رانيا يحيى – أكاديمية مصرية
الباليه يطلق عليه النغم المنظور لأنه بحق نغمات في صورة أجساد تتناثر معتلية المسارح برقة وتعبير وتجسيد حركي. فهو الرقص الكلاسيكى الذى يقوم على استخدام إيماءات الوجه والأطراف والبدن للتعبير عن الانفعالات والحدث الدرامى كوسيلة طبيعية تستعمل كبديل للكلمة المنطوقة بآداء راق ومعبر مخاطباً الجماهير في شتى بقاع الأرض مهما اختلفت لغاتهم وأجناسهم بعيداً عن الابتذال وأداء الحركات الراقصة التى تثير الغرائز مرتكزاً على الموسيقى كعمود فقري له، بجانب كثير من العناصر الدرامية الأخرى المكونة لفن الأوبرا أو المسرح مثل الديكور والأزياء والماكياج والإضاءة وغيرها، ويرجع الفضل للمصمم والراقص الفرنسي جان جورج نوفير فى تحديد معالم فن الباليه ووضع أسسه وقواعده الراسخة في القرن الثامن عشر. ويقوم بتصميم الراقصات للباليه الكوريجرافى وهم أساتذة متخصصون في هذا المجال وعلى دراية ووعي بتقنيات الرقص الكلاسيكى وكثير منهم كانوا راقصي باليه ،ومع تقدم العمر يعتزلوا الرقص ويتجه معظمهم لوضع وتصميم الرقصات، أما عن الموسيقى والألحان فغالباً ما تكتب خصيصاً للباليه وتكون على قدر كبير من التقنية والاحتراف ويمكن أن تقدم بمفردها أحياناً لما لها من شعبية حيث تكون عالقة في أذهان المحبين لهذا الفن الراقى .
ورغم ظهور الباليه ضمن فنون الرقص منذ أقدم العصور في لوحات التصوير والنقوش البارزة على جدران معابد مصر الفرعونية من آلاف السنين ،إلا أنه نشأ كفن مستقل بذاته في فرنسا في القرن السادس عشر -الذى يمثل نهضة فنية وثقافية حقيقية في كثير من المجالات المختلفة- ثم انتقل بعد ذلك إلى إيطاليا وروسيا وكثير من الدول في بدايات القرن السابع عشر ،وأنشأ الملك لويس الرابع عشر في فرنسا الأكاديمية الملكية للباليه عام 1661 ،وكانت بداية التعليم الأكاديمى ،كما تعتبر المدرسة الروسية إلى الآن من أهم وأعرق مدارس تعليم الباليه حيث وضعت له قواعد وأساليب فنية مدروسة ،ومن ثم أنشأت له معاهد فنية متخصصة فيها وفي كثير من الدول المتحضرة. وتعتبر فرقة الباليه الروسية البولشوى واحدة من أهم وأشهر الفرق التى حظت على مكانة عالمية في الأوساط الفنية لما قدمته خلال مشوارها الطويل منذ تأسيسها في القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا.
وبالنسبة لفن الباليه في مصر الحديثة فقد أخذ منحى آخر على يد الفراشات الخمس وهن "ماجدة صالح ،علية عبد الرازق ،مايا سليم ،داوود فايظى ،ديانا حقاق" بعد أن درسوا في مدرسة الباليه حتى المرحلة الثانوية –قبل دخول المرحلة الجامعية للمعهد العالى للباليه- وقامت وزارة الثقافة إبان عهد رائد الثقافة المصرية الدكتور ثروت عكاشة في الستينيات من القرن الماضى بإرسالهن في بعثة لروسيا للتعلم بمفردهن مع المشرفة الروسية لمتابعة تدريباتهن كانت السفارة المصرية تتابع مستواهم وتقدمهم وتوفر لهم كافة احتياجاتهم خلال فترة إقامتهم هناك ،ودرسن على يد مدربى وراقصى فرقة البولشوى باعتبارها أكبر وأقوى فرقة باليه آنذاك ولا زالت واحدة من أعرق الفرق وأهمها حول العالم ،كذلك قمن بالرقص مع الفرقة على هذا المسرح العالمى ،وهو ما يؤكد التفتح العقلى لأسرهن وإدراكهن بقيمة هذا الفن ودوره ،كذلك انعكاس لاهتمام الدولة بالفنون وتقديم كل سبل المساعدة للدراسة العلمية المستفيضة حتى تتبوأ مصر مكانتها المتقدمة برؤية واعية نابضة ثاقبة تستهدف الارتقاء بالمجتمع من خلال الفن لنشر الوعي وإيقاظ الفكر وتثقيف المواطن. وعادت الفراشات الخمس بعد عام بمستوى أبهر العالم ،وبصحبتهن مجموعة من الخبراء لاستكمال التدريبات اللازمة للحفاظ على هذا الجهد المشرف ،وقدمن أول باليه "نافورة بخشى سراى" لمؤلفه آسافييف وكانت بطلتيه علية عبد الرازق وماجدة صالح ويرافقهما الوجه الذكورى عبد المنعم كامل ،وانطلقت من هذه البداية فرقة باليه أوبرا القاهرة التي قامت على أكتاف هؤلاء الخمس برفقة بعض الذكور منهم رضا شتا ،صفوت جرجس ،عبد المنعم كامل وغيرهم ،فخرجت الفرقة بهذا المستوى المشرف الذي أذهل العالم في وقت جد قصير.
