الأحد 5 مايو 2024

فى ذكرى وفاته الثانية: نور الشريف.. حين يكون النجم مثقفاً!

19-8-2017 | 15:32

بقلم -أحمد النجمى

وهل هناك تعارض بين أن تكون فناناً عظيما وأن تكون مثقفاً؟ أقول إنه لا يوجد تعارض من الناحية النظرية، أما عملياً فهى نادرة الوقوع.. قليلون من نجوم الفن - دعك من نجوم بقية المجالات - هم من يملكون ثقافة حقيقية.. أو ثقافة بمفهومها الصحيح: أن تكـــــون قادراً على توظيـــــــف ما قرأت وما عرفت لصنع فن مختلف يتصل بقضايا مجتمعك الماسة، وأن تكون لك وجهة نظر حقيقية فى هذه القضايا.. فالمثقف لا تكتمل أدواته إلا بهاتين القدرتين، «نور الشريف» كان واحداً من النجوم القليلين الذين تحققت لهم هاتان القدرتان..!

قبل أيام - تحديداً فى ١١ أغسطس - مضت سنتان على رحيل نور الشريف.. الرحيل الذى لاتزال أصداؤه تزلزلنى شخصياً.. فى تاريخ اشتغالى بالصحافة - عشرين عاماً إلى الآن - عاصرت العشرات من حالات الوفاة التى مزقت قلوب الفنانين والجمهور، لكننى أزعم أننى لم أر ما رأيته من الحزن الذى يعتصر القلوب - ومن بينها قلبى - قدر ما رأيت فى رحيل فنانة مصر والعرب الأولى سعاد حسنى (٢٠٠١) والنجم المثقف (نور الشريف) فى ٢٠١٥.. كان من حظى - لا أدرى إن كان حسناً أم غير حسن - أن رأيت فى أيام رحيل سعاد حسنى فى الصيف القائظ من العام ٢٠٠١ ، كل التفاصيل..بدءا من استقبال جثمانها فى قرية البضائع بمطار القاهرة، ثم فى ثلاجة الموتى بمستشفى الشرطة بالعجوزة ثم دفنها بمقبرتها وسط مقابر الفنانين بالسادس من أكتوبر فى اليوم التالى، شهدت هذه المراحل جميعاً مع أخى العزيز الناقد والزميل الكبير «محمد دياب».. وكان من الأمور العسيرة علىّ وعلى «دياب» أننا كنا مكلفين بتصوير تلك الأمور والكتابة عنها على صفحات «المصور»، جاءت الصعوبة من كوننا بكينا طوال هذه المراحل، وانخرطنا فىالبكاء بوجداننا.. مع الإبقاء - بصعوبة بالغة - على عقولنا يقظة ، لكى نجد ما نكتبه حين نعود إلى بيوتنا..!

الحمد لله.. لم أكلف - صحفياً - بالكتابة عن العظيم (نور الشريف) الذى توفى قبل سنتين، تحاشيت حضور الجنازة والدفن، لم يعد القلب يتحمل كما تحمل على أيام سعاد حسنى.. بكيته فى البيت، ظل صوته فى آخر ما سجله لنا بهذا الصوت يدوى فى أذنىّ، برغم خفوته وضعفه.. صوته فى ختام كليب (مصر قريبة).. حين كان يقول: فى مصر كل الوشوش تعرفك! آخر ما بقى من صوته وروحه وإطلالته كانت تلك العبارة التى تحمل اسم مصر.

لايجرى شىء حولنا بالمصادفة.. ليست مصادفة أن تحمل آخرعبارات نور الشريف المأثورة اسم (مصر)، وقد كان مثقفاً وفناناً وطنياً حقيقياً ، دفع ثمن مواقفه السياسية راضياً مقتنعاً، كان يعلم - جيدا - أن مواقف الفنان خصوصاً إذا كان نجماً يجب أن تصل إلى جمهوره كما تصل أفلامه ومسلسلاته ومسرحياته، بنفس الحضور، ونفس التأثير، ونفس القدرة على التغلغل، ونفس القدرة على التغيير..!

ليس هذا من قبيل «مدح الراحلين» كما هى عادتنا نحن العرب، لقد كان نور الشريف شخصاً عميق الأغوار، قارئاً نهماً، مثقفاً، وطنياً، له مواقفه الحاسمة فى هذا السياق، فضلاً عن كونه فناناً متعدد الوجوه: ممثلاً، ومخرجاً، ومنتجاً!

