بقلم – غالى محمد
من المفارقات الغريبة فى العلاقات المصرية التركية، أننا جميعا دولة وشعب وإعلاماً ندرك تماما ونتفهم بوضوح ما تقوم به تركيا من دعم الإرهاب ضد مصر منفردة أو بالتحالف مع قطر، وإيواء عناصر من الإخوان والقنوات التليفزيونية الإرهابية التى تسيئ إلى مصر ورئيسها فى كل وقت.
ومع ذلك نجد سباقا محموما من بعض رجال الأعمال والمستوردين المصريين لاستيراد كافة السلع التركية إلى الأسواق المصرية، دون أى مراعاة من جانب هؤلاء للدم المصرى الذى يسيل بسبب الإرهاب الذى يدعمه أردوغان، وكأن هذا الدم والضحايا من الشهداء لا يعنى هؤلاء المستوردين، ولكن كل ما يعنيهم الأرباح ثم الأرباح.
ومن ثم أصبحنا إزاء ظاهرة انفصال بيزنس رجال الأعمال عن توجهات مصر السياسية، وكأن الأمر لا يعنيهم.
ودون لف ودوران، فالأرقام الصادرة عن غرفة التجارة بوزارة الصناعة، تشير إلى أننا استوردنا من تركيا بضائع قيمتها ١.٤ مليار دولار فى ٢٠١٦ وصدرنا لهم بحوالى ٩٠٠ مليون دولار منتجات مصرية.
أى أن الميزان التجارى لصالح تركيا، بنحو ٥٠٠ مليون دولار، أى أننا ندعم أردوغان تركيا، ونسانده، لكى يستمر فى دعم الإرهاب ضد مصر.
وقبل القيود على الواردات بصفة عامة كان رقم الاستيراد من تركيا أضعاف ذلك، بينما كانت الصادرات المصرية لتركيا أقل من هذا الرقم الحالى أيضا.
هذا على محور الأرقام الإجمالية المجردة لعلاقاتنا التجارية مع تركيا، لكن على المحور النفسى والثقافى، فإن البضائع التركية ذات الصلة المباشرة بحياة المصريين أصبحت تحيط بعقل المواطن المصرى فى كل مكان، فالملابس الجاهزة التركية أصبحت هى الأساس فى السوق المصرية، وأصبح لها محلات مخصصة وفروع فى كل مكان.
ليس هذا على مستوى الأغنياء فى مولات الأحياء الثرية فقط، ولكن فى المناطق الشعبية أيضا.
وبالأرقام، استوردنا من تركيا منسوجات فى ٢٠١٦ بما قيمته ٣٥١ مليون دولار، بخلاف ما يتسرب إلى الأسواق المصرية عبر التهريب.
ويكفى أن نعرف الأثر النفسى على الشباب المصرى، عندما تكون معظم ملابسه صناعة تركية، وبأسعار مناسبة، حيث تزدحم معظم المدن المصرية بمحلات لبيع الملابس التركية «الجينز والكاجوال» للشباب المصرى.
ولا يقف الأمر عند الذكور والإناث من الشباب، بل يمتد ذلك إلى البدل والجاكتات التى أصبحت تركية بنسب كبيرة، ليس فى أضخم المحلات ولكن بأذواق تخاطب كافة الدخول المصرية.
وفى هذا الشأن لا يمكن أن نتهم البضاعة التركية من الملابس بسوء الإنتاج، ولكنها تتميز بجودة عالية وسعر مناسب الأمر الذى أدى إلى تراجع الكثير من الماركات المصرية فى السوق المصرية.
ورغم أننا نصدر لتركيا ما قيمته ٣٥١ مليون دولار منسوجات، إلا أنها تتركز بشكل أساسى فى المفروشات وليس الملابس الجاهزة.
