الثلاثاء 24 سبتمبر 2024

بيرم التونسى وثلاثية الفكاهة والواقع والتراث

صورة أرشيفية

ثقافة10-3-2023 | 17:02

د. محمد هاشم عبد السلام

حاول بيرم أن ينفس عن نفسه، وأن يكبت بداخله مشاعر الألم، وذلك باستعماله السخرية بديلًا عن الشكوى فى بعض قصائده

يلتقى بيرم مع بعض شعرائنا القدامى، الذين سبقوا إلى اتخاذ الفكاهة في إبداعهم سبيلًا لتخطي أزماتهم وتَوَقِّى الوقوع في براثن الضعف

عندما يتعرض الإنسان لبعض المشكلات والضغوط النفسية يتعين عليه التحصن ببعض ميكانزمات الدفاع النفسى، التي تعمل بصورة إيجابية على خفض التوتر وإعادة الاتزان للشخصية، والانتحاء بها نحو السواء، وحمايتها من فقد مقومات الإحساس بالوجود والدفء المجتمعى؛ لأن الإحساسات المؤلمة – كما قال سيجمند فرويد في كتابه (الأنا والهو): "تنزع نحو التغيير ونحو التفريغ، وهذا هو السبب الذى من أجله نفسر الألم على أنه يتضمن ازدياد شحنة الطاقة النفسية، ونفسر اللذة على أنها تتضمن خفضها"، ولعل الفكاهة من أهم حيل التوافق النفسي المُعِيْنة على تحقيق هذه الغاية؛ فقد ذكر الدكتور شاكر عبد الحميد في كتابه (الفكاهة والضحك) أن الفكاهة مع الضحك "يقاومان الاكتئاب والقلق والغضب الشديد، ويساعدان على المواجهة والمقاومة والوقاية من الأمراض النفسية واضطرابات الشخصية والأزمات الاجتماعية". 

      وشاعر العامية بيرم التونسي (1893م: 1961م) أحد من عانوا في حياتهم، فقد ولد في حى السيالة بالإسكندرية، ومات والداه وهو فى سن مبكرة، ولم يجد أمامه سوى العمل بالبقالة والتجارة وبعض الأعمال الشاقة، وعلى إثر خلافه مع الملك فؤاد أُبعد عن مصر التي كان متعلقًا بها؛ فظهرت في أشعاره أصداء النوستالجيا والشكوى من الغربة، وفي المقابل وعن طريق التكوين العكسي Reaction Formation حاول أن ينفس عن نفسه، وأن يكبت بداخله مشاعر الألم، وذلك باستعماله الفكاهة والسخرية بديلًا عن الشكوى في بعض قصائده، وهو بهذا الصنيع يلتقى مع بعض شعرائنا القدامى، الذين سبقوا – لا سيما الظرفاء منهم – إلى اتخاذ الفكاهة في إبداعهم سبيلًا لتخطي أزماتهم وتَوَقِّي الوقوع في براثن التشيؤ والضعف. 

يتجلى هذا على سبيل المثال في قصيدة بيرم التونسي (لوكاندة الحاج سالم)؛ ففيها أخبر أنه نزل في هذه اللوكاندة التي كانت مفتوحة لكل غريب، فاستقبله صاحبها الحاج سالم نعمت الله وحدث ما يأتى: 

قال المعلم: ياواد شوف الزبون دا أمير

اعطي له في نمره خمسه في البريمو سرير

وخد له وياك كمان القله والبشكير

واعطي له أكبرها ما عندك من المراكيب

وهذه المقدمة توحي بأن هذا المعلم قد اختار لصاحبنا مكانًا مميزًا باللوكاندة، سيهنأ بالراحة التامة فيه، لكن سرعان ما يأتي بيرم بالمفارقة الساخرة، إذ نكتشف أن نمره خمسة التي عيَّنها له (كلها تهييص) وبها (سبعة من الفلاحين شاغلينها بالبلاليص) على حد قول هذا الشاعر، الذي طفق يعدد عيوب هذه اللوكاندة إلى جانب العيب السابق؛ فقد حكي لنا أنها مليئة بالضوضاء الناجمة عن الخدامين بها، كما أنها قريبة جدًّا من شارع الحسيني، وهو شارع – كما وصفه – عمومي عمار، به قهاوى مكتظة بالرواد الذين لا يكفون عن الصياح وتجاذب أطراف الحديث حتى الصباح، وفي هذا الشارع أيضًا يُنادَى على جميع الفواكه من قِبل أصحابها، ويزيدنا بيرم نفورًا من هذا المكان الذي نزل به عندما ترك المحيط الخارجي للوكاندة، وأطلعنا عن كثب على مساوئ السرير الذي أُعدّ له للنوم عليه قائلًا:

أما السرير نمره خمسه كان عداك مبلول

وكل قمله تزيد لك عن ظبان الفول

والبق ده كل بقه زي عين الغول

تسمع لها من فوق الملايه دبيب

طلع علينا النهار وإحنا في قلب دماغ

سألت كام البياته قاللي عشرين صاغ

ون كنت بايت هنا تاني تحط بلاغ

قلت البياته دي عدت واللقا دا نصيب

وثمة هنا مشهد درامى مسكوت عنه، يستدعيه المتلقى مستحضرًا خلاله صورة بيرم، وقد بدت على جسده وفي ملامحه آثار التعب من شدة الأرق والسهاد، ومما يغيظ ويبعث على المفارقة من جديد أن صاحب اللوكاندة أو أحد العاملين قد بادر بسؤاله وهو يؤدى له الحساب عما إذا كانت له رغبة في معاودة المبيت، لأن هذا لا يتم حسب النظام إلا بحجز مسبق. 

