عماد المنياوي – كاتب مصرى
يصعب اجتزاء تاريخ الأقباط من مُجمل التاريخ المصري، لأنه جزء أساسياً من مكونات الماضي والحاضر، كما يصعب أن يُقتطع أو ينفصل «الأدب القبطي»، عن «الأدب» المصري، رغم خصوصيته.
يتميز الأدب القبطي بأنه تراث إنساني في المقام الأول، يضع الإنسان البسيط في بؤرة اهتمامه، يخاطب إحساسه ومشاعره، كما يخاطب عقله ومداركه، لا يميل إلى التفلسف أو التنظير حتي وهو يتعرض لأعقد الأمور اللاهوتية، وهو أيضا بسيط في كلماته واضح في أفكاره، عميق في تأثيره.
ويختلف الأدب القبطي عن أدب الأقباط، فالأول هو المكتوب باللغة القبطية، حتي وإن كان كاتبه ليس قبطياً مسيحياً، أما أدب الأقباط هو ما ألفه الأقباط، حتي وإن لم يكتب باللغة القبطية.
لفظة «قبطي» في مصطلح «الأدب القبطي» تشير إلى اللغة وليس إلى عقيدة أو جنسية، فكل النصوص المكتوبة باللغة القبطية تدخل في إطار «الأدب القبطي» بغض النظر عن عقيدة كاتبها أو الموضوع الذي تعالجه، ورغم ذلك فمعظم ما كتب في الأدب القبطي يعالج موضوعات مسيحية أكثر منها دنيوية أو وثنية.
ويشمل الأدب القبطي نوعين من النصوص، الأول هو المكتوب أصلا باللغة القبطية بلهجتها المختلفة، والثاني هو المترجم من لغات أخري، وسُجل الأدب القبطي على ورق البردي، أو جلود الحيوانات، أو الورق، ولم يتوفر منه سوي القليل، حيث ضاع الكثير من «الأدب القبطي»، بفعل عصر الإضطهاد، أو ما لحق بالأديرة والكنائس من تخريب وتدمير ونهب لمحتوياتها، أو بواسطة العامة.
وتعود غلبة الطابع الديني على «الأدب القبطي» إلى أن أغلب ما وصل منه عثر عليه في مكتبات الأديرة والكنائس القديمة، وأكثر ما تحتفظ به الأديرة اليوم من النصوص التي تنتمي إلى الأدب العربي المسيحي الأصيل أو المترجم، أو النصوص الطقسية التي كانت تستخدم في العبادات والصلوات.
وتأثر الأدب القبطي بالأدب المصري القديم في طريقة التناول والتفكير أكثر من الصياغة والتعبير، ومع استخدام اللغة القبطية بمعناها الدقيق منذ القرن الثاني الميلادي تأثر الأدب القبطي بالنصوص اليونانية، خاصة المسيحية منها، وساعد على ذلك حركة الترجمة من اليونانية للقبطية.
ويعتبر القرن الرابع الميلادي هو مرحلة الانطلاق للأدب القبطي، ففي هذا القرن ظهرت كتابات القديس باخوميوس مؤسس رهبنة الشركة، ورسائل القديس أنطونيوس، وكذلك الأنبا شنودة المعروف باسم «رئيس المتوحدين»، حيث بدأ معه الأدب القبطي عصره الذهبي، فقد امتازة كتاباته بالبلاغة والتنوع، وغزارة الإنتاج، لذا لقب بـ«عميد الأدب القبطي»، وساهم ظهور الرهبنة في مصر في القرن الرابع الميلادي، في تطور الأدب القبطي، وساهم رواد الرهبنة الأوائل بكتاباتهم ومؤلفاتهم الروحية في تشكيله، ونحت تعبيراتهم الخاصة المستخدمة في التراث النسكي، وكما كانت الأديرة المكان الذي شهد ميلاد الأدب القبطي، كانت أيضا المعقل الأخير لحماية التراث من الضياع.
تطور الأدب القبطي
أنتجت مراكز قبطية هامة كانت تتبع كنيسة الأسكندرية مثل البهنسا والأشمونين وأسيوط وأخميم، أدبا قبطياً خالصاً، كما كانت هناك جماعات أو مراكز أخرى اهتمت بترجمة كتابات الآباء غير المصريين، وتنوع الأدب القبطي بين «سير القديسين والشهداء، العظات الروحية، أقوال الآباء النساك، المؤلفات اللاهوتية لآباء الكنيسة ومعلميها»، وتعتبر مرحلة الترجمة، خاصة الكتاب المقدس البداية الحقيقة للأدب القبطي أو التي مهدت لوجوده.
وكما أن كتابة الروايات والقصة القصيرة والشعر وغيره من فنون الأدب تتم وفق قواعد عامة، كان للأدب القبطي قواعد أدبية يلتزم بها مؤلف سير الشهداء والقديسين لتخرج في إطارها المعتاد.
وتمثل رسائل الأنبا أنطونيوس المرجح أن تكون قد كتبت في الثلاثينيات من القرن الرابع الميلادي، بداية الأدب القبطي بمعناه الضيق، وتقدم الرسائل أنبا إنطونيوس في صورة تختلف عن تلك التي تقدمها سيرته التي وضعها أثناسيوس الرسولي، ففي حين تظهر السيرة أنبا أنطونيوس في صورة الراهب البسيط غير المتعلم، تقدمه الرسائل في صورة الراهب الحيكم، والعالم بخفايا النفس البشرية، وتتمركز الرسائل حول معرفة الإنسان لنفسه وهو ما يتفق مع الفكر الأفلاطوني فيما يتعلق بالمعرفة والوجود، لكن لا يمكن اعتباره فيلسوفاً بل هو يقدم فهماً روحياً عميقاً للكتاب المقدس.
