كتب : محمد جمال كساب
ترجل الفارس النبيل الكاتب الكبير محفوظ محمد عبدالرحمن عن جواده ورحل يوم السبت 19 أغسطس الجاري عن عمر ناهز 76 عاماً بعد أن صرعه المرض عقب اصابته بجلطة دماغية مكث إثرها بالمستشفي لمدة أسبوعين ثم فارق الحياة تقدم في هذا البورتريه بعضا من سيرة حياته حيث ولد في 11 يونيه 1941 بقرية كفر الصيد، التوفيقية بمحافظة البحيرة.
والده كان ضابط شرطة تنقل معه في طفولته بين العديد من المحافظات، درس بعدة مدارس... ابتدائية الأقباط بالفيوم، الأميرية بالمنيا والثانوية في بني مزار بالمنيا وكفر الشيخ، ثم درس بكلية الآداب قسم التاريخ جامعة القاهرة وتخرج عام 1960 أجاد اللغة الإنجليزية وقليلاً من الفرنسية.
تزوج مرتين، الثانية من الفنانة سميرة عبدالعزيز، عمل بعد تخرجه في العديد من المهن منها محرر صحفي بجريدة الجمهورية من 1959 حتي مارس 1960 ومجلة البولين ومراجعاً بمؤسسة دار الهلال عدة سنوات بداية من 19 مايو 1962 ثم انتقل لوزارة الثقافة سكرتيراً لتحرير مجلات «السينما والفنون» وسافر من عام 1975 - 1980 ليكون مشرفاً علي النصوص بتليفزيون دولة الكويت.
ترجل الفارس النبيل عن جواده وأغمد سيفه البتار الثائر الذي ظل شاهراً له عدة عقود طويلة في مواجهة هموم الناس والوطن محارباً موبقات الإنسانية والحياة في الظلم والفساد داعياً إلي الحب والخير والجمال والسعادة مستدعياً وباعثاً جنوده الأبطال من التاريخ والتراث لاستنهاض الهمم والعزائم من أجل تحقيق الإصلاح والتقدم في عالم ملىء بالأزمات وشياطين الإنس المنتفعين والرجعيين والراديكاليين.
حقق مكانة سامقة في الكتابة الإبداعية المتنوعة «المسرح - التليفزيون - السينما - الإذاعة - القصة - الرواية - الشعر - النقد الأدبي - المقال الصحفي ..إلخ» من خلال موهبة فذة ورؤية واضحة متأملة مشبعة بأفكار الفلاسفة وإحساس الرومانسيين المحبين الحالمين بالمدينة الفاضلة لنشر الحب والحق والخير والجمال والحرية والسعادة.
امتلك الخيال الخصب بتركيبته المصرية الأصيلة محافظاً علي المبادئ والعادات والتقاليد والقيم متأثراً بنشأته الريفية بمحافظة البحيرة جامعاً صفات الكرم ودماثة الخلق وعفة اللسان، فوجهه يشعرك بالطيبة والراحة وعيناه السوداوان تتقدان بالتأمل، صوته يفيض بالشجن والهدوء، وثقافته الموسوعية والمتنوعة غطت كافة المجالات معتنقاً قول توفيق الحكيم «علي الكاتب أن يقرأ وينسي» تجلس في حضرته مستمعاً متشوقاً لحكاياته الجميلة الجذابة التي يقدمها في أعماله حيث تأخذك لعوالم أخري متنقلة بين الماضي السحيق والحاضر المعذب ومستشرفة للمستقبل مقدماً الموعظة بصدق شديد دون مواربة معلياً من شأن الإنسان في كل زمان ومكان دون تحيز للون أو جنس أو عقيدة أو لغة داعياً لقبول الآخر.
أعماله جسدت أمجاد البطولة لمقاومة الأعداء والاحتلال الصهيوني البغيض لفلسطين والدول العربية مستنهضاً الشعور القومي من أجل استعادة الأمجاد وتحرير الأوطان والحفاظ علي الكرامة والحرية والثورة.
عشق محفوظ عبدالرحمن التاريخ منذ دراسته له بكلية الآداب جامعة القاهرة وهذا انعكس بشدة علي حياته وأعماله، حيث يمثل الحنين الجارف للماضي اNostalgiaب ميداناً واسعاً لطرح أفكاره ورؤاه للحياة بحرية، فيغوص فيه منقباً عما يناسب الواقع مفلتراً ذلك بوعي شديد.
فالكتابة عنده حالة تأمل إبداعية في الحياة وما يجيش داخله من أفكار رغم صعوبتها وعذابها إلا أن متعتها كبيرة وهذا شرطه الأساسى الذي يجعله يستمر فيها.
