ساحة المسرح خالية والعتمة تعمُّ المكان لحظاتٍ تترك للمتفرج الظنون عما سيكشف عنه الظلام والخواء، ثم تأتي البشائر بالتفاؤل عبر أصوات زغاريد مصحوبة بدقات الدفوف، وشيئًا فشيئًا تقترب الأصوات بدخول أصحابها مساحة التمثيل، بهم تنقشع الظلمة بضوء شاحب يقترب من الرمادي وليس الأبيض.
ثم جاء الأبيض على المسرح بفستان العروس وبدلة العريس، لكنهما دُمى صمَّاء عاجزة عن الحركة، محمولة بين يدي رجل وامرأة، يحيط بهما أهل المدينة في زفة فرح، زغاريد وغناء مستمرّ، ثم جاء الظلام وتلوَّن الأبيض بلون الدم الأحمر وعمَّت العتمة مرة أخرى، لكن مع الصراخ والعويل.. ماذا حدث؟
قُتِلَ الفرح واغتِيل العريس والعروس بعد صوت انفجار مجهول المصدر، أو ربما كان معلومًا ولكن غير مُعلَن، الفرح يتحوَّل لمأتم حيث الدم والظلمة تحيطان بالمكان وأشلاء العروسين بين أيدي أهاليهم الذين يولولون ويصرخون حزنًا على الفاجعة، وسط ظلام دامس يماثل الحزن الذي خلَّفه الحادث.
وسط الظلمة ينوح صوت الأب (براء) ناعيًا باكيًا ولده العريس المغدور، بترديد بكائيات من أشعار بدر شاكر السياب وأحمد مطر وكاتب النص إسماعيل عبد الله، في دلالة على تحوّل الحزن من شخصي إلى كلّي، بوجود مَن أطلق عليهم المؤلف في حوار النص "المجاميع"، ويمثِّلون سُكَّان المدينة؛ أي الشعب، فيمكننا النظر إليهم كـ"جوقة" أو "كورس" كما جاء في الدراما الإغريقية، فهم يعلِّقون على الحدث الدرامي، ويُعبِّرون عن الشعور الجَمعي بالعجز والحزن أمام ما يحدث، ولنتأمل فلسفة تلك الفكرة داخل الحدث الدرامي.
سوف يتسع دور الشعب/ الكورس حين يدخل عليهم أربعة رجال عبر بوابات خشبية متحركة، تحاصرهم من الجهات الأربع، أو كما أطلق عليهم الكاتب البراويز.
(يدخل كل برواز وضمن إطاره شخصية من الشخصيات بملابس مختلفة وقامات متباينة.. وهم زعماء مختلفوا الانتماءات والتوجّهات والأيدولوجيات)، يُعيد الأربعة الدخول والخروج من البوابات الخشبية على وقع موسيقى راقصة، بينما الشعب جالس القرفصاء على الأرض، وهو وضع استكانة وضعف يؤكّد سلطة وتحكم الرجال الأربعة.
من دلالات الملابس والإكسسوار عرفنا من هؤلاء؛ الأول الرجل العسكري يرتدي بِذلة عسكري يحمل صدرها نياشين وأوسمة، مفرط السمنة دليل شبع بل تُخمة من الطعام، يعلو رأسه الكاب المميز لرداء العسكري، ويماثله الشعب، ويضع الجميع نفس الكاب فوق رؤوسهم، في دلالة على سيطرته وخنوعهم، حديثه لهم عن الفوائد والمكتسبات التي ستتحقق لهم حال الولاء له، منتهى الجرأة من الرؤية الإخراجية للمخرج الموهوب محمد العمري، حين يرقص معهم على نغمات أغنية يرددونها.
ويتوالى رجال البراويز، الثاني يرتدي ملابس عصرية وكابًا رياضيًا فوق رأسه، ويخاطب الشعب مقدمًا نفس الوعود الخلابة والإغراء بالرخاء، يصدّق الشعب لهجته المبشِّرة بخير قادم، فيرددون شعاراته ويغنون للحلم.
ويأتي الثالث سمين الوزن يحمل مسبحة كبيرة في يده، يتحدث بثقة وهدوء، فيتحولون جميعًا مثله، يحملون مسابح كبيرة أيضًا. يحدثهم عن ميزات الجماعة -وتلك كلمة ذات إحالات مهمة في نفوس المشاهدين ولا شك- بعد إقناعهم بميزات حكم الجماعة التي سينعمون بها، يطلب منهم البيعة لرجل الجماعة صراحة بلا مواربة، بل ويزيد بطلب غلق دور الترفيه والسينما بل والبلد كله قائلا "ولا بلد في البلد"، ورغم خطورة أفكاره التي تأتي في حديثه لهم، فلا بلد في البلد أي إنه وجماعته سوف يُلغون البلد، أي الوطن، فإن الشعب في تيه التبرّك به وبكلماته لا يدرك خطورة حديثه، وتلك فكرة درامية مهمة أكّدتها الحركة المسرحية ببراعة.
ويأتي الرابع مثلهم، لا يفرق عنهم شيئًا، بل إنه أكثرهم وضوحًا، إذ يرتدي ملابس رجال الدين أصحاب العمامة الضخمة، ويحدثهم عن المجتمعات التي يريدها، والشعب يدور حوله في حركة ولاء وطاعة.
تُحيل الشخصيات الأربع لأنواعٍ من الحكم في عالمنا المعاصر، العسكري والسياسي والديني والغيبي، وجميعها يتّفق على خداع الشعوب وبسط الأحلام والوعود بالرغد والسعادة، التي تأتي شحيحة أو لا تأتي غالبًا، والأخطر هو خنوع الشعوب لتلك الأفكار بعيدًا عن العقل والتفكير، فهم يوافقون ويتجاوبون بسرعة غير مبررة، ثم لا يلبثون أن يتحوَّلوا إلى آخر، على النقيض تمامًا.
وهكذا في دائرة لا تنتهي من الخنوع والاستسلام، صامِّين آذانهم عن صوت المرأة الوطنية "شيهانة" الذي يصدح بعد حديث كل رجل برواز، بالتحذير والرجاء "أناديكم.. أناديكم.. أشدُّ على أياديكم"، وتلك كلمات قصيدة لتوفيق زياد، لكن لا مستمع ولا مجيب لها.
تواصل "شيهانة" النداء بما تملك من وعي وحس وطني، تنبِّه الشعب وتبشِّرهم بقدوم البطل الوطني الحقيقي فتقول "سينبت ها هنا حرٌّ"، من كلمات قصيدة لأحمد مطر، وتُكرِّرها إلى أن يظهر شاب يافع ينزل من أعلى المسرح وكأنه هدية من السماء، ويتحرك بين جموع الشعب، لتكون المفاجأة أن خطابه لا يجد منهم نفس الموافقة والتجاوب، كما حدث مع الرجال الأربعة السابقين.
تتبلور خطوط الصراع على الوطن بين الرجال الأربعة متفقين اتفاقًا غير معلن على الخلاص من الشاب بكل عنف، وينجحون في ذلك.
لكن "شيهانة" و"براء" يشجعان الشاب على المقاومة وصد هؤلاء الطامعين في الوطن، يصيح براء "حيّ على الفداء.. حي على الولاء"، فيلبي الشعب النداء ويعودون مشهد حركي يستخدمون فيه الحبال قبل أن تنطلق الزغاريد بصحبة صيحة شيهانة "عاد النهار .. عاد النهار".
هنا يقفز السؤال: هل فعلًا عاد النهار؟
وكيف يعود في ظل تلك القوى المتكالبة على مصالحها فقط دون وعي بمصلحة الأوطان والشعوب؟
هل تلك القوى المتآمرة على الشعوب تقدر توابع أفعالها؟
الإجابة من العرض بكلمة لا لا لا، إنهم غافلون عن عمد عن الأخطار الكبرى التي تحيق بأوطانهم من قوى أشرّ منهم وأكثر طمعًا في مقدرات أوطانهم وثرواته، قوى خارجية، والمؤسف أن بعض أصحاب تلك المصالح الدنيئة في الأوطان، ربما استعانوا بهم لقهر وقمع شعوبهم.
من جماليات النص التناص الممتع لكاتبه إسماعيل عبد الله مع كلمات أشعار بعض كبار شعراء الثقافة العربية، مثل بدر شاكر السياب، توفيق زياد، أحمد مطر، سميح القاسم، محمود درويش، الصغير ولد أحمد، وكلها كلمات تستنهض الوعي الوطني ضد الدكتاتورية بكل صورها، وتشير إلى لصوص الأوطان في الداخل قبل الخارج من الطامعين والمستعمرين، وتدعم المقاومة الحرة.
المُحزن أن تفكر: إلى متى علينا الاكتفاء بترديد تلك الكلمات / الأشعار/ الأفكار الوطنية فحسب؟ فقد مرَّ على أغلبها سنواتٌ لا تقل عن نصف قرن، إِذ صِيغت وقِيلت في أوقات عصيبة من عمر أوطاننا، ولا تزال تتكرَّر وتتكرَّر، وغالبًا ما يواصل النهار الرحيل مُخلِّفا الحزن والوجع المتجدَّد أمام الأعداء الذين لا يرحلون أبدًا.