كما تمتلئ الأسواق المصرية وفى كافة المولات بالأحياء الراقية، وفى المناطق الشعبية بالأدوات المنزلية التى تخاطب كافة الأذواق وبجودة عالية أكثر مما يتم استيراده من أسواق أخرى فى جنوب شرق آسيا. وأصبحنا نرى أدوات منزلية تركية بداية من براد الشاى وكنكة القهوة ومرورا بالأكواب الزجاجية ونهاية بأوانى الطهى، ليست الأنواع الغالية جدا، التى تخاطب الأغنياء، ولكن حتى بأوانى الطهى لأسر الطبقة المتوسطة والفقراء.
ولصعوبة الحصر، فإن كافة الأدوات المنزلية فى أماكن كثيرة بالأسواق المصرية، هى صناعة تركية.
بل هناك - كما رأيت -من يطلب شراء الأدوات المنزلية التركية التى أصبحت تملأ الأسواق المصرية، ويبحث عنها المستهلك المصرى. أمام صناعة مصرية عاجزة عن إنتاج أدوات منزلية متنوعة الأذواق وذات جودة عالية. ومن ثم على المستوى النفسى، فيكفى أن تدرك معظم الأسر المصرية أن أدواتها صناعة تركية وبالأرقام التى كشفتها نقطة التجارة بوزارة الصناعة، أننا أستوردنا من تركيا معادن ومنتجات منزلية فى ٢٠١٦ ما قيمته ٦٣٩ مليون دولار.
وإن كان هذا الرقم يشمل واردات حديد التسليح التركى، فإن معظم هذا الرقم أدوات منزلية، لتراجع واردات الحديد التركى، بسبب فرض رسوم واردات حمائية عليه ولو لم تكن هذه الرسوم لالتهم الحديد التركى انتاج كافة المصانع المصرية للحديد. ومن جهة أخرى، فقد تمكنت الأدوات المنزلية التركية من السوق المصرى.
كما يشمل هذا الرقم استيراد أبواب تركية معدنية مصفحة بأذواق متطورة وأصبح لها تجارة رائجة فى مصر، بينما لا تتجاوز صادراتنا لتركيا ٦٢ مليون دولار من المعادن وقليل من الأدوات المنزلية.
وما يؤكد سيطرة المنتجات التركية الاستهلاكية على وجدان المصريين، هو أننا استوردنا منتجات هندسية وإلكترونيات فى ٢٠١٦ بما قيمته ٤١٦ مليون دولار فى حين صدرنا لهم ما قيمته ٢٢ مليون دولار.
وهذه المنتجات التركية تشمل ثلاجات وغسالات وشاشات وأجهزة كمبيوتر وغيرها.
ونفس الشىء فى المنتجات الغذائية، حتى وصل الأمر إلى استيراد الكيك والتوفى والبونبون من تركيا وغيرها مثل البسكويت والشكولاتة والمربات وسلع أخرى حتى إننا استوردنا ما قيمته ٧٤.٥ مليون دولار من هذه المنتجات فى ٢٠١٦ بينما لا تتجاوز صادراتنا ٢٦ مليون دولار. بل واستوردنا من تركيا فى ذات العام سلعًا زراعية بنحو ٥٠ مليون دولار شاملة أنواعًا كثيرة من الفاكهة، بينما صدرنا ما قيمته ٤١ مليون دولار.
ووصلت الرفاهية المصرية إلى قمتها فى استيراد أثاث تركى بقيمة ٢٢ مليون دولار، فى محلات، كان بعضها يتبع بعض رموز جماعة الإخوان الإرهابية، بينما نصدر أثاثًا مصريا بنحو ٣ ملايين دولار فقط فى ٢٠١٦. كذلك نستورد من تركيا ورقًا ومنتجات ثقافية بما قيمته ١١٤ مليون دولار بينما نصدر لهم ما قيمته ٢.٣ مليون دولار، وهذا من أشد صور الخلل فى الصناعة المصرية العاجزة عن إنتاج سلع للتصدير. وبالنسبة للبترول ومنتجاته، فإننا نستورد من تركيا ما قيمته ٥٧٥ مليون دولار وصادراتنا لا تتجاوز ٨٧ مليون دولار.
