أرسلت صورة وكلمات ودودة عبر خاصية "الفويس نوتس" لمعايدة صديقات بناتي بأعياد ديسمبر الماضي.
باليوم ذاته، جائتني ابنتي، وأَسَرَّتنِي بإبتهاج صديقاتها لرسائلي واطلعتني على الردود، ثم همست: زميلاتي آثرْن الرَدّ كتابًة رُغْم سعادتهن برسالتك ليقينهن ببشاعة صوتهن!
لا تسعفني الزفرات ولا التنهيدات حسرات على صبايا ريّانات حزنّ الحُسن لا بل والفتنة، ثم يَغْمُطن أنفسهن لمعاناتهن "الديسمورفيا" أوالصورة المشوهة عن الذات أو الجسد بإعتقادهن أن صوتهن قبيح أو صورتهن دون المستوى!
دهشتي شبيهة بتلك التي اصابتني حين اطَّلعت على ما خطه "كافكا" بمذكراته :"كوني أفتقد لقدرات لغوية"!
لقد عاش ومات أحد أكابر من كتبوا بالألمانيّة، جاهلًا بقيمة كتاباته، حتى أنه اوصى بحرقها، على أن أعماله -حتى الغير مكتملة منها، بل ورسالته الشخصية لوالده- قد أجري حولها عشرات الدراسات النقدية!
ولقد لَمست عوامل مشتركة في الأسر التي يُعاني صِغَارها من "الديسمورفيا" منها:
-إعلاء اللوجستيات على الإنسانيات وغلبة السلوك العملي على العاطفي فحتى مهاتفاتهم عبر الجوال تكون لأغراض لوجيستية، فالبعض يرتكز في قيمته الأبائية على الإعالة المادية ثم يندهش لتفكك علاقته مع من هم أبناء عصبه عقب استقلالهم الإقتصادي.
تلك العائلات توفر الكهرباء والنور لأبنائها لكنها تبتر عنهم الضياء بدفئه.
يقومون بتأمين العلاج لكن ينزعون الفاعلية من الدواء حين يتركون وجوه أبنائهم عليها عَبْرَة وأفئدتهم ترهقُها حَسرة.
موائدهم عامرة بالجداء وضروب الطير لكنهم يجبرونهم على تناولها بشراب الأسى المصقل بالمرار.
ينفقون ببذخ على التعليم، وحضور مجالس الأباء مُقدس، كما أن العناية بالمعيشة المرفهة متوفرة، لكنهم يُعْوِزُنَهم إنسانيًأ ويهمشونهم في هام وهيّن، عدا أن لُغة التخاطب معهم تتم من أرنبة الأنف وبلسان متثاقل، هازئ، حيث تَصْطَكُّ الأَسْنان وتَحتَشِد الجَبْهة، والخدّان وعصب الوجه لإعلان الغضب مع تحالف نبرات صوت القرار والحاد وتحديج العيون، ناهيكم عن صفق الأبواب والتندر من مصائبهم علنًا.
عدا أن الوجه صارم لعصافير الدار وبسّام للأصدقاء، وخفض الجناح للرؤساء والبطش للأبناء! ثم الصفع بالنظرات والركل بالنعوتات القاسية، والسُباب يُقْذَف حِمَم، والصمت مُسَرْبَل بالتوعد، ثقيل كهموم تسقط همم، ودماء الكرامة محيطات تُخَضِّب الوسائد وتنتهك براءة طفل مسجّى في سريره، يتوسد كفيه، لكن هيهات أن يَقْلَق الربّان، فمهما نبهته أن إبنه من صلبه
ومهما أقسمت عليه إلا أنه عازم على أن يحول الصُلب لهَشِيم!
-يريدونهم كحبة في مسبحة الإمام على حد وصف "نزار" ملتزمين بالحدود الموضوعة، وحبذا لو مثّل الإبن دور المؤمن بوجاهة عقيدة الصَرَامة التي يعتنقها الأباء عن أسلافهم، وليته يؤثر النقل على العقل والتسليم على الفهم والإتباع لا الابتكار والخَلْق.
