السبت 20 ابريل 2024

بيرم التونسي شاعر الأوجاع للشعوب العربية

مقالات11-3-2023 | 02:59

شكل بيرم ومجموعة من أبناء جيله طلائع القوى الأدبية فى مصر والعالم العربي الذين وَظّفوا ما يملكون من مواهب أدبية فى خدمة المجتمع

على الرغم من حرص بيرم على قراءة أمهات الكتب، إلا أنه كتب كلماته الأولى بالعامية المصرية بعنوان "المجلس البلدي"؛ تلك الأبيات التى ذاعت في الإسكندرية كلها

ترددت أم كلثوم كثيراً في غناء «الآهات» لولا إقناع الشيخ زكريا أحمد لها، وعلى الرغم من ذلك حققت الأغنية نجاحاً قوياً جداً وكانت تذاع فى كل الإذاعات العربية من المحيط إلى الخليج

 

ظل صوت الشعراء الشعبيين فى العالم العربى رنانًا منذ بداية القرن الماضى، ناقلًا لمعاناة الناس، مقلقًا لعروش الطاغية والمستعمرين لبلادنا العربية، كما شكل الأدب الشعبي شعرًا وزجلًا وأغانى وسيلة مهمة في ألصَق الفنون بالجمهور العام؛ لأنه أكثر التزامًا بقضايا مجتمعه، وأميَل إلى الاتصال بهم ومعبرًا صادقًا عن هموم الناس وأوجاعهم وآمالهم. 

لذا، فهو يغنّي بصوت الشعب وبروح مأساة الشعب، معبرًا عن نفسه كفرد يملك أدوات قيمة تساعده على بناء أبيات معبرة عن نفسها، ولأنّ قضية الأدب الشعبي، في المقام الأول، هي الاتصال بالجمهور في المقاهي والساحات والأرصفة ودور السينما، من هنا كان هذا الأدب أكثر دلالة على طبيعة الواقع وسوسيولوجيا المجتمع.

عاش الشاعر بيرم التونسي 68 عاما (1893 - 1961) وحسب ما مدون فان اسمه في شهادة الميلاد (محمود محمد مصطفى بيرم) ولقب التونسي أطُلق عليه من سكان حى السيالة بالإسكندرية؛ وينتمي إلى عائلة "بيرم " التي جاءت من "إيالة" تونس إلى مصر عام 1836.

ففي ظروف غامضة لا يعرف سببها جاء جد بيرم السيد “مصطفى بيرم” من تونس رغم أنه ابن شيخ الإسلام للمذهب الحنفى، ورئيس الفتيا في تونس وقاضي القضاة، فالأمر شديد الغموض عكس غموضه على ميلاد "بيرم" الذى ولد في حى السيالة في 4 مارس 1893. 

 ورغم ذلك سجلت شهادة ميلاده فى حي ”الأزاريطة” تلك العائلة التي امتهنت صناعة الحرير الموشى بالقصب، وكانت تحتفظ بكثير من المزاج المغاربى، المتمثل فى الأهازيج وكانوا كثيرا، ما يستخدمون شعر الربابة في مغازتهم بالميدان ليغني وينشد المواويل والسير الشعبية.

وشهدت الإسكندرية فترة التوهّج الحضارى في العصر الحديث، وكان شأنه شأن الأطفال تلقى تعلميه عند الكتاب، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية ووصل إلى المرحلة الخامسة ولكنه لم يكمل تعليمه، إذ اضطر إلى العمل بعد وفاة والده في سن مبكرة، ولكن كان لديه اهتمام كبير بالشعر والأدب.

وحرص على قراءة أمهات الكتب، وبالرغم من ذلك، كتب كلماته الأولى بالعامية المصرية بعنوان "المجلس البلدى"؛ ومن هنا بدأ يذيع صيت هذه الأبيات في الإسكندرية كلها وتطبع منها 4 آلاف نسخة وهو عدد كبير في ذاك الوقت وتبدأ موهبة بيرم بالظهور للناس".

شهدت مدن مصر والعالم العربي في بداية القرن العشرين حراكا ووعيا في قطاعات واسعة من حياة الناس، سواء على مستوى الفكر الثقافي والاجتماعي والفني، أو على مستوى الإبداع الأدبى، وكان لبيرم من الذين أسهموا في تنمية هذا الوهج العظيم في كلّ مستوياته؛ ذلك لأنه على رغم حياته الخاصة الفقيرة، سَلّح نفسه بثقافة عصره التي رَفرَفت بجناحَين فكريّين من التراث والمعاصرة.

وشكل "بيرم" ومجموعة من أبناء جيله طلائع القوى الأدبية في مصر والعالم العربي الذين وَظّفوا ما يملكون من مواهب أدبية في خدمة المجتمع، وكان الواقع وصراعه مع المُحتلّ الإنجليزى والفرنسى، وفى مواجهة الفقر والجهل والمرض التى كانت المحاور الأساسية التي تشكّلت منه وفيه أدوات بيرم كشاعر معاصر.

بين أوجاع الغربة والاحتلال

وتعد قصة اعتقال ونفي بيرم التونسي شهادة على ما مر به الكثير من الأدباء والشعراء العرب من ظلم المحتل؛ مثل إيليا أبو ماضى وميخائيل نعيمة جبران خليل جبران، ورشيد سليم الخورى، وعبد المسيح حداد، وندرة حداد، ووليم كاتسليف، ووديع باموط، وإلياس عبد الله، ونسيب عرضة الذين شكلوا عقلنا جميعًا ثقافيًا وعربيًا واجهة المحتل وواجهة الانظمة المستبدة.

محطات حياة بيرم التونسى

وكانت أبرز محطات حياة بيرم التونسي هي النفي في أخريات شهر أكتوبر 1919 وبعد مذكرة من البوليس السرى البريطاني إلى قنصل عام فرنسا في المنشية بالإسكندرية طلب منه القبض على بيرم لأنه يكتب قصائد ضد الجنود البريطانيين كما أنه تناول وعرض بالسلطان “فؤاد” وبالفعل كما ذكرت في ذلك التاريخ.

وفي ثورة 19 إبان قوتها وتاثيرها في الشارع المصرى، ظهرت أشعار بيرم ومواقفه المساندة وشكل مع سيد درويش ثاني شحن همم المصريين، مما دفع سلطة الاحتلال إلى إرسال عسكريين أستراليين إلى منزله الكائن خلف مسجد المرسي أبو العباس، وقبض عليه وأرسل إلى “كراكون الأجانب” “العطارين الآن” وظل هناك بضعة أيام ثم رٌحل إلى القنصلية الفرنسية في المنشية حيث تم التحقيق معه ثم صدر قرار بعقوبة النفي والذهاب بلا عودة إلى تونس أولاً ثم بعد ذلك فرنسا.

نفي إلى أرض الأجداد .. تونس

نَفي بيرم التونسي من مصر إلى تونس وشكل هذا الحدث تأثيرا فى مسيرة حياته، فقد أُخرِجَ مُرغماً من وطن ولد فيه وعاش بين وأهله، إلى وطن آخر لا يعرف عنه الكثير، ليعانى ضراوة الحياة مُغترباً وحيداً بلا هوية تساعده على الاستقرار، وبلا هدف وبلا مصدر رزق فعمل عتالا وجر عربة لبيع الخضار والفاكهة، في سوق سيدى سريدك، مُتنقلاً بفقره وحاجته بين مساكِن، كانت في أحسن الأحوال غرفة في فندق صغير، وهنا أصيب بداء الربو الذى ظل معه حتى وافته المنية مع جملة من الأمراض مُجتمعة نخرت جسمه ليصاب بجملة من أمراض وعلل.

المرأة في حياة بيرم 

وكانت المرأة الشعبية (في الحَى البلدى) هي الصورة الحية فى وجدان هذا الشاعر، ولم تفارقه حتى وهو في مَنفاه بين جميلات مارسيليا وباريس ومونبيليه والشام  

 

إنّ عذابات الحب في شِعر بيرم ليست عذابات رومانسية، فحبيبة الرومانسى تكون غاية في الجمال الحسّي والمعنوى، أمّا حبيبة بيرم فراسخة في أغلال القهر، وعلى رغم ذلك هي أجمل من بنات أميركا ومن حسناوات بريطانيا، الوَجه الاستعماري البَشِع الذي خَيّمَ على وطن الشاعر ردحاً طويلاً من الزمن، وكان هو نفسه أحد ضحاياه.

ثروة أدبية وإعلامية كبيرة

عرف عن بيرم شعره الشعبى لكن أيضا كانت له إسهامات أدبية وصحفية وضَربَ بيرم التونسى بقَلمه في غير ميدان من ميادين الأدب، فكانت له نِتاجات في شِعر الفصحى والعامية، وفي المقال الصحفى، والمقامات والقصص والمسرحيات والتمثيليات والفوازير والقصة القصيرة، كما عرف عنه إسهاماته في كتابة المقالات السياسية التي استخدمها شاعرنا في مواجهة الظلم والاستعمار، وتنوعت فى قضاياها حول فلسطين والجزائر وما جرى لهذا البلد على يد المحتل الفرنسى والشام وما يجرى فى العراق. 

كما أسهم ومجموعة كبيرة من الكتاب والأدباء المغتربين فى باريس مجموعات ضغط على الشارع الفرنسى بهدف إظهار حقائق ما يقوم به الجنود الفرنسيون في تونس والجزائر ، وكتب فى صحيفة " البيرق " التي تصدر فى باريس عدد كبير من المقالات وأيضا في صحيفة الشرق الأدنى التي أسسها الكاتب الصحفي اللبنانى الياس الحويك والتي نشر فيها بيرم عددا من القصائد الشعرية التى عبرت عن هموم أبناء جيله من المغتربين . 

لكن إبداع بيرم التونسى تواصل عبر بقَلمه فكانت له نِتاجات فى شِعر الفصحى والعامية، والمقامات والقصص والمسرحيات الشعرية التي جسدت أيضا معاناة الناس فى مصر والعالم العربى، لكن ظل شعره يطارد آذان الناس كما فى العديد من الأغانى فكتب لمشاهير المطربين والمطربات، قام بتلحينها مجموعة كبيرة من مشاهير الملحنين في عصره، ومنهم: سيّد درويش، زكريا أحمد، محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش.

