السبت 4 مايو 2024

سرّه الباتع.. إلى الأبد

مقالات31-3-2023 | 10:28

كعادته دائمًا يسحبك يوسف إدريس ببساطة ويُدخلك عالمًا جديدًا عليك مليئًا بالصور والأفكار والشخصيات التي ربما قابلتها أو سمعت عنها من قبل، لكنك لن تجدها كما عرفتها بل كما كتبها إدريس. إنه ساحر امتلك عصا تسبر أغوار نفوس بائسة في حياتها، لكنها تمتلك مكامن غير منظورة من القوة والبأس مع المرارة والصبر، لا يراها سواه ولا يكتبها مثله أحدٌ.

 تجمَّعت حساسية الإنسان ودأب الموهوب وخبرة الطبيب النفسي في قلم إدريس، لتجد بين يديك قطعة من الدانتيلا طُرِّزت بعناية لترى عالمًا من البشر في مكان ما -ربما وصل لدرجة القبح- عبر نقوش الدانتيلا، التي ليس دورها تجميل أو إخفاء ما خلفها، بل هدفها النظر إليه بعين جديدة، تُعيد تأمّل القبح والفقر والعجز وما يناقضها من جمال وثراء وقوة، بعين أخرى غير نظرة العاديّ والمقرّر والواضح.

"سره الباتع" واحدة من قطع دانتيلا يوسف إدريس نسجها في صيغة قصة قصيرة طويلة "نوفيلا" كما يُطلَق عليها باللغة الفرنسية في عالم النقد الأدبي.

 عنوان القصة الطويلة "سره الباتع" يُحيل لغموض سوف يسري على الحدث داخل القصة، كلمة سرّ تعني ما خفِي وغاب، ثم نسبها لهاء الغائب يؤكِّد الغموض بشأن السرّ، فيكون المعنى كله خفيًا غير معلن ولا معروف ومثيرًا لتساؤلات كثيرة مثل أي سر، وعلى من تعود هاء الغائب؟ ولماذا لم يعيِّنه أو يحدّده الكاتب؟

ويزيد هذا الغموض مع الكلمة التالية في الجملة والتي تأتي مُعرَّفة بحرفي الألف واللام "الباتع".. فما المقصود بتلك الكلمة؟

 في قاموس اللغة العربية "سرَّ" أي كَتَم وأَخفَى، "باتع" لوصف الأرض تعني تباعَد، ولوصف الحيوان تعني اشتدَّت مفاصله، ولوصف الإنسان تعني طال وكبر، والجملة "سرّه باتع" تعني شديدًا.

وقد جمع العنوان بين المعنى اللغوي والمعنى في الموروث الشعبي المصري بتضافر كلمة "باتع" بمعناها الديني الذي يُوصَف به الأولياء والصالحون بمعنى "الواصل – النافذ" لبواطن التقوى لله، والمعنى الشعبي بوصف كل ما هو طيّب وتقي ومحقق لنجاح بأن سره باتع.

بهذا الغموض في المعنى ينسج إدريس القصة، بذكاء الصانع الماهر. زمن الحدث داخل الحكاية جرى في أثناء الغزو والاحتلال الفرنسي بقوات نابليون نهاية القرن الثامن عشر، في حين تمتد حكاية الراوي منذ كان طفلًا فصبيًا فشابًا إلى النصف الثاني من القرن العشرين، أي مدة زمانية أطول من حكاية الغائب الذي يستكشف الراوي منذ كان صبيًا حكايته. تعرَّف الصبي عن طريق جدّه العجوز إلى ضريح "السلطان حامد " القابع على أطراف القرية ويرتاده أهلها، طلبًا للبركة عبر إشعال الشموع، وهنا المعنى الديني يظهر أمام القارئ، وهو أمر عادي في نفوس الأهالي البسطاء، لكن أسئلة أخرى تشغَل الصبي/الراوي عمن يكون هذا السلطان؟ ولماذا حمل هذا اللقب؟ وهل كان صاحب سلطة أي حاكمًا؟ أم كان شيخًا له كرامات دينية فقط؟ إذًا فلماذا حمل لقب سلطان وليس شيخًا فقط؟

أسئلة كثيرة لم يجد الصبي لها إجابات عبر سنوات!

سأل جدَّه، أباه، شيخ المسجد، المتعلّم الوحيد في القرية محمد أفندي، أهل القرية المجاورة لقريتهم، رفاقه الصِبية في اللعب، عابر سبيل جاء إلى منزلهم في ضيافة جدّه، طبيب القرية، لكنه لم يجد إجابةً واضحة تُبرِّر تواصل الأهالي ويقينهم ببركته، ذاكرين اسمه في حوارهم معًا، في الأسواق، في المناسبات الاجتماعية. وما زاد حيرة الراوي أن وجد أكثرَ من ضريح في قرى مجاورة تحمل اسم نفس الشخص الغامض "السلطان حامد"، ولم يجد إجابة لأسئلته. كثيرًا ما نسى الراوي حكاية السلطان حامد ثم ما يلبث أن يعود للبحث عن سرّه، ولا يجد ذاك السر! كل ذلك بتكنيك البحث والاستقراء في صيغة تحقيق غير منظور التوفيق، وهذا ما يخلق حالة التشويق لدى القارئ، وتتصل رغبته مع رغبة الراوي في كشف "سره الباتع ".

