هدى يونس
تخيلته عن بُعد، غارق فى أوراق يتفحصها.. عند اقترابى تأكدت .. يرتدي ملابس مغايرة، تحمل كثيراً من الألوان ، جاكيت أصفر، قميص أزرق لون السماء، بنطلون كاروه، كوتشي، تفتقد جميعها للنظافة ، عدا شعر رأسه الرمادى اللامع ويداه شديدتا البياض!!
***
وجدتُ خطو يُبعث بصحوة انطلاقى نحوه.. وخطو ابنتى يتراجع.. تجذبنى بقوة للخلف لنبعد .. ونعبر الطريق إلى الرصيف الآخر..
انقسم علىّ نفسى: الأولى تميل إلى إرضاء ابنتى ، والأخرى تُصر أن تكون بقربه!! ينازعنى البعد والقرب.
تبحث الأولى عن مبرر لإقناع ابنتى ولاتملك يقيناً ، والأخرى تستعيد مرات اللقاء وإشارات يده التى كثيراً ما تجاهلتها!
سقطت أوراقه على الأرض انكب يجمعها .. وعند استقامته تقابلت العيون ، وضع الأوراق على عجل تحت إبطه.. ودهشة تملأ عينيه المفتوحتين على اتساعهما ، وهو يخطو ويتقدم ، ويده تشير كى نجلس.
***
تجذبنى ابنتى من يدى لنبعد.. أهمس "لاخوف من إنسان غارق داخل عالمه" ترد بعصبية خائفة : كيف وهو مشغول باستقبالنا؟
أتقدم وابنتى تشدنى للتراجع .. خطونا المرتبك سرب إليه مخاوف أخافتنى وتجاهلتها.. استمر تقارب مغناطيسى يحافظ على المسافة بيننا..
وقف ثابتاً يسد الطريق ويشير بإصرار أن نجلس ، وأنا أشير كى نعبر لتطمئن ابنتى.. داخلى يحرضنى على التواجد معه .. ولإنهاء الجمود الذى أوقف الزمن .. جلست على دكة الانتظار بجوار محطة المترو .. لم يكن غير ثلاثتنا.
تكوم على نفسه ، يتقوقع ، ويبعد ، ويبعد حتى سقط على الأرض وأسند ظهره على أرجل الدكة... وجهه يلامس أوراقه ، ربما داعبه ملله بتقطيع الأوراق بتأن ، ويضعها بحرص فى جيوبه ، تتأمل ابنتى ما يدور ونشاركه الصمت.
بعد اكتمال مهمته..اتجه بخطوات رشيقه إلى المساحة المتسعة .. وقف وسطها على أطراف أصابعه فى وضع الاستعداد للطيران .. عادت أقدامه تستقر على الأرض ، وملأ كفيه بقطع الأوراق .. وعاد لوضع الطيران ورفع ذراعيه وفتح كفيه ، تتطاير أسراب طيور ورقية.. يتابع صعودها ويشير لها كى تعلو . وعندما اطمأن لصعودها .. عاد إلى الأرض وملأ الكفين من جيوبه.. و فى وضع الطيران حرر طيوره .. تصعد وتصعد .. ويعاود ..
بعد انتهاء مراسم طيران أسراب طيوره وقف متأملا اكتمال تحلقها تجاه بوابة السماء.. تنفس بعمق وحرك أقدامه وصوته يتناغم مع حركته بما لا ندرى كلمات هي أم لحن ، انتظمت حركة الأقدام ويداه تشكل الفراغ.. بدأ الجسد رقصته التى استوقفت عابرين احتلوا الدكة.. وآخرون وقفوا .. عربات ركنت ونزل من فيها.. حركات الراقص مرنه تؤكد قدرة صاحبها وتحديه للزوال..
يقفز على غير توقع.. ويعود إلى الأرض وينحنى يهامسها.. ثم يعاود تشكيل حركات صعبة يؤديها بخفة ومهارة.. يتكاثر الجمع وهو منصرفاً مندمجاً فى الرقص.
على غير توقع اقترب من جلستنا ، وقف انتباه ورفع يده بتحية عسكرية جادة.. نظر إلى ابنتى فابتسمت.. تراجع إلى المساحة المتسعة ، يعاود الجسد الرقص ، يعلو ويعلو معلقاً فى الفضاء.. أتساءل: هل يصعد سلماً خفياً لا نراه؟ يعود إلى الأرض.. يؤدى أوضاع صعبة، وحركات مبتكرة تصنعها ذاكرة بكر يميزها رقة ورقي بما يفعل..
يتحرك بهدوء وتتصاعد الحركة تبث الأرض تحذيراً أو عزفاً خاصاً..
