الأربعاء 27 نوفمبر 2024

عبدالرحمن الكواكبى عدو الاستبداد وصديق الإنسان

  • 23-8-2017 | 16:12

طباعة

فايز فرح – كاتب مصرى

الشيخ عبدالرحمن الكواكبى رائد من رواد الحرية فى الشرق العربى ومفكريه العباقرة، شخصية شجاعة يفكر بصوت عال، يعبر عن فكره المستنير بصراحة ووضوح، وهو عدو الاستبداد والاستعباد وصديق للإنسان فى كل مكان مهما اختلف معه فى اللغة والفكر واللون والعقيدة، هو مؤمن بقيم العقل والروح، رجل دين يشغله الإنسان بهمومه ومشاكله المختلفة، من هنا لقبوه.. بأبى الضعفاء.

يقول عنه الدكتور عثمان أمين فى كتابه:

رواد الوعى الإنسانى فى الشرق الإسلامى:

(الكواكبى فى نظرنا مثال للخلق الأبى، والشخصية القوية، شجاع مقدام، عزيز النفس صعب المراس، لا يخشى فى الحق لومة لائم، رجل بسيط الطبع، لين المعشر، عون للمستضعفين، نصير للمظلومين..).

ولد عبدالرحمن الكواكبى فى مدينة حلب السورية فى عام 1848م كان والده: السيد أحمد البهائى من سادة الأشراف، أما جده الأكبر فهو: اسماعيل الصفوى..مؤسس الأسرة الصفوية الشيعية فى تبريز بإيران، كما يعود نسبه إلى الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه، من جهة والديه معاً.

هاجر والده من فارس إلى حلب وكان حجة فى علم الميراث وأمينا للفتوى وقاضيا وإماما وخطيبا فى مسجد إبن يحيى ومدرسا بالمدرسة الكواكبية والجامع الأموى بحلب.

أما والدته فهى سيدة حلبية رحلت عن عالمنا وطفلها فى السادسة من عمره، احتضنته خالته ثلاث سنوات فى بلدتها أنطاكيا وقامت بتعليمه اللغة العربية والتركية، حيث كانت لغته هى الفارسية، ومن حسن حظ صبينا أن تتلمذ هناك على يد عم أمه (نجيب النقيب) الذى قام بالتدريس للأمير الخديوى عباس حلمى في مصر درس عبدالرحمن فى المدرسة الكواكبة بحلب العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة والسياسة، واهتم بقراءة الكتب بعامة والمترجمة بخاصة والمخطوطات القديمة والحديثة، عندما وصل إلى سن العشرين التحق بالعمل بالتدريس، واختار الصحافة للتعبير عن آرائه فكتب فى صحيفة الفرات، وأنشأ جريدة الشهباء ثم جريدة الاعتدال بعد إغلاق الأخيرة، عين عبدالرحمن فى أكثر من موقع ولجنة ومحكمة، فهو عضو فخرى فى لجنة المعارف والمالية، ثم أصبح رئيسا فخريا للجنة الأشغال العامة ثم عضوا بلجنة التجارة بحلب ورئيسا للغرفة التجارية ورئيسا للمصرف الزراعى ثم رئيسا لكتاب المحكمة الشرعية، ثم رئيسا للجنة البيع فى الأراضى الأميرية.

لاشك فى أن موهبته وحبه للعمل وكفاءته هى التى مكنته من هذه الأعمال، ومع ذلك لم يسلم من الحاقدين والحاسدين الذين كانوا يضعون المشاكل فى طريقه دائما، فكان يعزل كل مرة بتهم مختلفة متفاوتة، فمثلا عزل من وكالة المحكمة الشرعية بسبب محاربته لشهود الزور الذين شهدوا ضده ذورا وعزل من لجنة بيع حق الانتفاع من الأراضى الأميرية التى أمر السلطان أن تؤول إلى ورثته فوزعها الكواكبى على الفقراء ! واتهم أكثر من مرة بالتحريض على قتل الوالى، فقبض عليه وصودرت كل أمواله وحكم عليه بالإعدام، لكن المحكمة برءته بعد عام، ومع ذلك ظل مضطهدا لا يجد لقمة العيش، وسرقت مخطوطاته ومؤلفاته وأوراقه الخاصة، وشعر أنه لا يستطيع العيش فى سورية لأنه مواطن غير مرغوب فيه وبخاصة لآرائه التنويرية الجريئة وشجاعته في التعبير والقول، وفكر فى السفر إلى مصر واحة الأمان وقتذاك لكل حر شجاع، فرهن بيت زوجته ليغطى تكاليف رحلته إلى مصر.