الرقابة أجهضت عشقه للمسرح
عشق محفوظ عبدالرحمن المسرح وولع به بشكل ظل معه حلماً جميلاً رغم أنه لم يكتب به سوي حوالي 12 مسرحية. أجهضته الرقابة المتشددة والبيروقراطية الإدارية في وزارة الثقافة والقيود السياسية الصارمة حيث مثلت الصدمة الكبيرة التي تلقاها في بداية حياته الفنية عندما تقدم 1963 بأول مسرحية كتبها «اللبلاب» إلي المسئول بهيئة المسرح وظلت حبيسة في مكتبه فترة طويلة وفوجئ بالمخرج كمال حسين يتصل به ويخبره بأنه قرأها وأعجب بها وقرر تقديمها بفرقة المسرح الحديث. وقبيل عرضها اعترضت عليها الرقابة وأوقفتها مما أصابه بالاحباط الشديد؛ خاصة وأنها كانت فرصة ذهبية أن يقدم له عمل وهو شاب بمسرح الدولة وسط عمالقة التأليف أمثال توفيق الحكيم، سعد الدين وهبة، نعمان عاشور وغيرهم. وقد تكررت المأساة مرة أخري بعدها ببضع سنوات عندما أوقفت الرقابة مسرحيته «حفلة علي الخازوق» التي تناقش فساد السلطة وانفرجت الأزمة عندما طلب منه المخرج الكويتي الكبير صقر الرشود تقديمها بفرقة مسرح الخليج العربي بعدها قدم تجربته الثانية وحققت نجاحاً كبيراً جعلها تشارك بمهرجان دمشق المسرحي ثم قدم «عريس لبنت السلطان» 1978 وفي العام التالي «الفخ» بدولة الإمارات.
تلاها بمسرحيات «الحامي والحرامي» و«ليلة سقوط غرناطة»، «احذروا»، «ما أجملنا»، «محاكمة السيد م»، «الحامي والحرامي»، «السندباد البحري»، «سليمان الحلبي»، «السلطان يلهو»، «الدفاع»، «بلقيس» و«كوكب الفيران» التي كتبها باللهجة العامية.
استطاع محفوظ عبدالرحمن من خلال مسرحياته القليلة التي قدمها أن يحتل مكانة كبيرة بين كتاب المسرح العربي لعب بطولتها كبار النجوم في أغلب الدول وحققت نجاحاً كبيراً.
وقد يتميز عالمه المسرحي بمحاولة التأصيل لمسرح عربي من خلال استدعائه للتراث الشعبي وإعادة صياغته برؤي معاصرة معبرة عن اللحظة الآنية طارحاً مشاكل الناس والوطن العربي من خلال مضمون يحمل الطابع التاريخي الاجتماعي، مستخدماً الرمز الذي يخفي وراءه الكثير من الدلالات السياسية التي أراد طرحها علي المتلقي من وراء ستار شفاف خوفاً من الصدام بمراكز القوي المختلفة مستخدماً اللغة العربية الفصحي البسيطة الشعرية المعبرة عن قضايا إنسانية عامة، تنطق بها الشخصيات بسهولة وتلقائية متماشية مع طبيعتها وثقافتها وبيئتها مكثفاً الحوار بجمل قصيرة تحمل الدلالات في بناء درامي محكم بإيقاع سريع لاهث يساهم في تدفق الصراع المشوق المتنوع.
معبراً عن عالمه الذي يغشاه القلق والوحشة والظلم والقهر ساعياً إلي الحب وتحقيق السلام والحرية والعدالة ومن أجل هذا نراه يستخدم الحكايات الشعبية فتبرز عناصرها المميزة مثل ظهور الراوي بشكل جديد مشاركاً ومعلقاً علي الأحداث، التخفي والمفاجأة، الميل إلي توظيف الحكم والأمثال، انتصار الخير علي الشر في النهاية لإحداث التطهير الذي دعا إليه أرسطو.
سينما وتليفزيون
كتب محفوظ عبدالرحمن الكثير من سيناريوهات الأفلام الروائية الطويلة والتسجيلية منها: «ناصر 56» بطولة النجم الراحل أحمد زكي، إخراج محمد فاضل، ويتناول فيه فترة العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956 من انجلترا وفرنسا والكيان الصهيوني، تأميم الزعيم جمال عبدالناصر لقناة السويس.
و«حليم» بطولة أحمد زكي الذي يرصد السيرة الذاتية للفنان الراحل عبدالحليم و«القادسية» عام 1981.
ومن مسلسلاته الشهيرة «بوابة الحلواني»، «أم كلثوم» بطولة صابرين، «عنترة»، «سليمان الحلبي»، «الزيني بركات»، «الزير سالم»، «أهل الهوي»، «ساق البامبو»، «قابيل وهابيل»، «محمد الفاتح»، «الكتابة علي لحم يحترق»، «الدعوة خاصة جداً، «ليلة من ألف ليلة وليلة»، «ليلة سقوط غرناطة».
صدرت له مجموعتان قصصيتان «البحث عن المجهول» 1967، «أربعة فصول شتاء» 1984، وروايتان «اليوم الثامن» 1972، «نداء المعصومة» 2000 .
الجوائز والتكريمات
نال محفوظ عبدالرحمن الكثير من الجوائز والتكريمات داخل وخارج مصر أبرزها..
اقتناصه جوائز الدولة «التشجيعية» 1971، و«التقديرية» في الفنون 2003، «النيل» 2013 وفاز من مهرجان الإذاعة والتليفزيون بجائزتي «العقد» كأفضل مبدع خلال 10 سنوات، «الذهبية» عن مسلسل «أم كلثوم»، «أحسن مؤلف مسرحي من الثقافة الجماهيرية 1983، وكرمه حلمي النمنم وزير الثقافة بالمركز القومي للمسرح 2015.
وقرر مهرجان الإسكندرية السينمائى الدولى برئاسة الناقد الكبير الأمير أباظة تكريم الراحل محفوظ عبدالرحمن وذلك فى دورته القادمة فى عام 2017 المجمل أعمال الراحل الكبير .