يتطوَّر الحكي داخل بناء القصة من حالة الدهشة والتعجب في نفس الصبي إلى حالة التأمل في عقل الشاب، بقراءة واعية لبنية تفكير مجتمع الريف في دلتا النيل حيث يتجاور العلم مع الجهل، والوعي إلى جانب الغيبيات، وكلها أسرار لا يفكّ معانيها أحدٌ، بل تُعامَل منذ أزمان بعيدة كمسلّمات ثابتة في الوعي الجمعي لأهالي تلك المدن والقرى. ويُبدع إدريس -كعادته- في وصف التفاصيل، جغرافيا القرية، جمال المزارع والمزروعات في الحقول، وصف بناء المقابر والفارق بينها وبين ضريح السلطان حامد، وصف تقاليد البيوت في ضيافة الغرباء وأحاديث البيع والشراء في الأسواق وتقاليد لعب كرة القدم بين الصبية وغيرها.

 وتصل رحلة بحث الراوي إلى ضفاف الأمان عبر تعرّفه إلى سائحة فرنسية تجذبها حكايته عن السلطان حامد فترسل إليه جزءًا من كتاب لمؤرّخ فرنسي (جي دي روان) عن علماء ومؤرّخي الحملة الفرنسية يتضمّن رسائل من صديقه المؤرّخ (روجيه كليمان) أحد العلماء الذين رافقوا الحملة الفرنسية على مصر مع نابليون.

في الخطابات يصف (كليمان) المصريين، خاصة في الدلتا حيث ريف مصر الثري الجميل، ويصف عادات وتقاليد المصريين، ويتوقف أمام شخصية الفلاح "حامد " الذي قاوم جنود الحملة وقتل مع شباب القرية المعتدي منهم، بدافع الشهامة والغيرة على أرض قريته، وعند محاكمته من قائد الاحتلال، يدافع عنه أهل القرية المتضامنين مع موقفه الوطني، وتقوم معركة غير متكافئة بين أسلحة جنود الحملة؛ البنادق والمدافع، وأسلحة الفلاحين؛ العصيّ والنبّوت ومعهم إرادة جبارة في مقاومة الاحتلال الفرنسي تجلَّت في الدفاع عن واحد منهم ما لبث أن تحول لبطل يُمثّلهم أمام قوى غاشمة، وأصبح الكل في واحد، ولحمايته والحفاظ على "سرِّ وجوده" بدأوا التشبّه به، بقطع أصابعهم، خاصة بنسر اليد اليسرى، ثم دقّ وشم العصفورة في جانبي جباههم، إلى جانب ملابس الفلاح التقليدية؛ الجلباب والطاقية.

 الأمر الذي حيَّر قواد الاحتلال وزادهم إصرارًا على التخلص من حامد بقتله وتركه في العراء، فردَّ الأهالي على ذلك بحفظ الجثمان وإقامة ضريح مميّز له، فثارت ثائرة قائد الاحتلال وأمر بهدم البناء، ومثَّل جنود الاحتلال بالجثمان وقطعوه بقسوة شديدة إلى قطع صغيرة، قُذِفَ بها في كل الأنحاء، وكأنه جسد "أوزوريس "، لكن الأهالي "أبناء إيزيس" بتحدٍ قوي للاحتلال، أقاموا أضرحة فوق كل قطعة من جسد حامد، لحفظ بطلهم من الفناء، لذا كان هناك أكثر من ضريح أو مقام باسم "حامد"، ثم أطلقوا عليه لقب "السلطان"، دلالة على التبجيل والتقدير، وأحيوه بالزيارة والتبرّك منذ الحملة الفرنسية حتى زمن الراوي في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا هو سرّه الباتع، أي الشديد النافذ عبر الزمن!

 بعد قراءة النص عرفنا ما السر الباتع الذي مثَّله "السلطان حامد " في نفوس أهله؛ الشجاعة في حماية أرض مصر من المعتدي الأجنبي أيا كان عبر التاريخ، فهو واحد من الكل والكل في واحد، ثم القوة والبأس في مواجهة جبروت المحتل بأي وسيلة ولو كانت عصيًا خشبية، فإنها تتحول لسلاح يُطيح ويهيل التراب عليه، وتلك المقاومة التي عمَّتْ مصر تؤكد أسباب قِصَر زمن الحملة الفرنسية على مصر: الاحتواء، فالاحتلال الفرنسي مثل غيره، تحتويه العقلية المصرية الأعمق ذات الميراث العميق عمق تاريخها، المثال الذي جاء في القصة من تحويل الفرنسيين اسم قلعة الدلتا إلى اسم فرنسي "شاتونيف " أي القلعة الجديدة، فحولها المصريون إلى كلمة "شطانوف"، وما زالت اسم مدينة في الدلتا، ومثلها كثير عن اللغة الفرنسية، مثل حي "بولاق" الذي تحول عن كلمة فرنسية، وغيرها نجد كثيرًا من الكلمات من لغات قوات احتلال مرَّت على هذا الوطن، فالعامية المصرية تتضمن كلمات فارسية ويونانية وتركية وإنجليزية وغيرها، رحل أصحابُها وبقيت بعد تمصيرها في حوار المصريين، فكلُّ من طمع في أرض الكنانة بدعوى إنقاذها ممن سبقه، هُضِمَ واحتُوى وذاب في الهُوية المصرية، ومن أجمل جُمل القصة على لسان أحد المصريين (لماذا تخصّوننا بشهامتكم؟).

والحقيقة أن العودة للفكرة من داخل قصة  "سره الباتع" وتحوّلها لمسلسل تليفزيوني لا شك يدعو للتساؤل، خاصة وقد ذُكِرَت وقائع من ثورة يناير 2011 في الحلقة السابقة، فضد أي محتل سيكون تضافر الأهالي؟ ومتى يظهر نفس السلطان حامد أو سلطان جديد؟

Dr.Randa
Dr.Radwa