وبدأ عصر ازدهار الأدب القبطي مع الأنبا شنودة رئيس المتوحدين، حيث استطاع أن ينقل الأدب القبطي من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضوج، من خلال حرصه على تقديم عظاته في لغة أدبية راقية تتعدى مجرد تقديم تعاليم روحية أو قوانين نسكية، بل تستخدم كل أدوات اللغة من بلاغة وتشبه وكناية وتضاد حتي تقدم المعنى في أشد درجات الوضوح وتضمن التأثير في مشاعر المتلقي وعقله.
ترك الأنبا شنودة ثمانية مجلدات من العظات، وتسعة من القوانين بالإضافة إلى مجموعة من الرسائل، وتتميز قوانين أنبا شنودة بأنها بعيدة عن أسلوب الأمر والنهي، ولا تميل إلي العبارات القصيرة الموجزة، بل هي عظات روحية تستفيض في الشرح والبيان.
وامتاز المؤلفون الأقباط بتعدد ألوان الأدب، منها فن المديح، وهو الذي يتناول أحد القديسين وتتحدث نصوصه عن فضائله وخصاله دون الدخول في تفاصيل سيرته التي هي معروفة بالفعل، وأشهرها لأنبا بولا وآخر للشهيد هلياس كتبه إسطفانوس أسقف إهناسيا، وغيرها من النصوص التي تحتوي على قدر من المبالغة التي يتطلبها هذا اللون من الفنون الأدبية، وفي القرنين السابع والثامن الميلادي على الأخص ألفت نصوص قبطية كانت تحتوي على عظات وسير شهداء وقديسين، تتناول أحداثاً أو شخصيات ذكرت في المصادر الأقدم، ثم بنيت عليها النصوص الأحدث مثل العظات والروايات.
وكشفت إحدى النصوص المتعلقة بيوحنا ذهبي الفم، نفيه إلى جزيرة تراقيا جنوب شرق البلقان، كما يوجد نصوص تتعلق بسيامة يوحنا ذهبي الفم كاهناً في أنطاكيا على يد أسقف أنطاكيا آنذاك ديمتريوس، وهو شخصية لا وجود لها في التاريخ.
ويعتبر كتاب «تاريخ الكنيسة باللغة القبطية الصعيدية»، نقطة انطلاق بنيت عليها القصص، فمع حلول القرن التاسع شح الأدب القبطي أو كاد يتوقف، فلجأ الأقباط إلى التفتيش في كنوز الأدب في عصره الذهبي، وأعادوا نسخ النصوص القديمة مرة أخري، وشهدت الفترة من القرن التاسع حتي الحادي عشر الميلادي نشاطاً ملحوظاً في نسخ المخطوطات الأقدم.
وفي العصر الحديث يعود الأقباط إلى كتابة القبطية بحروف عربية، والكتب الطقسية خير دليل على ذلك، وينتهي الأدب القبطي بثلاثة نصوص هما «استشهاد يوحنا الزيتوني، وسيرة القديس برسوم العريان، وقصيدة باللهجة الصعيدية من القرن الرابع الميلادي».
وتظهر بسهولة فلسفلة الأقباط في تدوين التاريخ، حيث يمثل الفرعون في التراث المسيحي بوجه عام والقبطي بوجه خاص، تجسيدا ورمزا للشر أو الشيطان، ولم تتغير نظرة الأقباط من حيث الاهتمام الخارقة للطبيعة كالمعجزات والأساطير والرؤي والأحلام التي تظهر بكثرة في الأدب القبطي على اختلاف أنواعه.
أهم الكتابات التاريخية في التراث القبطي
«تاريخ الكنيسة باللغة القبطية الصعيدية» لمؤلف مجهول، ووصل الكتاب في شذارات من مخطوطين من الدير الأبيض بسوهاج، وينقسم إلى اثنتي عشر كتابا يمكن تقسيمها إلى جزئين الأول «الكتب السبعة الأولى» ويعتمد على تاريخ يوسابيوس القيصري، أما الجزء الثاني فيضم الكتب الخمسة الباقية.
أما المصدر الثاني فهو كتاب «تاريخ البطاركة باللغة العربية»، ويعتمد على مصادر قبطية أخري ترجمها الشماس السكندري موهوب بن منصور بن مفرج في القرن الحادي عشر، ثم استكمله هو وآخرون باللغة العربية مباشرة.
أدوات كتابة الأدب القبطي
تعتبر المعجزات والرؤي من أهم الأدوات التي استخدمها الأقباط في كتابة تاريخهم، وزاد الاستخدام التاريخي للرؤي والمعجزات في الأدب القبطي بوجه خاص في فترات مواجهة الهرطقات والانشقاقات، خاصة بعد مجمع خلقيدونية عام 451 م، وكان للأدب دور هام في إثبات فساد شخص أو رواية، وأهمها فساد شخصية «أريوس».
وفى عصر الدولة الأيوبية اتسعت الحركة الأدبية بين المسيحيين فظهرت كتابات أولاد العسال وأشهرهم الصفي بن العسال، وكتابات بطرس أبو شاكر المعروف بابن الراهب، وشمس الرياسة أبو البركات المعروف بابن كبر.
ويعتبر البابا شنودة وأعماله، وكتابات الأب متى المسكين وسيرته، ومؤلفات الأنبا غريغوريوس وأبحاثه، والتى أثروا بها جميعاً المكتبة القبطية، من عمالقة الأدب القبطى على مر العصور .