كان عبدالرحمن الكواكبى محبا للسفر فزار الحجاز والهند وتركيا وأفريقيا وأخيرا وصل عام 1955 إلى مصر.

فى مصر وجد المناخ الحر الذى كان يفتقده فى سورية، فكتب فى الصحف وأصدر صحيفة العرب التى توقفت بأمر من الخديو بعد صدور ثلاثة أعداد منها بسبب نقدها للسلطة العثمانية، جمع بعد ذلك مقالاته ونشرها فى كتابين فى القاهرة وهما :

الأول: أم القرى .

الثانى: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.

يقول الدكتور عاطف العراقي استاذ الفلسفة الإسلامية الأسبق بجامعة القاهرة فى كتابه:

(الشيخ الامام محمد عبده والتنوبر قرن من الزمان على وفاته) عن الكتابين:

(كان يجمع الكتابين إلى حد كبير وحدة موضوعية تتمثل فى سعى الكواكبى لتحديد مواطن الداء وتحديد أوجه العلاج، تماما كما نجد هذا المنهج عند مفكرنا الشيخ محمد عبده.

اهتم الكواكبى اهتماما كبيرا بالبحث عن الاستبداد، حريصا على أن يبين للرعية حقوقهم، ويبين واجبات الحاكم إزاء الرعية، إنه لابد أن يكون في خدمة الرعية، يسهر على رعاية مصالحهم.. ويستطرد الدكتور عاطف العراقى.. الكواكبى كان حريصا على أن يبين لنا أن الاستبداد لا يجئ من الدين، بل من سوء فهم واستغلال من جانب البعض للدين ولا شك فى أن هذا الرأى يتضمن رؤية تنويرية، وهذه الفكرة نجدها أيضا عند الشيخ الإمام محمد عبده).

ظل عبدالرحمن الكواكبى يبحث ويتأمل فى النظم المختلفة طوال حياته والمذاهب المتباينة ليصل إلى الأسباب الحقيقية لانحطاط المجتمعات الشرقية والإسلامية حتى عرف أن الاستبداد هو السبب الرئيسى فى ذلك.

يقول عبدالرحمن الكواكبى فى كتابه الأشهر:

(طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) الذى نشرته دار طيبة للطباعة بالجيزة عام 2012م يقول فى فاتحة الكتاب:

(هجرت ديارى سرحاً فى الشرق فزرت مصر واتخذتها لى مركزاً أرجع إليه مغتنماً عهد الحرية فيها على عهد عزيزها (العباس الثانى) الناشر لواء الأمن علي أكتاف ملكه فوجدت سراة القرم فى مصر كما هى فى سائر الشرق خائضة عباب البحث فى المسألة الكبرى أعنى المسألة الاجتماعية فى الشرق عموماً وفى المسلمين خصوصاً إنما هم كسائر الباحثين كل يذهب مذهباً فى سبب الانحطاط وفى ما هو الدواء ؟ وحيث إنى قد تمحص عندى أن أصل الداء هو الاستبداد السياسى. ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية .

وقد استقر فكرى على ذلك بعد بحث ثلاثين عاماً بحثا أظنه يكاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الأولى أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله. ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشىء أو أن ذلك فرع لا أصل أو هو نتيجة لا وسيلة.

وانى إراحة لفكر المطالعين أعدد لهم المباحث التى طالما أتعبت نفسى فى تحليلها وخاطرت حتى بحياتى فى درسها وتدقيقها. وبذلك يعلمون أنى ما وافقت على الرأى القائل بأن أصل الداء هو الاستبداد السياسى إلا بعد عناء طويل يرجح قد أصبت الغرض.. وقد صرفت في هذا السبيل عمراً عزيزاً وعناء غير قليل.. وأنا لا أقصد فى مباحثى ظالماً بعينه ولا حكومة وأمة مخصصة وإنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، والتنبيه لمورد الداء الدفين عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم أنهم هم المتسببون لما حل بهم فلا يعتبون علي الأغيار ولا على الأقدار. إنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل..).

هكذا يشرح لنا المفكر الكبير والمصلح الداعية الشيخ عبدالرحمن الكواكبى الجهد الذى بذله والعناء الذى تحمله فى إنجاز هذا المؤلف المهم والخطير عن الاستبداد، والوقت الثمين من عمره الذى ضيعه فى البحث والذى جاوز الثلاثين عاما من عمره، وعندما نعرف أن حياته كلها لم تزد على كونها أربعة وخمسون عاما حينئذ نعرف الجهد والوقت من العمر.

الواقع أن كتاب: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد..