-الركون لتربية الأبناء "بويلكم وويحكم" عوضًا عن تقديم القدوة، أو بالسليقة على نهج "هذا ما وجدنا عليه أبائنا"، أو بسياسة "الدِچا فو"، فالأمر لا يحتاج لدراسة الصحة النفسية، بل مجرد الإتصال بماما، وكأننا بإزاء البحث عن وصفة "ستي" الخاصة بالشاكرية!
-الميل للثرثرة عن الأبناء لا التحدث معهم -إلا للجلل- وأحياناً التحدث عنهم -في حضورهم- بصيغة الغائب!
الأحاديث تكون على هيئة وصايا، تحذيرات وأوامر، علمًا بأن عدم التباسط مع الصغار في الصغائر لن يجعلهم يُفضون للأهل بما في طويتهم عن الكبائر ليقينهم أن العناية بنفسياتهم ليست من أولوليات ذويهم. وهبّ أفصحت بُنَيَّة لوالدتها عن عنت زميلتها، فسوابق الأم قد كرّست سياسة الإنكار دون التقصي، فتُقسر الصغيرة نفسها عن الشكوى قسرًا أن يفضح صَمتها بعذاباتها، فتعمد لللامبالاة وإن سامها ذلك وخزات بالقلب، بل تئد قهرها في مهده، لأن حلم الفوز بيانصيب الحنان العائلي غير مسموح له بمداعبتها.
- ثمة شعور بالعدل يُخَالِج الأهل عند التوثب للضغط على بَنيهم لحِساب الغير الذين يعاملون "كموز المستورد" فيما يعامل الأبناء "كفول حيراتي". عدا أن الجرائم النفسية طبيعتها "ميكروسكوبية"، يسهل الشعور بها فيما يصعب إثباتها، سيما أن الأهل يمتلكون أنجع الذرائع المسوغة للتنصل، ثم أن الإنكار يرفع عنهم عبء مواجهة مسؤولياتهم في الدفاع عن مواليهم، كما أن تَّحَيُّزُهم للغير يلوح لهم بحيازة نوط العدالة لعدم الإنحياز للأبناء.
لن يغيب عن الأهل الإحساس بالذنب تجاه صغارهم، لكنه سيتراجع عن حاشية الشعور الذي سيحتل مركزه لوحة العدل الزائفة والمحمودة من الأغراب مهما تجرع الصغار علقمية ثمالة المظالم في كأس الكرامة ومهما ارتابوا في جدارتهم بالإستحقاق.
تلك النوعية من الأهل تحبط الخفقات البريئة المنتحبة على عتبات حلم الإنصاف، ثم لا يجدون في احباطهم تجافًيا للعطف، فمشاعرهم تجاه صغاهم قد أهلكها العطب.
بالنهاية، يذوب الأبناء كمكعب ثلج بكأس القهر حتى يحسب الأباء أن وجناتهم ما خمشت قط، فنزيف الكرامة الدامي يَعشَى عنه البصر، وقلما تهتدي إليه البصيرة.
- منابع العنف المنزلي ناعمة لأن منشأها الرحم الذي يتوقع منه الإبن الأَمَان والحنان، فهم من هزوا مهده، لكنه فوجئ بهم كسبب رئيس في اهتزاز شخصيته، ثم أن خطورة العنف الناعم في إعاقته لإحساس الأهل بتبعاته على الأبناء، فقد ران على قلوبهم ما َيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
-تبعات العنف يفرد لها أسفار وأدناها الشعور بالتهميش وتدني تقدير الذات، وضعف الإنتباه والمهارات الإدراكية ما يفضي لصعوبات التعلّم، عدا الإخفاق في العلاقات الإجتماعية، بالإضافة لإعاقات بالوظائف التنفيذية للدماغ، وخلل في الصحة النفسية للأبناء تصل للإكتئاب الذي قد يدفع للإدمان، وقد يفضي للإنتحار، فأجهزتهم المناعية النفسية تصبح غير فعالة، فينسلون للتصحر داخل عزلتهم مع الهواتف، الحواسب، الإباحيات، الشره في الطعام أو قد ينساقوا لعلاقات مدمرة وجدوا فيها "قبول" لشدة ما لاقوا من صَدّ. أو قد يبصقهم أصدقاء سوء فينفتحوا على التطرف، ثم يندهش الأهل لعدم السماح لهم بالإقتراب من عوالم أبنائهم إلا في النادر من مختلس الفرص.
