الأحد 16 يونيو 2024

صناعة إنسان.. تلك هى المشكلة

19-8-2017 | 16:08

بقلم – طه فرغلى

الإنسان جوهر التقدم والنهضة، خلق ليعمر ويبنى، ولكن فى الأصل قد يكون الإنسان نفسه الأزمة والمشكلة.

أزمتنا الحقيقية ومأساتنا الكبرى الإنسان أو بمعنى أدق الفشل فى صناعة إنسان بمواصفات قياسية توصل إليها العالم ولن نخترعها. بناء الحجر لا يحقق تقدما، والأمم لا تنهض بمشروعات ومصانع إلا إذا تزامن ذلك مع صناعة ثقيلة تمثل القاطرة الحقيقية للتقدم والنهضة “ صناعة الإنسان” ، وهو أمر ليس بالهين أو اليسيرلأنه مقياس التحضر، تحضر الدول يقاس بسلوك مواطنيها.

نبحث ونجهد أنفسنا ونفكر فى أسباب كارثة قطار الإسكندرية، نلقى التهم يمينا ويسارا، نتحدث عن قطارات عمرها الافتراضى انتهى، وصيانة غائبة، نبحث عن متهم نلقى عليه التهم لنريح ضمائرنا، والحقيقة واضحة وضوح الشمس المتهم “إنسان”، إنسان لم يعتد الانضباط والالتزام كائن فوضوى يسير بالبركة، العشوائية تحكم سلوكه لا يأبه بمسئولية ولا يقدر حجم التزام شعاره “ أهى ماشية والسلام”، نموذج فى كل قطاع وكل مؤسسة وكل مصلحة.

الإنسان هو الأزمة ، هو الكارثة بكل أبعادها .. كيف تنهض أمة أو تتقدم ومواطنوها يعشقون الفوضى والعشوائية لا يلتزمون بقانون أو لائحة، يكرهون الانضباط ، لا يقدرون قيمة الوقت ، ولا يحترمون عملا.

عندما قالوا بناء البشر قبل الحجر لم يكذبوا بل كان أصدق تعبير عن الحقيقة، كيف نبنى الحجر ولا نبنى قبله الإنسان الذى سيكون مسؤولا عن هذا الحجر؟.

الصينيون عندما أرادوا أن يعيشوا فى أمان بنوا سور الصين العظيم أحد عجائب الدنيا السبع واعتقدوا أنه سيحميهم من العدوان لأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدة ارتفاعه ، ولكن خلال ال١٠٠ سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات، وفى كل مرة لم تكن جيوش العدو فى حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه بل كانوا فى كل مرة يدفعون للحراس رشاوى ثم يدخلون عبر الباب، انشغل حكام الصين ببناء السور ونسوا بناء الإنسان الذى سيحرس السور.

تجارب الأمم الناهضة والمتقدمة كلها تؤكد أن بناء الإنسان هو الأهم، هو الضمانة الحقيقية لأى تقدم.

إذا نجحت الدول التى تريد التقدم فى صناعة إنسان حقيقى بمعايير ومواصفات جودة عالية ستضمن هذه الدول تقدما حقيقيا.

“ لم يكن دورى أن أغير سنغافورة، كان دورى أن أغير الإنسان السنغافورى وهو يغير سنغافورة” جملة عبقرية قالها الأب الروحى لسنغافورة “ لى كوان يو” قبل أكثر من نصف قرن من الزمان واستطاع أن يجعل من سنغافورة الدولة التى بلا موارد نمرا اقتصاديا فى جنوب شرق أسيا.

اليابان التى خرجت من الحرب العالمية الثانية دولة أشباح استطاعت ان تصبح من أهم القوى الاقتصادية فى العالم وتحقق نهضة غير مسبوقة لأنها اعتمدت على بناء الشخصية اليابانية التى كانت أحد المحاور الرئيسية فى النهضة، ونظرا لعدم توفر مصادر الثروة الطبيعية فى اليابان بموقعها الجغرافى النائى فى العالم ، كان العنصر البشرى هو عماد التنمية وركيزته الأساسية فى النهضة الحديثة، وتحول اليابانى إلى شخص منضبط يقدس الوقت، ويحترم النظام، ويبدع ضمن فريق عمل، ويلتزم بأخلاقيات العمل وأمانته.

بناء الإنسان وصناعته هى الإشكالية الكبرى التى تواجه الدول التى لديها رغبة حقيقية فى إحراز خطوات فاعلة على طريق التقدم، كيف نبنى إنسانا يحترم الآخر ويقدره، يحترم العمل ويقدر قيمته، ولا يخون الأمانة، يحب الإنجاز، يحافظ على المال العام، يشعر أنه جزء مهم فى بلد يحترمه ويقدره؟ ! هذه هى المعضلة والمسألة التى إن نجحنا فى الإجابة عليها قد يتغير الواقع المرير الذى نعيشه.

لا يمكن بأى حال من الأحوال أن نقلل من الإنجاز الذى يحدث على مستوى المشروعات القومية والاستراتيجية، ولكن لابد أن يتزامن ذلك مع مشروع قومى لا يقل أهمية عن المشروعات التى تنفذ “مشروع بناء إنسان”.

الأمر ليس مستحيلا أو ضربا من الخيال، كل ما نحتاجه إرادة حقيقية وقوية ، حتى إن استغرق الأمر سنوات طويلة ، المهم البداية، أن نبدأ يعنى أننا سنصل إلى طريق النجاح ذات يوم، خاصة وأننا لن نبدأ من الصفر كنا فى سنوات سابقة من أعظم الأمم وأشدها تحضرا ورقيا، سنوات ليست بالبعيدة كان المظهر الحضارى هو الذى يغلف صورها التى ننظر إليها بحسرة ونقول ليتها تعود. الأمر لا يتعلق بإرادة فردية حتى لا يقول قائل فليبدأ كل منا بنفسه ، القضية أكبر من الأشخاص وأعمق من الأفراد، هى قضية أمة ومجتمع أزمته الرئيسية غياب الإنسان المتحضر الراقى الذى هو عنوان لأى تقدم، القضية تحتاج كما قلت إرادة دولة ومشروعا قوميا يكون منتجه الحقيقى “إنسان”.