على المستوى الشخصى التقيته مرتين.. تجسدت فيهما هذه الوجوه، ولاسيما وجه (الفنان المثقف).. الأولى كانت فى خريف ١٩٩٢ بسينما (أوديون) بوسط البلد، ليلة افتتاح فيلمه الأشهر «ناجى العلى» والمرة الثانية فى حوار صحفى لـ«المصور» فىأواخر عام ٢٠٠٥!

فى اللقاء الأول كنت أخطو نحو الـ ١٩ عاماً.. كان فيلم «ناجى العلى» إنتاجاً مشتركاً بين نور الشريف - رحمة الله عليه - وبين الكاتب السياسى القومى اللبنانى «وليد الحسينى»، وكان الحسينى رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير مجلة فنية ذائعة الصيت آنذاك اسمها مجلة «فن»، أغلقت منذ فترة بكل أسف.. وكان والدى رحمة الله عليه الناقد والشاعر «كمال النجمى» يكتب مقالات مهمة فى النقد الغنائى لهذه المجلة، وكان مريضاً ليلة افتتاح الفيلم، فأرسلنى نيابة عنه لحضور الافتتاح..!

ذهبت إلى سينما «أوديون».. وشاهدت نور الشريف يدخل المكان، فيتحلق من حوله الفنانون والنقاد.. قررت - خجلا - ألا أصافحه.. ماذا سأقول له؟ هل أقول: أنا فلان ابن فلان؟ فى الوقت ذاته لم يكن ممكناً مقاومة الإغراء الذى يفوح من فكرة (مصافحة نجم).. حرضنى صديقى الذى ذهب معى (وليد السيد) على المصافحة، فقد كانت معه كاميرا فوتوغرافية، وما إن مر نور الشريف بجوارنا إلى صالة العرض، حتى استأذناه فى التصوير معنا.. لا أذكر أين هذه الصورة الآن، لعلها مع صديقى وليد الذى لم أره - بدورى - منذ ١٥ عاماً ولا أعلم عنه شيئاً..! بعد التصوير قلت لنور الشريف: أنا فلان الفلانى. أبدى اهتماماً شديداً وسألني: والأستاذ كمال ماجاش ليه؟ قلت له: تعبان.. قال لى: بلغ والدك إنى بسلم عليه وناقصنى كتير أوى من عدم حضوره.

ليست هذه ذكرى خاصة، إنها مؤشر على شخصية نور الشريف الذى كان ودودا للغاية وإنسانا يتسع حضنه للجميع.. وبعد هذا اللقاء بأيام.. شن الكاتب الكبير «إبراهيم سعدة» حملة صحفية مروعة ضد نور الشريف وفيلمه، مدعياً أن فنان الكاريكاتير المبدع الفلسطينى الراحل «ناجى العلى» كان يكره مصر، وأن نور الشريف تم بيعه بالدولارات ليعمل ضد وطنه.. كانت حملة عنيفة ومنظمة، وذهب سعدة محرضاً على نور الشريف، وصمد نور للحملة، صمود الوتد للريح العاتية، وذهبت الحملة ضده فى الهواء، وظل نور الشريف نجماً عظيماً.. بل ازدادت مكانته رسوخاً، فقد سجل فى تاريخه فيلماً من أهم الأفلام التى جسدت مأساة فلسطين العربية عبر (ناجى العلى) وبقى هذا الفيلم واحداً من أهم أفلامه! نفس البساطة الآسرة التى رحب بى من خلالها هى نفس البساطة التى استقبل بها هجوم إبراهيم سعدة عليه.. انتصر فى معركة (ناجى العلى) بصمته العظيم، فقد كان يعرف أن القارئ يعلم الأسرار الحقيقية وراء الهجوم عليه، وأن الفيلم سيبقى ويخلد فى تاريخ السينما العربية !