ولاهتمام أبو الثقافة المصرية ثروت عكاشة بالفرقة كان يشرف شخصياً على البروفات والملابس وأدق التفاصيل ،وبعد نجاح عرض الباليه الأول طلب الوزير سفر فرقة الباليه إلى أسوان وهو ما أدهش البعض ،لكنها تجربة مهمة لوصول رسالة هذا الفن الراقى لصعيد مصر ،وبالفعل شعر الجمهور بقيمة ما يقدم رغم اختلاف الثقافة والفكر ،وهذا هو دور القوة الناعمة في إحداث حراك ثقافي تنويري حقيقي في الشارع المصري لتبديد قوى الظلام وخاصة في السنوات الأخيرة بعد ما أولنا إليه من تراجع يعد انعكاساً أولاً للتغيرات الاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية التي أحلت بالمجتمع المصرى وأيضاً لعدم اكتراث المسئولين بالمتابعة والإشراف الذاتي للفرق الفنية ومستوياتها فتحول الأمر من الإبداع إلى الروتين الوظيفي ،لذلك يعتبر هذا نتاج طبيعي للتدهور العام في كثير من المستويات.
وفي مرحلة بدايات المعهد كانت المدرسة ملحقة بالمعهد العالي للسينما الذي أنشئ قبل أن يتولى المهندس أبو بكر خيرت تشييد معهدي الكونسيرفتوار والباليه ،ثم أنشئا عام 1959 وتولت عمادة المعهد العالي للباليه الأستاذة عنايات عزمي والذي ترأسته لسنوات عديدة حتى أوائل الثمانينيات ،حيث تم استقدامها من كلية التربية الرياضية والاستعانة بخيرتها ،في حين لم يكن هناك خريجي للمعهد وكوادر تستطيع أن تقوم بهذه المهمة ،ومن بعدها تولى الإشراف على عمادة المعهد رئيس الأكاديمية السابق الدكتور فوزى فهمي إلى أن تم تخريج دفعات المعهد العالي للباليه وحصلوا على شهاداتهم وأكملوا دراساتهم العليا الماجستير والدكتوراه سواء من مصر أو من الخارج واستكملوا هذه المسيرة إلى يومنا هذا.
ويظن البعض أن فن الباليه في العالم العربى يقتصر على مصر وحدها لكن هذا غير صحيح حيث توجد مدرسة بالعراق وأخرى بالجزائر لكنهما لم يحظيا على نفس المستوى لراقصيهم ،وتوقفت الدراسة بهما لعدم وجود فرقة يستكمل فيها الراقص أو الراقصة مهاراتهما. وفي دول المغرب العربى والشام نجد أشكال أخرى من الرقص منها الجاز أو الرقص الحديث أو فرق الرقص الشعبى لعدم وجود فرق لتقديم فن الباليه ،لذا حظيت مصر بهذه المكانة المتفردة وسط أشقائها العرب وبالأخص ما وصلت إليه مكانة فرقة باليه القاهرة من مستوى متقدم وشهرة واسعة وبالأخص في عقودها الأولى .
ورغم أنني لم أدرس الباليه لكنني من عشاق هذا الفن الراقي ،وبحكم دراستي منذ الصغر بأكاديمية الفنون بمعهد الكونسيرفتوار الذي يقابل معهد الباليه مباشرة ما جعل بيننا وبين طلابه وأساتذته علاقات ود ومحبة على مدار سنواتنا الدراسية ، ثم تزاملنا بفرق الأوبرا معاً حيث نشاركهم العزف في الأوركسترا فخلق بين الموسيقيين وراقصى الباليه تلاحماً على مستوى العمل وصداقات شخصية فيما بينهم ..ولكن من حسن حظي وجودي في السنوات الأخيرة مع رئيسة الأكاديمية الأستاذة الدكتورة أحلام يونس وهي أحد أعمدة المعهد العالي للباليه والذي تولت فيه مناصب متعددة من رئيس قسم التصميم والإخراج ثم وكيلة وعميدة وبعدها ترأست الأكاديمية كثالث رئاسة نسائية منذ نشأة الأكاديمية ،وبعد أن أوكلتني مهام الإشراف على إدارة العلاقات العامة والإعلام بالأكاديمية ،فكانت فرصة سانحة لسماع قصص الباليه وحكايات كثيرة منها عن هذا المعهد الذى أعجبت به وبفنانيه منذ طفولتي ،فكان لي شرف تصحيح بعض المعلومات التى يتم تداولها عن طريق الخطأ أو جهلنا ببعض الحقائق التي لم نعاصرها ،ونظراً لعشقها لتخصصها ولهذا الفن فقد أضافت إلى معلوماتى الكثير وزادت من عشقى لفن الباليه. ومن أهم المعلومات الدور المحوري والرئيسي الذي لا يعرفه جيلي ومن لحقونا للدكتورة ماجدة صالح والتي تولت رئاسة دار الأوبرا المصرية بعد أن أنشأها اليابانيون قبل أن تتولى رئاستها الدكتورة رتيبة الحفني وهو ما لا يعرفه الكثيرون وأثار دهشتى لعدم وجود صورة للدكتورة ماجدة صالح داخل أروقة الأوبرا وهي ليست فقط أول رئيسة لدار الأوبرا وإنما جهدها وإشرافها بكل دقة في كافة تفاصيل بناء دار الأوبرا ،وهو ما يجب أن يتم تصحيحه من قبل المسئولين إحقاقاً لحق أستاذة وخبيرة أفنت سنوات من عمرها لصالح هذا الكيان الثقافي العريق. ولتوثيق المعلومة وتأكيدها أخبرتني أستاذتي الدكتورة أحلام يونس عن فيلم وثائقي أخرجه الفنان الشاب المبدع هشام عبد الخالق تحت اسم "هامش فى تاريخ الباليه" والذي يضم ما يزيد عن أربعمائة صورة نادرة ،وبعض المقاطع الأرشيفية من أشهر الباليهات التي شارك فيها رواد الباليه في البدايات. والواقع جاءت فكرة الفيلم أكثر من رائعة وتجسد حقيقة ملموسة لما كان عليه هذا الفن منذ عقود مضت وكيف تلقى الجمهور فن الباليه وأيضاً كيف تعامل الإعلام معه وبالأخص الصحافة التي أبرزت فراشات الباليه كنجمات عبر تصدرهن أغلفة المجلات والصحف فذاع صيتهن وسط الجمهور. حقائق عايشتها من خلال هامش في تاريخ الباليه ،الذي يوثق هذه الفترة التاريخية بكل ما فيها من إنجازات وذكريات ،علنا نعي أهمية هذا الفن ودوره في الارتقاء بالوجدان وتهذيب السلوك وسمو الأخلاق ،ولكي ندرك أيضاً الدور النسائي الرائد في النغم المنظور على مر التاريخ.
وإن كنا الآن تراجعنا في كثير من الفنون وحتى نظرة المجتمع لراقصى الباليه ،إلا أننا في السنوات الأخيرة نشهد تقدماً ملحوظاً في رغبة الطبقة المتوسطة تعليم أبنائهم الفنون الموسيقى والباليه والفنون التشكيلية في حالة من الانتشار والعدوى الإيجابية ،حيث لم تعد تقتصر هذه الفنون على أبناء الطبقة الأرستقراطية ،وهو ما يعد فى حد ذاته جانب مشرق وإيجابي ربما يؤتي ثماره خلال السنوات القادمة.
وكما يرى مخرج الفيلم الذي أحييه عليه وعلى فكرته المبدعة المتميز هشام عبد الخالق وجود صور رواد فن الباليه ليس شرف لهم بل شرف لدار الأوبرا كما جاء على لسان هشام عبد الخالق وأوافقه الرأي ،فهؤلاء من أسسوا أول فرقة باليه مصرية خالصة ومعهم رضا شتا ،وصفوت جرجس ،وديانا حقاق لا زالت حتى الآن ترقص في أمريكا ،ماجدة صالح اعتزلت مع فرقة البولشوى ، ندق ناقوس الخطر لما وصلنا إليه.