أما القطاع الوحيد الذى نتفوق فيه، فهو الكيماويات والأدوية، حيث صدرنا لتركيا ما قيمته ٥٨٢مليون دولار فى ٢٠١٦ واستوردنا ما قيمته ٢٥١مليون دولار.
هذه هى الصورة بالأرقام التى تعكس سيطرة المنتجات التركية ذات الصلة المباشرة بالمستهلكين على عقول والنمط الاستهلاكى لمصر. والذى يرجع بشكل أساسى إلى عجز الصناعة المصرية فى إنتاج مثل هذه السلع فى الأصل، حيث لا توجد خريطة صناعية مصرية تدعو المستثمرين إلى الاستثمار فى السلع التى يزيد عليها الطلب.
فضلا عن اختفاء عامل الجودة وتنوع الأذواق فيما هو متاح من سلع خاصة فى الملابس الجاهزة والأدوات المنزلية، ولن ندفن رؤوسنا فى الرمال كالنعام عندما نقول إن هناك تراجعًا مخيفًا فى جودة بعض الماركات التى كانت معروفة من الملابس الجاهزة وبخاصة البدل والقميص والجينز، فضلا عن ارتفاع الأسعار. كذلك الحال فى الأدوات المنزلية، ولنر دون حرج الفرق بين براد الشاى التركى وبراد الشاى المصرى، وهكذا الحال فى بقية الأدوات المنزلية.
وفى هذا الشأن، فقد قمت مؤخرا بجولة فى أحد المولات المتخصصة فى بيع الأدوات المنزلية بالتجمع الخامس، ورأيت تنوع الأذواق وارتفاع الجودة فى كثير من الأدوات المنزلية التركية، بينما يتراجع ما هو متاح من الإنتاج المصرى، خاصة فى أدوات البورسلين على سبيل المثال، حيث يوجد إنتاج وأذواق محدودة لمصنع مصرى خاص، بينما هناك عشرات الأذواق من المنتجات التركية فى البورسلين والخزف والصينى.
هذا مجرد مثال، والمصريون -أيا كانت قدراتهم المالية- يشترون، والصناعة المصرية عاجزة، لأنه لا يوجد من يرعاها من الحكومة سوى بالكلام من جانب أى وزير صناعة. والدولارات تتدفق من مصر لتشجيع الإنتاج التركى وندعم أردوغان الذى يدعم الإرهاب ضد مصر ناهيك عن أن هذا يزيد من تحسين الصورة الذهنية لتركيا فى مصر مدعومين بالدراما التركية التى تغزو مصر هى الأخرى من خلال قنوات فضائية لا تقدر خطورة ما تفعل علي الأمن القوى المصرى وبالتالى تحسين صورة الإرهابى أردوغان فى مصر، بأنه يقود أكبر ثورة صناعية فى تركيا، وإخفاء وجهه الإرهابى.
والسؤال.. هل بالإمكان أن يتراجع هذا الزحف السلعى التركى على مصر الذى يستنزف ١.٤مليار دولار من مصر؟
تقول الشواهد إن هناك انفصالاً فى مصر بين توجهات رجال الأعمال والمستوردين وبين توجهات السياسيين المسئولين عن الدولة المصرية بل والغالبية العظمى من الشعب.
فتوجهات رجال الأعمال والمستوردين ترى ألا يرتبط البيزنس بالسياسة، خاصة أنه لايزال هناك تمثيل دبلوماسى بين مصر وتركيا، وعلاقات سياسية حتى وإن انخفض مستوى هذا التمثيل.
