السبت 1 يونيو 2024

الأغنية الوطنية بين ثورتين

23-8-2017 | 19:29

د.نبيل حنفى محمود – كاتب مصرى

عندما استيقظت مصر فى صباح الأربعاء 23 يوليه  1952. على نبأ الثورة ، الذى زفه إليهم صوت البكباشى ( المقدم ) أنور السادات : عضو مجلس قيادة الثورة الوليدة ، لم تجد الإذاعة  فى مكتبتها سوى بضع  أغنيات يمكن أن توصف بأنها وطنية ، ومن أمثلة تلك الأغنيات ما يلى : قصيدة " مصر تتحدث عن نفسها " التى سجلتها أم كلثوم فى عام 1951– نشيد " الجهاد "  الذى تغنى به محمد عبدالوهاب فى عام 1939  ، وقصيدة " مصر نادتنا " التى سجلها محمد عبدالوهاب فى عام 1940  ، ولم تمض إلا أسابيع قليلة بعد 23 يوليو ، حتى بدأت الإذاعة فى تقديم أغنيات العهد الجديد ، أغنيات حشدت لها الإذاعة كل نجومها من الشعراء والملحنين والمطربين والمطربات ، هذا وقد بلغ عدد الأغنيات الوطنية الجديدة المذاعة خلال الفترة من يوم السبت الثانى من أغسطس 1952 وحتى نهاية ديسمبر من نفس العام إحدى وسبعين أغنية ! ، أنتجت الإذاعة أكثرها ـ وأُهدى البعض منها للإذاعة ، توزعت أغراض ذلك العدد من الأغنيات على النحو التالى : 8 أغنيات عن مصر – 6 أغنيات  عن العهد الجديد – 6 أغنيات عن الحرية – 5 أغنيات عن الجيش والجنود – 9 أغنيات عن شعارات الحركة ( الثورة ) و 37 أغنية عالجت العديد من المعانى الوطنية كتمجيد الوطن واستنهاض الهمم والتعبير عن مشاعر المهمشين من أبناء الشعب تجاه الثورة الوليدة ، وكان نشيد " الشباب " الذى نظمه كل من بيرم التونسى ومأمون الشناوى ولحنه وأنشده فريد الأطرش أول أناشيد العهد الجديد ، فقد أذيع لأول مرة فى برنامج يوم السبت 27/9/1952 ، وجاء نشيد " صوت الوطن " الذى كتبه أحمد رامى وأبدع فى تلحينه رياض السنباطى ثانياً بعد نشيد " الشباب " ، حيث شدت به أم كلثوم ولأول مرة عبر أثير الإذاعة المصرية فى مساء 19/10/1952.

        كان قالب الطقطوقة هو السائد فى ذلك العدد الكبير من الأغنيات الوطنية ، التى قدمت فى الشهور الخمسة الأولى من  عمر ثورة يوليو 1952 ، وهو القالب المتخذ غالباً للأغنيات الشعبية ، لذا شهدت الأغنيات الشعبية فى تلك الفترة إقبالاً عظيماً من أهل الغناء ومستمعيه ، وانتشرت الأغنيات الجماعية التى تساند فيها أصوات المنشدين صوت المطرب المنفرد ، وتراجعت الأغنيات الفردية كثيراً بين ما قدم من أغنيات وطنية فى الشهور الأولى من عمر الثورة ، وتجيء أغنية " ع الدوار " التى كتبها حسين طنطاوى ولحنها أحمد صدقى وترنم بها محمد قنديل ، فى طليعة مجموعة الوطنيات الشعبية ، التى ذاعت فى الشهور الخمسة الأولى من عمر الثورة ، فقد ساعد لحنها الشعبى البسيط على مشاركة كل من يستمع إليها فى أداء مذهبها أو مطلعها الذى يقول :

                ع الدوار ع الدوار     راديو بلدنا فيه أخبار

                            ع الدوار ع الدوار

إن ما تميزت به " ع الدوار " من صدق وبساطة وجماعية، كانوا السبب فى بقائها على ألسنه جماهير الغناء المصرى لسنوات جاوزت ربع القرن أو ما يزيد .