بعد ذلك بثلاث عشرة سنة التقيتـــه لنجــــرى حـــــــواراً مطــولاً لـ «المصور».. يومها اكتشفت كم كان مثقفاً موسوعياً، قرأ الأدب المصرى والعربى والأجنبي، عظيم المعرفة بالمسرح بجميع عصوره وأجناسه، ليس فقط لأنه كان أول دفعته فى المعهد العالى للفنون المسرحية (دفعة عام ١٩٦٧)، ولكن لأنه كان محباً للقراءة والتثقيف الذاتي، حكى لى - خارج الحوار - عن دهشته من وجود سيرة شعبية للسلطان المملوكى (الظاهر بيبرس) وعدم وجود سيرة لقطز ولا لصلاح الدين الأيوبى، وحكى لى جانباً من ذكرياته مع فيلم لم ير النور اسمه (الظاهر بيبرس) كان من إنتاج كازاخستان - عام ١٩٩٠ - ومن إخراج مخرج كازاخى مهم اسمه (منصوروف) ، وصف لى نور الشريف جمال (كازاخستان)، وكيف توقف تصوير الفيلم الذى كان يجرى إعداد نسختين منه - إحداهما بالروسية وإحداهما بالعربية - بسبب سقوط الاتحاد السوفييتى.. وروى له قراءاته عن مقتل قطز على يد بيبرس.. خارج الحوار أيضا حكى لى عن قراءته لشيخ الرواية العربية نجيب محفوظ - وقد كان له نصيب موفور من تمثيل أعماله فى السينما - وربط نور بين محفوظ وبين عاطف الطيب.. قال لى: الطيب هو نجيب محفوظ المخرجين.. اكتشفت كم كان نور يحب عاطف الطيب، ويفهم عمق موهبته كمخرج، ويدرك الانتماء الثقافى والانحياز الاجتماعى للطيب الذى غادرنا - فجأة - بالموت سنة ١٩٩٤.. ذكرته بلقائنا العابر قبل هذه الجلسة بـ ١٣ عاماً، فقد كان عاطف الطيب هو مخرج (ناجى العلى)، واستمر لقاؤنا نحو ثلاث ساعات، منها أكثر من ساعة خارج التسجيل، عرفت من جانبها حجم ثقافة نور الشريف، وإيمانه بحرية الفنان، وضرورة ارتباط الفنان بقضايا مجتمعه، وعرفت انحياز نور الشريف لفكرة الثقافة كرافعة للمجتمع ككل، وانحيازه للعدل الاجتماعى كذلك..!

