الأحد 28 ابريل 2024

تلك آثارنا (3) جامع عمرو بن العاص.. تاج المساجد


د. محمد ابو الفتوح

مقالات12-3-2023 | 23:31

د. محمد ابو الفتوح

جامع عمرو بن العاص

هو أقدم وأول جامع في مصر وفي أفريقيا، أطلق المسلمون عليه اسم جامع الفتح، والجامع العتيق، وتاج الجوامع، كما أطلقوا عليه أيضاً مسجد أهل الراية، وهم نخبة من الأنصار والمهاجرين كانوا يؤلفون بعض قوات عمرو بن العاص، لكن الإسم الذي لا يزال يلتصق به وينسب إليه هو جامع عمرو.

ورغم بدايته المتواضعة، ومساحته الصغيرة، إلا أن جامع عمرو كان أساس التخطيط العمراني لمدينة الفسطاط وجوهرتها، فقد إلتفت حوله الأحياء، وسيطر على حياة المدينة الاجتماعية والاقتصادية والإدارية، فقد كان مشرفاًعلى النيل شريان الحياة وكان محاطاً بالأسواق، وفي جواره كانت دار الإمارة. وقد استخدم في بداية الأمر كمقر لاجتماع المسلمين وقوات عمرو بن العاص، وكانوا أقلية فى ذلك الوقت، وقد شارك عدد من صحابة رسول الله في بناء هذا المسجد كالزبير بن العوام وعبادة بن الصامت.

 

وكما ينال الزمان من الإنسان، ينال من العمارة والبنيان، فيقوى البناء ويضعف، ويتغير ويتحول، ويشبَّ ويشيب، ولقد طال هذا المسجد العتيق من التغير والتحول الكثير، حتى لم يبق من آثار مؤسسه الأول، إلا البقعة التي شيَّده عليها مع صفوة الصحابة من رجاله في سنة إحدى وعشرين من الهجرة.

فمن مساحة صغيرة وقت انشائه لا تتعد 400 متراً مربعاً، إلى مساحة وصلت الآن إلى 13 ألف ومائتي متراً مربعاً، ومن بساطة لا تنكر، قوامها الحصباء وجذوع النخل وجريده، إلى سجاجيد فاخرة وأعمدة رخامية وزخارف جصية وخشبية. 

كانت البداية بسيطة، بساطة الجوامع والمساجد في تلك الفترة المتقدمة من تاريخ الإسلام، فكانت مساحتة صغيرة، وكان مبنياً بالطوب اللبن، وله ستة أبواب، تفترش أرضيته الحصباء، بينما سقفه مطأطأ محمول على جذوع النخل، ومحرابه مسطح، وليس له صحن، هكذا تقول كتب التاريخ عن أول بناء له.

ولأن سُنَّة الحياة التغير والتحول، فقد ظل هذا المسجد ينمو ويكبر، متأثراً بحياة الناس ومستواهم الإجتماعي، فلما ازداد أعداد المسلمين في مصر في عصر الدولة الأموية، اتسعت رقعته، وزاد عدد أبوابه،  فصارت أحد عشر باباً، وغطت أرضيته الحصر بدلاً من الحصباء، وارتفع سقفه، واستبدلت جذوع النخل التي كانت تحمله بأعمدة من الرخام، وأضيفت إلى تصميمه عناصر معمارية جديدة كالمئذنة والمحراب المجوف. فأما الأعمدة الرخامية فربما كانت مجلوبة من كنائس مهدمة أو معابد قديمة، وأما المئذنة، فلم تكن معروفة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل ترجح أغلب الأقوال أنها انتقلت إلى العمارة الإسلامية من المباني السابقة على الإسلام، بداية من صوامع المعبد القديم الذي كان في دمشق وتحتلزواياه الأربع، واتخذت للنداء إلى الصلاة، كما قيل إن معاوية ابن أبي سفيان هو من أمر ببناء أربع صوامع للآذان على أركان جامع عمرو الأربعة حسبما يذكر المقريزي، وبناها مسلم ابن مخلد الأنصاري والي مصر من قبل معاوية بن أبي سفيان عام 53 من الهجرة، وإن كنا لا نعلم شكل هذه الصوامع كيف كان، وأغلب الظن أنها كانت على شكل أبراج صغيرة مربعة على غرار صوامع جامع دمشق (الجامع الأموي الكبير)، الذي لا يزال يحتفظ بإحدى صوامع المعبد الذي بني عليه.   

أما المحراب المجوف، فأول من أدخله في العمارة الإسلامية كان عمر بن عبد العزيز عندما قام بتجديد وتوسعة المسجد النبوي في المدينة المنورة في فترة ولايته عليها أيام الوليد بن عبد الملك، وكان هذا المحراب المجوف من صنع مجموعة من البنَّائين القبط (المصريين) الذين بنوا رواق القبلة.  