واكبت الأغنية الوطنية جميع أحداث مصر فى حقبة ما بعد يوليو 1952 ، وأرٌخت لجميع أحداث تلك الحقبة من انتصارات أو انكسارات ، فلم تشهد مصر حدثاً أو مشروعاً منذ عام 1952 وحتى 1970 ، إلا واستمع المصريون إلى غنائيات عدة تتناوله .... تؤرخ له وتعدد مزاياه وتمجٌد المصريين ممن كانوا وراءه ، ففى العدوان الثلاثى .. ردد ملايين المصريين الأغنيات التالية مع من تغنوا بها : نشيد " الله أكبر " للمجموعة – " والله زمان يا سلاحى " لأم كلثوم ونشيد " دع سمائى " لفايدة كامل ، وعندما شرعت مصر فى بناء السد العالى فى 9/1/1960 ، بلغت مشاعر المصريين عنان السماء عندما كانوا يستمعون إلى الأغنيات التالية التى تسجل قصة السد للأجيال القادمة : " قصة السد العالى " لأم كلثوم – " ساعة الجد " لمحمد عبد الوهاب – " يا أسطى سيد " لفريد الأطرش – " بلد السد "  لشادية – " حكاية شعب " لعبد الحليم حافظ و " ح نبنى السد " للمجموعة ، وعندما أطاحت نكسة 1967 بأحلام المصريين ونظام يوليو ، استمع المصريون إلى أغنيات كثيرة حاولت لملمة الجراح ، نذكر منها المجموعة التالية : " إنا فدائيون " و " حق بلادك " لأم كلثوم – " حى على الفلاح " لمحمد عبد الوهاب – " يوم الفداء " لفريد الأطرش – " فات الكثير يا بلدنا " لفايده كامل و " موال النهار " لعبد الحليم حافظ ، لقد مرت الأغنية الوطنية بالعديد من التحولات مع ثورة يوليو ، ولكنها ظلت مع جميع ما شهدته من تحولات تعبر بصدق عن أحوال المصريين ، لذا عاشت وستعيش مديداً فى ذاكرة المصريين ، لا يعرف النسيان إليها طريقاً .

                  ما بعد يناير 2011

حين تخرج جماهير الشعب إلى الشوارع فى بدايات ثورة ، لا تجد – كما تحدثنا مصادر التاريخ – سوى هتافات الغضب والتنديد ، لتنفس بها بعض ما يتأجج فى صدورهم من سخط ونقمة ، وكان هذا ما حدث بالضبط عندما خرجت جموع غاضبة من المصريين فى يوم الثلاثاء 25/1/2011 ، وذلك للتعبير عن غضبهم من تردى الأحوال الاقتصادية لقطاعات كبيرة منهم ، وللاحتجاج على نتائج انتخابات مجلس الشعب التى جرت فى شهر ديسمبر 2010 ، ردد المتظاهرون فى اليوم الأول لخروجهم هتافات تعبر عن معاناتهم وتطلعاتهم مثل : " عيش حرية .. كرامة  إنسانية " ، واشتركت كل المدن المصرية فى هتاف واحد نصه كما يلى : " الشعب يريد .. إسقاط النظام " ، وباستمرار المظاهرات فى الأيام التالية ، توالت الهتافات فى ميادين مصر .

ألهمت هتافات الجماهير فى ميادين مصر ، البعض من أهل الغناء لتقديم بعض الأغنيات ، وذلك بغية تخليد أحداث الثورة ، إلا أن معظم تلك الغنائيات القليلة التي أعقبت ثورة يناير  لم تكن على مستوى الحدث ، وجانبها التوفيق الذى حالف هتافات الجماهير خلال أحداث الثورة ، ومن تلك الغنائيات نذكر الآتى : " مصر قالت " لعمرو دياب و " صوت الحرية " لفريق وسط البلد، إلا أن النجاح كان حليفا لواحدة فقط مما أفرزته موجة الثورة الأولى من أغنيات ، و المعنى بموجة الثورة الأولى هنا الأحداث التى بدأت فى 25/1/2011 وانتهت بتنازل الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك عن السلطة فى 10/2/2011 ، والأغنية التى حققت النجاح فى موجة الثورة الأولى هى أغنية " يا بلادى " التى تغنى بها كل من عزيز الشافعى ورامى جمال .

انطلقت الموجة الثانية للثورة فى 30/6/2013 ، وجاءت استجابة لنداء شباب حركة " تمرد " ، الذين طالبوا المصريين بالخروج لإسقاط حكم جماعة الإخوان ، فى تلك الموجة ردد ملايين المصريين هتافات تكاد تماثل هتافات الموجة الأولى ، ولكنها تكشف للمدقق أن الناس قد زالت عن أعينهم غشاوة التضليل ، حيث ردد من استجابوا لنداء " تمرد " الشعار التالى : " الجيش والشعب والشرطة .. إيد واحدة " ، وذلك رداً على هتافات الإخوان : " يسقط يسقط .. حكم العسكر " ، هذا وقد ترجم الغناء سريعاً مشاعر المصريين تجاه الجيش والثورة خلال شهر يوليو 2013  ، حيث جاءت أغنية " تسلم الأيادي " التى نظمها ولحنها وتغنى بها الفنان مصطفى كامل مع مجموعة من المطربين والمطربات ، جاءت فى طليعة مجموعة أخرى من الأغنيات ، لم يصمد منها فى الأسماع حتى الآن سوى أغنية مصطفى كامل الجميلة ، ولعل الأسباب فى عمر الزهور الذى تعيشه وطنيات أيامنا هذه ، مقارنة بأعمار الأشجار المعمرة الذى عاشته وطنيات يوليو 1952 ، ترجع إلى قلة المصداقية وشح المواهب وما حاق بمفهوم الوطنية من دمار ، بتخطيط من قوى الشر المترصدة لنا ، وبأيدي قلة ممن لا يستحقون حتى تنفس هواء مصر والارتواء من نيلها .