وأن أية إجراءات عقابية من جانب الدولة المصرية ضد استيراد المنتجات التركية، سوف يدفع إلى اتخاذ إجراءات مماثلة من جانب تركيا ضد الصادرات المصرية. كما يرى هؤلاء أنه إذا كانت هناك رغبة سياسية من صانع القرار فى مصر لأى مقاطعة للمنتجات التركية، فلابد أن يكون ذلك واضحا وقاطعا ولا يتم إلقاء اللوم على رجال الأعمال والمستوردين المصريين.
كما يرى عدد من الدبلوماسيين السابقين فالبديل أن يعمل رجال الأعمال المصريون على زيادة الصادرات المصرية إلى تركيا لخفض العجز التجارى، حتى يكون صفرًا بين مصر وتركيا بدلا من فرض إجراءات عقابية على الاستيراد من تركيا، لأن هذا وفقا لاتفاقية التجارة الدولية به صعوبات، وكذلك قوانين الأمم المتحدة. إزاء هذا، فالأمر يتطلب تحركات أخرى من جانب رجال الأعمال والمستوردين المصريين:
أولها: أن يتعامل هؤلاء بدوافع منهم كقوة ضاغطة مع التوجهات السياسية المصرية التى ترفض دعم أردوغان للإرهاب ضد مصر بالحوار مع المنتجين الأتراك الذين يستوردون منهم لتوضيح خطورة دعم السلطات فى تركيا للإرهاب ضد مصر، وأن استمرار ذلك من الممكن أن يؤثر على تدفق المنتجات التركية إلى مصر، وأعتقد أن هناك كيانات مصرية تركية تضم عددًا من كبار رجال الأعمال المصريين تجعلهم قادرين على القيام بهذا الدور.
ثانيا: أن يقوم رجال الأعمال والمستوردون المصريون من جانبهم مع تصعيد الدعم التركى للإرهاب ضد مصر بخفض وارداتهم من تركيا دون الحاجة لقرارات حكومية رسمية من مصر.
وكذلك الحال بالنسبة للقنوات التلفزيونية التى تعرض المسلسلات المصرية.
ثالثا: لابد من تحرك عاجل ومخطط لمواجهة حالة العجز التى تمر بها الصناعة المصرية، سواء للحد من الواردات التركية أو الصينية أو غيرها، والأهم تقديم منتجات أكثر للتصدير، حتى يتلاشى العجز التجارى بين مصر وتركيا.
ودون ذلك سوف نستمر فى دعم تركيا ودعم أردوغان الذى يدعم الإرهاب بالتحالف مع الجماعة الإرهابية وقطر ضد مصر.
فهل نتحرك وفقا لمصالحنا أم سوف نتحرك وفق مصالح اردوغان؟
كلمة أخيرة، فضلا عن دعم أردوغان للإرهاب، فإن السياسة التركية- امتدادًا للخلافة العثمانية - ترغب فى أن تتواجد لدينا ولدى غيرنا بكل ما هو تركى لاستعادة الدور الحضارى التركى فى المنطقة.
والقضية الأهم لتركيا ليس ١.٤مليار دولار قيمة ورادات مصر من تركيا، لأن صادراتها بمئات المليارات، وإنما أن يستمر الدور الثقافى والحضارى التركى من الشعب المصرى بأى شكل، سواء بالمسلسلات التركية أو بالمنتجات التركية وتحديدا عبارة «صنع فى تركيا» أو أن تظل تركيا مقصدا سياحيا للكثير من المصريين، حتى إن تراجع ذلك بسبب القيود على الدولار.
ونشير فى هذا الصدد إلى ان انتشار السلع التركية الاستهلاكية بكثافة فى السوق المصرية يؤكد أنه من الممكن أن تكون هناك صورة ذهنية إيجابية غير حقيقية لدى المصريين بأن الدكتاتور اردوغان صاحب مشروع ضخم للتنمية الاقتصادية وليس إرهابياً وهذه هى الخطورة من انتشار السلع التركية فى مصر، فى حال أن الواقع يؤكد أردوغان يدعم الإرهاب ضد مصر.