد مررت بنفس التجربة من قبل. دعنى أقص عليك الحكاية»،.. .

فعندما يتحدث آخر نتعامل مع مايقوله على مستوى من أربعة:

نتجاهله ولاننصت له بالمرة.

نتظاهر بأننا ننصت: «حقا. عفارم. نعم نعم. هذا صحيح».

نمارس الإنصات الانتقائى لأجزاء من حديثه.

نمارس الإنصات اليقظ فنركز طاقتنا على استيعاب كلامه.

لكن القليل منا يمارس المستوى الخامس الأكثر فعالية، الذى يأخذ بعين الاعتبار التقمص الاستبطانى التعاطفى للمتحدث.. ومحاولة النفاذ لنفس الآخر وللرؤية التى يرى بها الأمور، وفهم تصوره الذهنى وشعوره.. ، أى فهمه الكامل والعميق على مستوى المشاعر والعقل، فى إطار مرجعياته هو وليس مرجعياتنا الشخصية. حيث تستمع بأذنيك وعينيك وقلبك. وحيث لايجرى الإنصات لمجرد الرد والسيطرة والتلاعب. وليس بنية مجرد فهم الكلام من منظورنا الشخصى (الكلام لاينطوى إلا على حوالى ١٥٪ من مضمون التواصل والباقى تشكله نبرات الصوت ولغة الجسد و.. ).

وهنا إشارة لازمة إلى أن كلامى السابق ليس مجرد ثرثرة أو تخريجات عشوائية، إذ إن رسالة الدكتوراه الخاصة بى كانت عن نواميس النبوغ، والتواصل من أهمها.. والأسلوب التقمصى الاستبطانى التعاطفى هو بالتحديد ما جعل أحمد زكى اختراقا فذا فى فن الممثل (انظر كتابى الطريق إلى النبوغ السينمائى).. ولا يقتصر الأمر عليه أو على مجال التمثيل، فالأسلوب التقمصى الاستبطانى التعاطفى هو بالتحديد ما جعل يوسف إدريس اختراقا فذا فى فن القصة (انظر كتابى يوسف إدريس). لقد حاول كاتب عربى فذ فى جلاء بصيرته توضيح الأمر وتبسيطه فقال: «وأذكر أن إدريس كان يغيب ونبحث عنه، فنجده بمقهى فى حى المنيرة بجوار كلية الطب، يلعب الورق مع باعة الصحف، ثم يفاجئنا بقصص ممتعة، يصور فيها قاع المدينة بعيون الذين كان يلعب معهم.. وأذكر أنه كان يغيب وكنا نبحث عنه، فنجده عائدا من عزبة «باشا» إقطاعى أو من «لورى» عمال تراحيل.. كان يعيش حياة الناس بصرف النظر عن مستواهم الاجتماعى، أو الفكرى، أو المادى. وكان يستمتع فى كل الأحوال. وكان يفرز فى النهاية الرحيق فى صورة قصص ممتعة»!

ولعل القارئ يعود فيسأل لكن ما دخل «التواصل التقمصى الاستبطانى التعاطفي»، وما دخل النبوغ وهؤلاء الأفذاذ بما جاء فى العنوان «أم مشاكلنا جميعا»؟

إن نتاج تفاعلنا على «طريقة الطبيب الذى يقدم نظارته للمريض» نتاج متدنى جدا، فالسامع لم يفهم والطالب لم «ير»، بل ساوره الشك فى قدرات الطبيب!

بينما إذا أردت التعامل معى تعاملا فعالا ناجحا، يؤثر فى ويجعلنى منفتحا معك- لأنه يجعلنى أثق فيك- ويحل كل المشاكل، ويرتقى بنا سويا، سواء كنت زوجك أو طفلك أو جارك أو رئيسك أو زميلك أو صديقك، ستحتاج إلى فهمى أولا على طبيعتى الحقيقية (وليس مما تخمنه أو يقوله الآخرون.. ). وحين أحس بذلك، أشعر بالقدر الكافى من الأمان، الذى يطمئننى لأن أكشف لك عن تصوراتى وخياراتى وتجاربى ومشاعرى.. .

فحتى يصدقك الآخر ولا يكون دفاعيا فى علاقته معك من الضرورى أن يحس بفهمك له فهما عميقا على مستوى العقل والمشاعر فى إطار مرجعيته، فهذا يلبى حاجة من أهم حاجات الإنسان وهى أن يكون مفهوما ومقبولا ومقدرا (أكبر حاجة لدى البشر بعد البقاء).

وفقط بعد استيفاء هذه الحاجة الحيوية، التى تؤثر على التواصل فى كل مجالات الحياة، يمكن الحديث والتركيز على التأثير والنتاج وحلول المشاكل المعنية.

وهذا النوع من الانصات مهم ومؤثر للغاية لأنه يمنحك بيانات دقيقة تعمل من خلالها. فبدلا من اسقاط سيرتك الذاتية وافتراض الأفكار والمشاعر والدوافع والتأثيرات و.. ، تتعامل مع الواقع الذى يدور فى عقل ونفس الشخص الآخر، فأنت تركز على تلقى تواصل عميق من داخل روحه، ولك أن تتخيل ناتج التواصل آنئذ.

إن الوالد يتجلى حين يحاول الفهم قبل التقييم وإصدار الأحكام. والمعلم يتجلى حين يفهم التلاميذ قبل الشروع فى تدريسهم. والمحامى يتجلى حين يدرس القضية قبل إعداد مرافعته، والمصمم يتجلى حين يدرس عادات المستهلكين قبل تقديم تصميمه.. .

إن مفتاح التواصل الفعال بين الناس هو الفهم الحقيقى المتبادل بينهم.. أن تحاول فهم الآخر، «فهم التقمص الاستبطانى التعاطفى»، لا «فهم إسقاط سيرتك الذاتية على عالمه».

وهذه مشكلتنا الأولى

لأن إلتزام هذا النوع من التواصل يحتاج إلى إعداد وجهد، ولك أن تتصور حجم المشكلة إذا قارنت بين الإعداد الذى نناله كى نجيد «الاستماع والتلقى والتعاطف»، مقارنة بالإعداد لمهارات التواصل الآخرى كالكلام والقراءة والكتابة.. ولأن الفهم الناقص يجعل تواصلنا- العمل الأول فى حياتنا- ذا فعالية متدنية.