أحد الكتب العالمية القليلة المفيدة التى تشرح الاستبداد وتحلله وتقسمه إلى استبداد سياسى وأخلاقى ودينى وصلته بالعلم والجهل والمجد والمال والإنسان والتربية والترقى.

ومن تعريفات المؤلف بالاستبداد أنه داء أشد وطأة من الوباء. وأكثر هولاً من الحريق، وأعظم تخريبا من السيل وأذل للنفوس من السؤال داء اذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادى القضاء القضاء.

وفى نهاية الكتاب يحدثنا عبدالرحمن الكواكبى عن كيف نتخلص من الاستبداد لنكون أحرارا وتنعم الإنسانية بالمساواة والرخاء واحترام إنسانية الإنسان.

يقول فتحى العشرى فى كتابه.. مفكرون لكل العصور:

(يعتبر عبدالرحمن الكواكبى عقيدة القضاء والقدر الداء الأول لتخلف الأمة، فهى تؤدى إلى الزهد والقناعة، وتقتل الاقدام والطموح والعظمة ..).

يقول الكواكبى عن الحرية:

الحرية أفضل من الحياة نفسها وأكرم، وأن الشرف أعز من المنصب، والمال والعلم هو المرشد إلى الحقوق والواجبات والهادى إلى السبيل الصحيح لنيلها وصونها، وهو الذي ينبه إلى الظلم وكيف يرفع، ويشير إلى الكرامة البشرية وقيمتها.. قوام النهضة عند الكواكى أمران أساسيان هما:

الدين والعلم، الدين العامل، والعلم الواعى، بالنسبة للدين يرى أهمية الدين الحى النافذ، لا الدين الجامد المحفوظ فى رواسم وصيغ، إنما الدين فلسفة حياة، يفيد فى الترقى ونهضة الأمم.. أما العلم الواعى فهو العلم الذى يصنع للأمم دواؤها ووسائل تقدمها.

وعن أخطر وأصعب مراتب الاستبداد يقول مفكرنا:

أشد مراتب الاستبداد التى يتعوذ بها من الشيطان هى حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش،  القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية، ولنا أن نقول إنه كلما قل وصف من هذه الأوصاف قل الاستبداد، إلى أن ينتهى بالحاكم المنتخب المؤقت المسئول فعلا..

يحدثنا الكواكبى عن الحب والاستبداد فيقول:

إن الاستبداد يتصرف فى أكثر الميول الطبيعية والأخلاق الفاضلة، فيضعفها أو يفسدها.. فمن آثاره في الناس أن يقضى على عاطفة الحب بينهم، لأن الإنسان فى ظل الاستبداد لا يحب قومه، لأنهم عون الاستبداد عليه ولا يحب وطنه، لأنه يشقى فيه وهو لا يركن إلى صديقه، لأنه قد يأتى عليه من يكون فيه عوناً على الاستبداد ومصدر شر له.. ومن أقواله المعروفة:

لو رأى الظالم بجانب المظلوم سيفا لما ظلمه..

إنه الشيخ العلامة المستنير الإنسان عبدالرحمن الكواكبى الذى قال عنه أستاذنا عباس محمود العقاد: إنه رائد من رواد الوعى القومى، وعبقرية من العبقريات الملهمة التى التقى فيها سداد الفكر وشجاعة الضمير.

من عجب أن يموت مفكرنا الشيخ الجليل عبدالرحمن الكواكبى مقتولا بالسم، كما يقول أسيمة جانو في كتابه:

موسوعة الألف عام شخصيات صنعت التاريخ .. الجزء الأول فقد دعاه الخديو لزيارة اسطنبول لكنه لم يقبل الدعوة وعاد من الأسكندرية إلى القاهرة فى يوم 14يونيو عام 1902 حيث تناول القهوة فى مقهى (سبلنديد) فمات مسموما.

أما عن حكاية السم هذه فيروى المفكر الدكتور رفعت العيد أن الباب العالى قرر قتل الكواكبى لهجومه عليه وتمتعه بحرية كاملة فى تناول موضوعاته بجرأة تفضح السلاطين المستبدين وتتبعوا المفكر فعرفوا أن من عاداته وضع أصبعه فى فمه عند تقليب صفحات الكتب، كما نفعل فسرقوا كتابين مهمين يضطلع عليهما باستمرار ووضعوا السم فى أطرافهما وأعادوها إليه دون علمه.

فلما تصفحهما استخدم عادته فى بل أصبعه مما جعله يشبع من السم ويموت بعد أيام قليلة .. ! فكرة جهنمية !!.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة