الأحد 24 نوفمبر 2024

مقالات

إحسان عبد القدوس.. ابن الست!


  • 10-2-2023 | 19:24

رشدي الدقن

طباعة
  • رشدي الدقن،

في طرقات روز اليوسف، نعيش المجد، نتنفس موهبة وتألق أجيال وضعت بصمتها في تاريخ مصر، نشعر بالفخر والزهو وتطال رأسنا السماء كلما جاءت سيرتهم، لو أحببنا أن نحصر من عاشوا في ذاكرتنا وذاكرة العالم العربي وكانوا الأشد تأثيرا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي كله وليس فقط على مدار التاريخ المصري منذ دخلت الصحافة القاهرة لن تكفينا عدة مجلدات لذلك لم ننبهر كغيرنا عندما احتفل محرك البحث الأشهر «جوجل» بإحسان عبد القدوس.. فالاحتفال الذي رآه غيرنا انتصارا، رأيناه حقا وواجبا تأخر كثيرا.

نعم لم نفاجأ بإطلاق احتفاء خاص بالأديب القدير الراحل إحسان عبد القدوس، يوم الأربعاء 4 يناير والذي لا يصادف أيا من ذكرى ميلاده أو رحيله وإنما كان بمناسبة إصدار أول ترجمة إنجليزية لإحدى روايته الشهيرة وهي تلك المعنونة بـ«لا أنام» بعد مرور أكثر من 70 عاما منذ كتابتها في الخمسينيات خلال القرن الماضي.

الكتابة عن إحسان عبد القدوس أشبه بمغامرة محفوفة بالمخاطر فمن أنا حتى أكتب عنه؟! الكتابة عن ابن الست «روزا» كحد سكين قاطع من طرفيه، قد تقتل به نفسك بأسرع وأقوى من حتى لحظة الشعور بالألم.

انتابتني الحيرة والأرق أسبوع كامل منذ كلفتني العزيزة العريقة مجلة «الهلال» كتابة مقال عن إحسان عبد القدوس فلم أذق طعم النوم، فكرت في الاعتذار أكثر من التفكير عن أي شيء أكتب عن الرجل الذي نراه أسطورة مكتملة لا يجرؤ أي منا التفكير في الاقتراب من جزء صغير مما حققه في السياسية والصحافة والرواية والسينما ولا حتى في شياكته وأناقته ووسامته واعتزازه بنفسه.

من أي مدخل أذهب إليك يا رئيس.. كان السؤال يؤرقني.. ومن أي مرحلة أو منطقة في حياتك أبدأ.. وماذا سأضيف لرجل كان ملء السمع والبصر.. الكتابات عنه لم تتوقف حتى قبل الرحيل.. ولن تتوقف فهناك كثيرين يعدون الآن مشروعات كتب عن الرجل.. وهناك أبناء له حقيقة ومجاز يكتبون – زميلنا محمد إحسان عبد القدوس – نموذج مهم ففي مقالاته يكشف جانبا من شخصية الرجل في بيته ومع كل مقال تكتشف أنه لا جديد هذا هو إحسان عبد القدوس ظاهره كباطنه، حياته الشخصية لم تبتعد قيد أنملة عن حياته الصحفية والروائية، ما يؤمن به من حريات يطبقها في بيته كما ينادي بها ليعيش شخصيتين أبدا.

كيف تكتب عن رجل حلمك أن تنال 10 % مما ناله ذكاء وشهرة وتأثير سياسي وفني وروائي، كيف تصل لقمة الجبل الذي فتحه بنفسه وتربع على قمته ثم ألقى بالمفاتيح في بحر لا نهاية له، وترك لنا فقط الوقوف في سفح الجبل نتأمل العظمة ولا نملك سوى الإعجاب.

ماذا تكتب عن رجل عاش في الوقت الذي لا يمكن أن تجد فيه شخصًا يُصَرِّح باسم أُمه، وكانت مصر كلها تعرف أمه شَخْصِيًّا، وليس اسمها فقط.

هل تكتب عن علاقة الست روزا بالابن إحسان والتي لم تكن مجرد علاقة ابن بأمه، ولماذا رغم حب إحسان الشديد لأمه تُمْنَى ألا تكون زوجته مثلها، ورفض أن يكتب قصة حياتها للسينما رغم كثرة الإغراءات التي عُرضت عليه، وتزوج دون علمها، فلم تحضر فرح ابنها الوحيد.

أم تكتب عن الست التي كان لا يوجد في قلبها سوى "سانو" الاسم الذي اعتادت أن تناديه به... إلا أنها منذ مولده قبل شهرين وثمانية أيام من ثورة 1919، لا تجلس معه إلا في أوقات فراغها القليلة، وأحضرت له مُرضعة، وتركته لعمته تتولى رعايته، وكانت تجلس في المجلة روز اليوسف أكثر من جلوسها بجواره، ولم تجتهد حتى في البحث عن اسم له، فقد قررت قبل أن يولد أن يحمل اسم واحدة من صديقاتها اسمها إحسان.