على أن من يمعن النظر فى أدبنا العربى القديم يجد بعض الشعراء قد حصل لهم منذ زمن بعيد مثل ما حصل لبيرم، وتكاد تكون المنغصات نفسها هي التي حالت دون السكون والخلود إلى النوم في المكان، الذي من المفترض أن يكون معدًّا لذلك، ومن هؤلاء الشاعر الفاطمى ظافر الحدَّاد (ت: 528هـ) الذي وصف لنا حاله في إحدى الليالي التي قضاها في إحدى الحجرات، قائلًا في هذا:

ألا لا أعاد اللهُ ليلي بحجرةٍ

 

 

وقفتُ بها حتى الصَّباحِ على ساقِ

 

 

وللبَقِّ فيها والبراغيثُ خَلِيْطَةٌ

 

 

كَبِزْرِ قَطُوْنا ذُرَّ في حَبِّ سِماقِ

 

 

إذا ما أرانينُ البعوضِ تجاوبتْ

 

 

لنا وقعوا بالرَّقصِ إيقاعَ حُذَّاقِ

 

 

وقد أنضجتْ جسمي لهم نارُ حرِّها

 

 

ولكنَّه نُضْجٌ تناهى لإحراقِ

 

 

فبِتُّ كأنّي مِنْ حرارةِ نَهْشِها

 

 

سليمُ الأفاعي دُوْنَ راقٍ وتِرْيَاقِ

 

 

وما عجبي أنْ كدتُ أفنى بأكلِها

 

 

بَلَى عجبي أنْ كيف سَلِمَ الباقي

 

 

إلي أنْ تبدَّى الصُّبحُ بعد تباعدٍ

 

 

فداركتُ مِنْ نفسي بَقِيَّةَ أَرْمَاقِي

 

 

فبادرتُ نحـو الـبابِ أطـلبُ مَلْجَأً

 

 

فسُبْحانَ مَـنْ أحـيا ومَـنَّ بإطلاقِ

 

 

 

      وفي التعليق على هذه الأبيات نستأنس بما ذكره الدكتور حسين نصار في كتابه (ظافر الحداد شاعر مصري من العصر الفاطمى) من أن هذا الشاعر وصف في شعره نوعين من الدُّوْر: الأول، دور الخلفاء والوزراء، والثانى؛ الدور التي سكنها هو وأمثاله من عامة الناس، كما ذكر أن ارتباط الشاعر الشعورى بهذا النوع الثانى من الدور، هو الذى جعله يفلح في تصويره، ويكشف في وصفه له عن روح ساخرة، واتجاه للسرد القصصى، ومن هنا نستطيع أن نجد أكثر من صفة وقاسم مشترك بين كلام بيرم وأبيات ظافر السابقة؛ فكلا الشاعرين قد استعمل طريقة الحكى في حديثهما، كما أنهما قد عُنيا بالتفاصيل التي تكسب هذا الحكي بعدًا دراميًّا ملحوظًا، وهما كذلك قد توافقا في ذكر بعض الحشرات (البق، القمل، البراغيث، البعوض) التي حرمتهما النوم، وسببت لهما ضررًا ملموسًا، كاد ظافر يهلك منه. 

      وزمن الحكي ونهايته موطنان من أهم المواطن التي تشارك فيها ظافر وبيرم؛ أما الزمن، فلم يكن سوى ليلة واحدة، انقضت بطلوع الصبح، الذى كان نهايةً لقصتيهما ومخلصًا ونجاة لهما من أسر المكان/ الحجرة، وإلى جانب ما سبق نلحظ أن الفكاهة التي تخللت نصى هذين الأديبين قد مُزجت بالألم، وشفت عن نوع من الحزن والرثاء لحاليهما، فيما عُرف باسم (الكوميديا السوداء).

      ولا ريب أن هذا التقارب - على مستوى البنية والناتج الدلالى والوجداني وربما التخيلي – بين أبيات بيرم التي كُتبت باللغة العامية وأبيات ظافر التي كُتبت باللغة الفصحى ليعيد إلى الواجهة تلك القضية التي عُني بها أصحاب النقد الثقافي وغيرهم ممن امتعضوا من فكرة الثنائيات الضدية، ورفضوا تفضيل الأدب الرسمى، لمجرد كونه أدبًا رسميًّا، على الأدب الشعبى، لمجرد كونه أدبًا شعبيًّا، أو الانتصار للقديم لقدمه وطرح الجديد لحداثته، كما أكدوا عدم الاكتفاء بالجمالي أو البلاغي أو الشكلى أداة للحكم والتحليل، وأن يتسع النقد ليكون أداة في نقد الخطاب والبحث في أنساقه المضمرة، وفيما هو مطمور في طبقاته، وقابع خلف أقنعته اللغوية.