- فرض مسافة بين الأباء والأبناء أقرب للتي بين المديرين والموظفين، وفي حين ينكرها البعض، فهناك من يعترف بها ولا يسعى لتقليصها، بل يجاهر بعدم تطلعه لحب صغاره، فحسبه الإحترام، مع استعذاب رؤية طوابير الأبناء، فيضان قِيَانِ جاثٍ يرسم مظاهر التبجيل لناموس الطبيعة، أو ذباب كلما ذُبَّ، آب، ثم أن عدم اكتراث الأهل لهشاشة علاقتهم بالأبناء يَشي بِعَدم إدراكهم لكونهم المرساة الوجودية الأولى لهم.
- تعويل تلك الأسر على المُسَلمات التي تُرسخ لمكانة الأباء كزبائن -دائمًا على حق- فكرامة الأبناء لا ديّة لها من قبل مشايخ القبيلة وسدنة القمع ما يشجع البعض للتعاطى مع صغاره كموظف قطاع عام يضمن راتبه دون شرط الكفاءة.
ثم أن التعنيف يتم خفية، ما يجعل الأباء آمنين من العقوبة، وإن تم الإفصاح عنه، فهو مُبَرر ومُمَرر من المجتمع، والصفح عنه إجباري، فتجفل الأسر عن آثار وعقابيل ما ارتكب.
لكن يَظَل الأسوأ من التسلط هو صدوره ممن يمنحون الورود والرصاص في وجبة "كومبو".
كذلك، تندرج مخاطر التعنيف الأسري تحت بند الأخطاء التي تسرق من المستقبل فتكون العواقب "بِكُلفة عُمْر" من زيجات أو خيارات دراسية أو وظيفية فاشلة ومهدرة للحياة.
-لطالما كان لأوامر الأبائية في نفوس الأبناء ما لا قبل لهم على الإستهانة بها ولا على إستساغتها بأريحية، فيضطرون للإذعان حتى تؤول نفوسهم لشراذم تتفاقم فيها شُعلة النقمة لتراكمات استثارتها تلك ضغوط.
ومع هذا، يصعب على الأهل الإعتراف بالخطأ، فيكون إغراق الأبناء بمشاعر التقصير ونكران الجميل خيارًا أسهل لإطمئنانهم لكون صِغارهم يشعرون بالصَغَار أو المديونية المعنوية للأبوين، فإغراق الأبناء بمشاعر الذنب لهو تأمين معنوي غير مُكلف، بل جَالِب للعَطْف وطَارٍد للتكاليف ومعفي من المسائلة.
-الاحتفاء بالصغار في تلك الأسر قيد "بسمعنا واطعنا" كما أن بعض الأباء يشرطون اسْتِعْدَادهم لإلقاء عظمة حنو أو حشفة حنان، بحيازة أبنائهم لنوط التفوق.
فيصل للصغار أنه غير مسموح لهم بكفاءة أدنى من أترابهم، فهم محط مقارنات مجحفة مع الغير لا تضع بعين الإعتبار الفروق الفردية أو الظروف الإجتماعية أو الإقتصادية أوالميول، القدرات أوالعجز، أما الرفق فسيصلهم كمكعب السكر يقدمه الحوزي للحصان في أويقات الصفا إن أحسن السلوك، ولم يخرج عن سير القطيع.
فلا عجب إن اصيب الإبن بمتلازمة "Impostor syndrome"
فيؤمن باستحالة تحقيقه لأي مُنْجَز، وإن حقق نجاحات مدوية يظل معتقدًا أنه نصّاب خدع مُحيطَه، وهو ما صرّحَ به أَشْهَر إعلامي عربي، كما أعربت ملكة جمال سابقة عن إفتقارها للحسن، فأمها كانت ترضعها: تذكري بنيتي أنك -للأسف- سمراء كعمتك!
بالمقابل، فجُل أخطاء الأهل مع الأبناء لها مسوغاتها التي تنحصر في استخدام الشدّة لمصلحتهم كضرائب الحكومة المفروضة لمصلحة الشعب.