بيرم وأم كلثوم ثنائى المجد والإبداع

ظلت ثنائية بيرم وأم كلثوم لغزا حير الكثير من الباحثين والمختصين، فعلاقة بيرم بأم كلثوم علاقة متجذرة منذ أول معرفة أم كلثوم ببيرم فى بيت الشيخ زكريا أحمد الذى دعا بيرم وأم كلثوم على العشاء في شهر نوفمبر 1940 وكانت أم كلثوم تعرف بيرم جيدا ، وهي من طلبت من الشيخ زكريا أن ترى بيرم والذى كان قد رجع إلى مصر بعد فترة طويلة قضاها في منفاه، وقد كان بيرم مشهور كثيرًا في هذه الفترة، إذ كانت قصته ونفيه قد عُرف من قبل الكثير ومنهم أم كلثوم، ومن ثم بدأت علاقتهما العملية معًا، وقام بيرم بتأليف عدة قصائد باللغة العامية من أجل أم كلثوم، التي كانت في تلك اليلة تستمع لكلمات شاعر كبير له تأثير كبير على المتلقى الذى تحرص أم كلثوم على أن يصل غناؤها إلى قلوب الجميع، غير أن مسيرة 33 عملا بين قطبى الغناء والشعر العامى كانت بدايته في أبريل عام 1941، بأغنية "أنا وأنت" التي كانت تترد في كل أنحاء مصر والعالم العربى، ثم يتبعها بأغنية أخرى وهي أغنية «كل الأحبة» لكن الإبداع وصل بين الأقطاب الثلاثة ثومة وبيرم والشيخ زكريا برائعة «إيه أسمى الحب»، وأغنية «الآهات» والتي ترددت أم كلثوم كثيراً في غنائها لولا إقناع الشيخ زكريا أحمد لها، وعلى الرغم من ذلك حققت الأغنية نجاحاً قوياً جداً وكانت تذاع في كل الإذاعات العربية من المحيط إلى الخليج، ومع الأيام غنت أم كلثوم هو صحيح الهوى غلاب و أهل الهوى، أنا فى انتظارك، شمس الأصيل، الحبّ كِده، كلّ الأحبّه اتنين وتظل الأغنية الوطنية في شعر بيرم حاضرة بصوت أم كلثوم بأغنية "صوت السلام"، والتى حصل بيرم بسببها على ميدالية برونزية من المجلس الأعلى للفنون والآداب.

وغنّى له محمد عبد الوهاب: مَحلاها عيشة الفلّاح، بَعد الصَبر ما طال.واشتهرت أسمهان بأغنية «أنا اللي استاهِل كل اللي يجرالى»، التي كانت من كلماته، وفريد الأطرش فغنى من كلماته: أحبابِنا يا عينى، آه في شْبَاكَك يا قلبي.

 

وغنّى له الشيخ زكريا أحمد: يا أهل المَغنى، ولحّن له مجموعة كبيرة من الأغاني، منها: مِن غير حُب لـ سعاد محمد، مِن يوم ما عرفت الحب لـ فايزة أحمد، وحده ما يغلِبها غلاب لـ محمد قنديل.

 

هموم الشرق

 

حاول بيرم أن يضع يده على جروح الإنسان الشرقى، موخِزاً تارة ومداوياً تارة أخرى وكان لهذا الوَخز أثر في اليقظة العربية لأنه اعتمد على إظهار المفارقات بشكل حاد ولاذع، فأسهمَ في إحياء العقل المصرى والشرقى، وساعده في السعي لامتلاك مصيره وفي هذا الوقت قد شاع الهجاء الاجتماعى فى أزجال بيرم التونسي، ليس بقصد إثارة المجتمع بل لتَثويره، من خلال موقفه الاجتماعى في صفّ الثورة، ومن خلال أدواته التشكيلية التي سعى الشاعر دائماً إلى تطويرها فنيّاً لتكون المُعادِل الفنى لهذا الموقف. 

 

فكان بيرم من الشعراء الذين استطابوا النقد الاجتماعي لتوعية أبناء شرقهم على المطالبة بالحرية والانعتاق من نير الارتهان وكان فى أزجاله ومواويله يحذّر دائماً أبناء الشرق من الاستعمار، وخصوصاً البريطاني والفرنسى، ويحضّهم على أن يثوروا في وجهه، ودفع الشعوب العربية إلى النهوض ومواجهة المحتل، تقول المناضلة الجزائرية"جميلة بوحيرد" في لقائى بها عام 2005 إن كلمات بيرم التونس، باتت رصاصات في وجه المحتل الفرنسى، وصوت أمل لكل الأحرار في العالم .

ليظل إرث بيرم التونسى الأدبى نبراسا لكل شعوبنا العربية التى واجهت الظلم والطغيان، وطاقة نور للمحبين والعاشقين في الإنسانية.