وفي عصر الدولة العباسية، خرج جامع عمرو من بساطته الأولى وارتدى عباءة فضفاضة  وثوب قشيب، فزادت رقعة الجامع حتى وصلت مساحته إلى القدر الذي عليه الآن، وكانت هذه التوسعة على يدي عبد الله بن طاهر والي مصر من قبل الخليفة المأمون وكان ذلك عام 212هـ. وأصبح الجامع بعد زيادة ابن طاهر مكوناً من صحن مكشوف تحيط به أربعة أروقة، وكان هذا التصميم جديداً على عمارة المساجد، ويرى بعض علماء الآثار أنه تصميم يستمد أصله مما تركته الأمم السابقة على الإسلام، ويرى فريق آخر أنه الأروقة جاءت من بناء الصُّفة أو الظُّلة في المسجد النبوي لأهل الصٌّفة، ثم انتقال القبلة، وبناء صُفَّة جديدة مواجهة، وهكذا نشأت الأروقة لتشمل الجوانب الأربع حول صحن مكشوف كتقليد في عمارة المساجد في العالم الإسلامي. وكان عدد نوافذه 78 نافة، 17 في جدار القبلة، ومثلها في الجدار البحري، و22 نافذة في الجدار الشرقي يقابلها نفس العدد في الجدار الغربي. كما زادت أبواب المسجد فبلغت 13 باباً، 5 منها في  في الجدار الشرقي و4 في الجدار الغربي، وباب في جدار القبلة، وثلاثة في الجدار البحري.

وكان للجامع ثلاثة محاريب على عهد ابن طاهر: محراب في وسط جدار القبلة، والثاني على اليمين في منتصف الجزء الغربي من هذا الجدار، والثالث على اليسار في منتصف الجزء الشرقي منه. وهذا الأخير يشغل مكان المحراب الأصلي الذي اختطه عمرو بن العاص. وأشار المؤرخون إلى أن المسجد كان قد بُيِّض وزُخرف بزخارف نباتية متأثرة بالزخارف البيزنطية بعضها محفوراً على الخشب وبعضها كان محفوراً على الجص، وذُهِّبَت تيجان بعض أعمدته.

وحدث إبَّان الحملة الصليبية على بلاد المسلمين وتحديدا عام 564هـ، أن خشي الوزير شاور، آخر الوزراء الفاطميين،من احتلال الصليبيين لمدينة الفسطاط، فعمد إلى إشعال النيران فيها إذ كان عاجزًا عن الدفاع عنها، فاحترقت المدينة، وكان مما احترق وتخرب وتهدم جامع عمرو بن العاص. وعندما ضم صلاح الدين الأيوبي مصر إلى الدولة الأيوبية، أمر بإعادة إعمار المسجد من جديد وكان ذلك عام 568هـ، فأعيد بناؤه وتم توسيع محرابه، وكُسي بالرخام ونقش عليه نقوشًا منها اسمه.

لم تقتصر وظيفة الجامع على آداء الصلاة فحسب، بل كان مكاناً تعقد فيه محكمة لفض المنازعات الدينية والمدنية، إضافة إلى أنه كان المكان الذي تجمع فيه الأموال لليتامى والفقراء. ثم زادت المساحة الكلية للمسجد تدريجيًا حتى وصل إلى شكله الحال. ويتكون الجامع الآن من صحن أوسط مكشوف تحيط به أربعة أروقة ذات أسقف خشبية بسيطة، أكبرها رواق القبلة، الذي يحيتوي على محرابان مجوفان يجاور كل منهما منبر خشبي، كما تُوجد بجدار القبلة لوحتان ترجعان إلى عصر المماليك.كما يوجد بالركن الشمالي الشرقي لرواق القبلة قبة ضريحية يعود تاريخها إلى عبد الله بن عمرو بن العاص. أما صحن الجامع فتتوسطه قبة على ثمانية أعمدة رخامية مستديرة الشكل، وكانت نوافذ الجامع القديمة مزخرفة بزخارف جصية لا زالت بقاياها موجودة بالجدار الجنوبي، أما عقود الجامع فى رواق القبلة، فإنها ترتكز على أعمدة رخامية ذات تيجان مختلفة استجلبت من عمائر قديمة.

وللجامع مدخل رئيسي بارز يقع في الجهة الغربية،ويتوج واجهات الجامع من الخارج من أعلى شرفات هرمية مسننة، وللجامع مئذنة ذات قمة مخروطية تعلو أحد مداخل الواجهة الرئيسيةوعلى الرغم من أن البناء الحالي يرجع إلى القرن العشرين إلا أنه مازال محتفظًا بطابع العمارة الإسلامية المبكرة.  

Dr.Randa
Dr.Radwa