ربما لا يعرف كثير من مشاهدى الفنان العظيم الراحل هذه الجوانب فى شخصيته.. وهناك أجيال من الشباب الآن استيقظ وعيها فوجدت نور الشريف يقدم مسلسلا مثل (عائلة الحاج متولى)، ولا يعرفون عنه إلا هذا العمل.. أحيانا كان نور الشريف يضطر إلى تمثيل أعمال بالمقاييس التجارية البحتة، أى أعمال مضمونة النجاح! بما لا يتعارض مع قيمه الاجتماعية والثقافية أذكر أنه قال لى هذا.. وأضاف أن الحاج متولى - فى النهاية - ضد ثقافة تعدد الزوجات وليس العكس..! هذا الجمهور الذى عشق الحاج متولى لم يشاهد أعمالاً زلزلت الدنيا حين عرضت على الشاشة الكبيرة فى صالات السينما.. حسبك منها دوره شديد التركيب فى فيلم «السراب» - ١٩٧٠ - مع ماجدة وعقيلة راتب وتحية كاريوكا عن رواية العظيم نجيب محفوظ التى حملت الاسم ذاته.. ولا دوره فى بقية الأعمال المأخوذة عن نجيب محفوظ : «الكرنك» - ١٩٧٥ - و«المطارد» - ١٩٨٥ - و«قلب الليل» فى ١٩٨٩.. ولا مسلسل (السيرة العاشورية) - ١٩٩٩ - وهو أول قصة من قصص ملحمة «الحرافيش» المحفوظية العشر، وهو المسلسل الضخم الرائع الذى يبدو أن التليفزيون المصرى قد نسيه.. ! لا يعرف الشباب - إلا قليلاً - فيلمه (عصفور الشرق) المأخوذ عن «توفيق الحكيم» والذى ظهر فيه الحكيم ممثلا لأول مرة وآخر مرة فى عدة مشاهد (١٩٨٥)، نور الشريف هو الذى صنع أعظم أفلام الموجة السينمائية الجديدة فى أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات.. سمير سيف وداود عبدالسيد ومحمد خان.. فمع سمير سيف صنع فيلمه الشهير «دائرة الانتقام» ١٩٧٩، ومع محمد خان صنع رائعته الأولى «ضربة شمس» ١٩٨٠ ومع داود عبدالسيد صنع فيلمه خطير الشأن «الصعاليك» ١٩٨٣.. لقد كان نور وراء اكتشاف مخرجين كثيرين وأنتج عبر الشركة التى كان يملكها أفلاماً لبعض منهم..! ومع شيخ المخرجين العرب الفنان الكبير الراحل (يوسف شاهين) صنع نور الشريف درته الساطعة (حدوتة مصرية) فى العام ١٩٨٢، ثم (المصير) بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات.. لقد أخرج وأنتج أفلاما مهمة وقام ببطولة عدد ضخم من الأفلام التى دخل معظمها دائرة كلاسيكيات السينما المصرية، وإذا كنا قد ذكرنا له مع الراحل الكبير عاطف الطيب فيلم (ناجى العلى) ١٩٩٢، فإننا لا يمكن أن ننسى أنه كان بطل أول أفلامه «الغيرة القاتلة» ثم «سواق الأتوبيس» - بكل ما لهذا الفيلم من تأويلات ومستويات متعددة فى القراءة وكل ما له من قيمة فنية - وصولاً إلى آخر أفلام الطيب «ليلة ساخنة» مع لبلبة فى أهم أدوارها على الإطلاق (١٩٩٣)، واللقاء الوحيد الذى جمع نور الشريف بشيخ الدراما العربية الأستاذ الكبير «أسامة أنور عكاشة» كان عبر فيلم «دماء على الأسفلت» الذى أخرجه عاطف الطيب أيضا قبل «ليلة ساخنة» بنحو عامين..! ولعل الجمهور يتعلق إلى الآن بفيلمه «حبيبى دائما» مع زوجته السيدة «بوسى» فى عام ١٩٧٩، لقد سألت نور الشريف عن جنوحه إلى الرومانسية الشديدة فى هذا الفيلم.. فقال لى إنه كان يريد أن يذكر الناس بالحب الرومانسى والجوانب الشفافة فى أرواحهم بعد هجوم منتجى تلك الأيام على السينما - بفلوس «الانفتاح الاقتصادى» - عبر أفلام تحرص على الجوانب الجسدية وحدها..! لم يكن - إذن - مجرد فيلم رومانسى شفاف كما يظن عشاق هذا الفيلم إلى الآن.. كان نور يحاول التعبير - مجددا - عن وجهة نظره فى كل ما يحدث !

رحل نور الشريف قبل أن يكمل السبعين من عمره، وأجدنى - ويجد كتاب آخرون أنفسهم أيضا فى حالة اندفاع إلى الكتابة عن هذا الرجل، الذى خرج من حوارى السيدة زينب ليلعب دوراً أساسياً فى تقديم رسالة سينمائية تدفع مجتمعه إلى الأمام، رسالة تأسست على أرضية ثقافية راسخة، يكفى أن نعلم أن أول من قدم نور الشريف هو مثقف راحل وفنان عظيم من جيل الأساتذة الكبار هو المخرج والممثل العملاق الراحل «سعد أردش» فى مسرحية الشوارع الخلفية التى أخرجها أردش عام ١٩٦٧، وهى بالطبع عن نص الأديب الكبير الراحل «عبدالرحمن الشرقاوى».. هذه بدايته فى المسرح: عمل من كلاسيكيات عبدالرحمن الشرقاوى المثقف رفيع الطراز، ومن إخراج مبدع رائد كسعد أردش.. أما فى السينما فكان أول أفلامه (قصر الشوق) الذى عمل فيه حين رشحه الزعيم «عادل إمام» للمخرج الكبير «حسن الإمام» للعمل فيه (١٩٦٨).. كل من دفعوا بنور الشريف، كانوا أصحاب قامات ثقافية عملاقة وأسماء رفيعة فى المجال الفنى، كانوا يعلمون أنهم يدفعون بنجم مثقف سيظل يشكل علامة فارقة فى سجل الفن المصرى والعربى والإنسانى.. اسمه نور الشريف.