يعبر سماوات ، وتعود الحركة للأقدام وتتجدد وتنتشر بسرعة لباقي الجسد فيرسم أشكالاً فى الحيز الفراغي الذى ضاق وحاصره.. ظلت حساباته قائمة ، تحافظ بفطرة إيقاعية على المسافة بينه وبين الآخرين محترماً تواجدهم ومنصرفاً عنهم!! تعليقات تعقب صمت الانبهار ، ربما يسمعها أو لا يسمعها..
تخترق نظراته جموع الخلق المتجمهر وتصل إلينا بهمس لا نعلمه.. ويشملنا الصمت. اقتحم الجسد حركات هذيان عاشق يحمل سحراً لا يحويه قاموس لغات أو معجم!! يتوقف الرقص وبدون توقع !!
يسترد أنفاسه ، وعيونه تومض فى عزة كبرياء تحاور سمائه وتعانق وجدان الملكوت ، تعود الحركة ثانية .. أفواه الجمع مفتوحة مأخوذة بما تراه الأعين .. ربما لم يتخيل ما يصنع وجاء إليه الرقص طواعية من وحي اللحظة ، وأعلنت الأرض تبعيتها لفؤاده.
تتلاقى عيونه بمن لا يعرفهم ثم يغيب.. بحركات تجنح أحياناً لشطط يتوغل ، يملأ ساحة الأفق ويمس الروح ، يفيق ويتحكم بحرفية راقص متمكن.. يتوالى الخلق ويترابط.. وأحياناً يتنافر.. أراه صوفى يتطوح وجداً، تترنم حركاته للمولى.. يتجلى الضوء يغازل عينيه ، يغمضهما، يغيب البصر وتحل البصيرة ترسم ملامحها.. ويعود
يشق الجمع بخطو هادئ ، وجلس بجوار ابنتى بعد أن تركت له مكاناً يجمعناً ، تكوم على نفسه وعيونه إلى الأرض ، انحنى يلتقط قطعة من أوراقه ،تفيق ابنتى من شرود.. رأته منصرفاً عما حوله..
وأنا مشغولة بكنوز الوحد الباحثة عن حلم من يملكها ويشكلها فناً، لم يخطر على باله.. ويراه الآن الجمع يتوهج ..تعبر سحابة على ملامحه تطفو بمرارة وحدة ،وسط الحشد المستهتر ألسنة تتقاذف عبارات تهكم.
ظلت يدي ممدودة له بقطعة حلوى.. لم يأخذها مني وأخذها من يد ابنتى ، مررها أمام عينيه وابتسم .. تخلص بحرص من ورقتها ودسها جيبه ، ووضع الحلوى فى فمه، تذوقها وأغمض وهز رأسه طرباً.. . فتح عينيه ونظر بشجن لابنتى .. ابتسمت بحياء خجل متبادل بينهما .. يعاود النظر إليها بشقاوة خرجت ضحكتها حذرة.. تعاود نظراته انطلقت ضحكتها ، فوراً ترك الدكة مبتهجاً وانتشرت بهجته تداعب الخلق .
وسط الساحة ابتكر رقصه اخترقت عقول الجمع بطواعية مراسم الخلق .. يصرخ من فرط الوجد.. حركاته تتأكد.. يحلق ويتمكن ببراعة من سجن سجانه ولم يجد مهربا.. احتل الجمع الساحة وضاقت.. حين يعم الصمت يصرخ.. يفيق الجمع من صمت انبهار.. تخرج ضحكاتهم صحبها كلمات.. يصمت.
أحس بهمس أرديته كى يحررها ويحرر نفسه.. خلع الجاكت.. وسط حركات الرقص المنطلق.. يواصل خلع باقى ملابسه ويتحرر معها..يخطو رقصاً يشق الجمع نحو منطقة ظلال تتكاثف مبتعداً ،مبتعداً .. واختفى قبل أن يرتد البصر للجمع المتزاحم ،
انتفضت ابنتى من جلستها قبضت على يدها وهى تهرول مذهولة فى اتجاه غيابه!
لا تسمع كلماتي تنظر مذهولة ، وسط تخاصم الجمع !! البعض يؤكد طيرانه ، والبعض يؤكد أن الأرض ابتلعته ، وجمع يتصارع على الاحتفاظ بجزء من أردية الولى الراقص ، عدداً من الشباب والشيوخ انهمكوا فى الرقص وتقليد حركاته ، وأنا عقلى يبحث فى اللا وعى عن البدايات ، بعد توحد الحضور والغياب.. وفرار المخاوف.. ومحو التردد.. وتيقن الجمع من وجود عالم لا نعلمه وسيظل يحيرنا !!.