هل تبدأ مقالك عن إحسان ببداياته المرتبكة المربكة... تلك البداية التي كانت حديثا تندر به هو نفسه على نفسه... عندما قال "ماما بتسلم عليك وبتقول لك أدينا أخبارا!... كانت هذه أول جملة قالها إحسان عبد القدوس في أول يوم عمل له في الصحافة... قبلها السيدة روزاليوسف قالت له: روح هات أخبار!

الأسطورة إحسان عبد القدوس لم يكن يعرف كيف يحصل على خبر، لكن كان هذا هو شرط والدته من أجل أن تسمح له بالنشر في المجلة... عليه أن يثبت صلاحيته لمهنة الصحافة... وأول شروط الصلاحية... جلب أخبارا للمجلة.

صلاح حافظ أسطورة أخرى من أساطير روزاليوسف كتب عن الواقعة بقلمه الرشيق فماذا قال؟

لم يجد إحسان حجة يعتذر بها عن هذه المهمة، فمصادر الأخبار في تلك الأيام كانت تتلخص في رجال السياسة والحكم، وهو يعرف معظمهم منذ كان يحبو، ويخاطب بعضهم بلقب «عمى»، وهم الآن جميعًا في الإسكندرية، وفي فندق واحد يجمعهم كل صيف: فندق «سيسيل» الذي كان عاصمة الدولة المصرية طوال أيام الحر، وما على "إحسان" إلا أن يسافر إليهم هناك، ويجلب ما يشاء من أخبار.. سافر إحسان مرغم، ووحده لأول مرة، وبات ليلته وهو حائر لا يدري ماذا سيفعل غدًا.. وفي الصباح التالي نزل إلى صالة الفندق وهو لم يعرف بعدا ماذا سيفعل.

وكان يستبد به إحساس طفل تاه في مدينة الملاهي... ثم فجأة وقع بصره على حسين سري باشا، وكان يجلس مع عدد من أقطاب الحكم حول مائدة الشاي، فاتجه إليه مترددًا، وما كاد الرجل يلمحه حتى رحب به، ودعاه إلى الجلوس معه... وتشجع إحسان فاقترب منه... وصافحه ثم قال: ماما بتسلم عليك وبتقول لك أدينا أخبارا!

وانفجر الرجل ضاحكًا، وسرت العدوى إلى الجالسين معه. ووقف إحسان حائر لا يدري كيف ينسحب من هذا الفخ الذي وقع فيه... لكن سذاجته هذه كسبت قلوب الجميع، فإذا بهم يأمرونه بالجلوس، ويملون عليه رصيدًا هائلًا من الأخبار، ويتبارون في تزويده بما لم تعرف الصحف الأخرى من الأسرار.

وعاد إحسان يومها إلى القاهرة، وقدم إلى والدته حصيلة من الأخبار تؤكد أنه مخبر صحفي موهوب بالفطرة، لكنه، في قرارة نفسه كان يشعر بأنه سقط في أول امتحان.
هل أبدأ الكتابة عن سانو من 9 أغسطس عام 1945 عندما نشرت مجلة «روز اليوسف» مقالًا للصحفي الشاب «إحسان عبد القدوس» يهاجم فيه السفير البريطاني بعنوان: «الرجل الذي يجب أن يذهب».

وجاء في التفاصيل: «من حق إنجلترا أن تتمسك بفخامة اللورد «كيلرن» سفيرًا لها في مصر، ولكن من حق مصر أيضًا أن تطالب بسحبه من منصبه، وإبداله بغيره، فقد فشل في مهمته كسفير لبلده لدى بلد آخر مستقل له سيادة».

وواصل إحسان حديثه عن السفير البريطاني قائلًا: «أعطى لنفسه حقوقًا فاقت حقوق المندوب السامي في بلد مستعمر؛ فالرجل الذي اقتحم قصر عابدين على رأس فرقة من الدبابات ليس سفيرًا، ولا مندوبًا ساميًا، إنما هو قائد جيش معتدٍ».

وقبل أن يخرج عدد مجلة «روز اليوسف» الذي يحوي هذا المقال، صدر قرار من رئيس الحكومة «محمود فهمي النقراشي» بمصادرته، لأنه يتضمن عيبًا في سعادة سفير بريطانيا.
ولم يتم الاكتفاء بمصادرة العدد، لكن صدر قرار بالقبض على «إحسان عبد القدوس»، ووضعه في السجن بدعوى أن المقال تسبب في إفساد العلاقات بين مصر وبريطانيا.

ومرت شهور، وخرج إحسان من السجن، وقالت له والدته: «إن كل رؤساء تحرير الصحف قد تعرضوا للسجن، وما دمت قد سُجنت، فإنك بذلك تكون قد قدمت أوراق اعتمادك لرئاسة التحرير».
ووقعت «فاطمة اليوسف» قرار تعيين «إحسان عبد القدوس» لرئاسة تحرير «روز اليوسف»، وسمحت له أن يدخن أمامها، ولم يكن قد أتم عامه السابعة والعشرين.