فجفائ الأهل سالٍ ولقائهم قالي كأنهم وجدوا في مصطلح "مصلحة" معاذير لتبرير مجافتهم للرفق في التهذيب.
هاتفت يومًا سيدة، فحدثتني باللطف في منتهاه، ثم إستأذنت، فنادت وحيدتها كما يصرخ أحدهم على جروه "روي" لتُسْمعُني كيف أنها تَأمُر فتُطَاع، غير آبهة لمشاعر طفلتها.
- لقد أردت أن أكون كل شيء لم تكنه لي أمي: هكذا اعترفت لي "ايلودي" صديقتي الفرنسية، ثم أردفت: مع هذا، أدخل يوميًا في صراعات تافهة فأقارع ولدي لحثه على قصّ شعره حتى أدعو صديقاتي لنضغط عليه ككومنولث، عدا أوامر المذاكرة وغلق مقابس المكيفات بخلاف نزاعات الهاتف.
ورغم عدم استخدامي للعنف إلا أنني لا يمكنني التحدث لزوجي بنفس نبرة الصوت الآمرة التي أخاطب بها أبنائي.
ترى، لما نُهَذب براعمنا بالسيوف ثم نسقى سواهم من لذائذ أصواتنا الندية؟
كان وسيظل رأيي أنه لاغنيمة من معركة تكون كُلفتها علاقة سيّئة مع ولدك مهما كانت مسوغاتها. ثم أن الأبناء يجهلون كلفة "اللوجستيات" التي نتكبدها بقدر ما يحزّ في نفوسهم رؤية بيوتهم مزيّنة للضيوف الذي تقدم لهم القدور الحاتمية فيما يُلْقَى لأبناء الدار قُدير شِواء مُضَهَب.
والمؤسف أنهم يُضْمِرون الحِنْق، لكن تبقى الحموضة يَلجُمها الخوف من الأهل في ظل سوابق الإنكار التي قوبلوا بها مرارًا حين اعترفوا بمشاعرهم، ما يستدعى الكثير من التفسيرات والتعليلات والتفاصيل التي يصعب عليهم بلورتها في مفردات، عدا أن حجم التراكمات تتجاوز ذاكرتهم وقدرتهم على إطلاق العويل المعتمل في نفوسهم، أو خشية الإفصاح عن حفريات التحقير المنحوتة في حمضهم النووي مدفوعين بعواطف مشوشة ومربكة جراء مهارة الأهل في عزف سيمفونية الرصاص والورود المُرْبِكة للإدراك، فيسكنون في السبت كمهلة تفكير لرفضهم لمقولة أن سياسات التعذيب كانت نبيلة، ثم يأتي الأحد فيمضغون ضغائنهم تمهيدًا لوضع حد بإضراب الإثنين الذي يتبعه انقلاب الثلاثاء ثم تأتي جمعة الغضب لتطيح ثورتهم بعرش أباء طالما كمموا الطفولة.
صارحت صغيرتي: "أحسب أن نصيب الأم المعنفة من محبة الأبناء سينحصر في منشور رثائي على صفحات التواصل عقب رحيلها".
ضحكت وصدرت من خلف حلقومها "هاء" هازئة: ولا حتى هذا المنشور، ربما في الماضي كان الأبناء يغريهم حب التأكيد على كونهم نبت لسلالات طيبة، أما اليوم "الترند" يتجه في إشهاد العالم على حجم التحديات التي واجهوها ممن كان يفترض الوثوق بأهليتهم لتقلد لقب أهل!.
فيَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ انجبوا قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَبنيكُمْ ذيول قسوة قد تنشب في صلب العلاقة، ففواتير العنف تهدد أهلية الأباء لمكتبساتهم الموروثة بالمقدس.
ويا من تلوحون بتحايا السياط لإسقاط هامات الطفولة البرودة ضاربة للبراعم خلف القضبان والحنق صادح كبركان فلترفعوا بيادتكم عن أعناق الطفولة، فدور المسنين عامرة بحصاد الانتقام ومن يعشى بنور بصيرته..فالعمى أولى بمقلتي جهول
وأنت أيتها الصرامة
اخلعي عنك غطرتك الأبوية
ولتُنحَر الباترياركية الداعرة
إحتفالًا بعيد كرامة الأبناء