هل أكتب عن محاولات الاغتيال الكثيرة التي تعرض لها بسبب عمله الصحفي، وأولها كانت بسبب مقالة سياسية هاجم فيها الأمير عباس حلمي الثاني، واتهمه بالفساد، ونجا من تلك المحاولة بأعجوبة... أما المحاولة الثانية فجاءت بعد نشرة مستندات تؤكد تورط القصر الملكي في صفقات أسلحة فاسدة عقب حرب 48، واتهم فيها عضو بالأسرة الملكية، فتعرض لمحاولة اغتيال عقب خروجه من أحد مطاعم وسط البلد بالقاهرة عام 1951، حيث ضربه أحد الأشخاص بآلة حادة سببت له جرحًا قَطْعِيًّا بالرأس والجبهة.

المحاولة الثالثة بعدما توجه لتغطيته حادث الاعتداء على منزل مصطفى النحاس باشا لجريدة الزمان المسائية، وتعرض له شباب حزب الوفد يقصدون قتله، وأنقذته زوجة عبد العزيز البدراوي التي خرجت من شقتها ومعها أولادها وصرخت في شباب الوفد، وجذبته إلى داخل الشقة وأغلقت الباب، وظل شباب الوفد خارج المنزل حتى آخر الليل مهددين "إحسان" بالقتل، فاضطر للهرب من فوق سطوح العمارة من بيت إلى آخر حتى نزل إلى شارع قصر العيني.

أما المحاولة الرابعة فكانت بأوامر من الرئيس الراحل معمر القذافي، بعد سلسلة مقالات كتبها إحسان عبدالقدوس تنتقد سياساته، لكن قوات من أمن الدولة، فرضت الحراسة أمام منزله... فتغيرت الخطة وتم تكليف طالب ألماني بقتله في حادث سيارة وبالفعل صدمه بسيارته أمام منزله فىفيلزمالك وتم نقله إلى المستشفى مصابا بعدة كسور وارتجاج في المخ.

هل أكتب عن علاقة إحسان عبدالقدوس بالضباط الأحرار وكيف كان صديقا لأهم الضباط الأحرار قبل الثورة وكانوا يعتبرونه واحداً منهم، جمال عبد الناصر يأتي إلى روز اليوسف لزيارته، وهو يناديه جيمي.. وأنور السادات، يعمل معه في روز اليوسف ودار الهلال.. على أن هذا القرب لم يمنعه من قول وكتابة رأيه بمنتهى الأمانة رأيه بٕخلاص واستقلال ومهنية فى مقال «الجمعية السرية التي تحكم مصر» والذي كان سبب في اعتقاله، وظل في الحبس الانفرادي 90 يوماً.

وعن تلك الأيام كتب إحسان عبدالقدوس: «وحدي داخل الزنزانة دون إنارة، ولا أغادرها إلا مرة واحدة في الصباح إلى دورة المياه، وكان عذابي كبيراً، عذاب البعد عن أسرتي ووالدتي ومجتمع روزاليوسف وقراءة الجرائد».

خرج إحسان من السجن، بعد أن «اتربى» كما قال له عبد الناصر نفسه... فبعد ساعة من وصوله إلى البيت دق جرس التليفون، وكان عبد الناصر على الطرف الثاني من الخط، يسأله: تربيت ؟ فيجيب: إذا كان الأمر خاصاً بالتربية فقد تربيت فعلاً، لكن لا أدري ما هو الشيء الذي تربيت بسببه؟

ويضيف: «ذهبت لدعوة الإفطار مع الرئيس عبد الناصر ثاني يوم الخروج، فلم أجد نفسي أعامله كالماضي حين كنت أناديه يا جيمي»، بت أفسح له الطريق ليتقدمني، وأناديه سيادتك في تلك اللحظة فقط أدرك المسافة بين المواطن، مهما كان لامعاً، وبين الحاكم، مهما كان صديقاً.. فبعد عام واحد تم إلقاء القبض علي ثانية بتهمة محاولة قلب نظام الحكم وظل في السجن الحربي 3 أسابيع.

هل أكتب عن إحسان عبد القدوس الذي لم يتعلم الدرس كما قال هو نفسه وظل وفيا مخلصا لمهنته فبعدها بسنوات نشر مقال في الٔأهرام انتقد فيه السادات تحت عنوان «تساؤلات حول خطاب السادات» قرر السادات عزله من رئاسة تحرير الأهرم.

عذرا... لن أستطيع الكتابة عن القيمة والقامة والتوالتيأجد لقبا يستحق أن أكتبه قبل اسمه... فقط هو إحسان عبد القدوس فهو أكبر من كل الألقاب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الاكثر قراءة