الجمعة 17 مايو 2024

طوق في رقبة الفرخة .. وسلسلة بالمرة.. يكون أحسن

16-9-2017 | 12:03

كتب : يحيي تادرس

1969 يوميات نائب في الأرياف

أحمد عبدالحليم/ رواية عاشور/ توفيق الدقن

إخراج المبدع: توفيق صالح

عن قصة كاتبنا الكبير.. توفيق الحكيم

.....و..... عن ذكرياته كوكيل نيابة نستعرض معا- مشاهد بالغة الطرافة «من تاريخه» فضلا عن تاريخ «بعض مصر» في وقت بالغ الغرابة....

كان ممثلا للنيابة في أحد «البنادر» وخلال الجلسة:

كنت استمع في ضجر وفي نصف وعي إلي صوت القاضي ينطق في رتابة مملة بأحكام الغرامات علي من مارس حرفة «سقا» بدون رخصة واستعمل الصفائح بدل «القرب» وعلي من تعاطي مهنة شيال بدائرة المحطة بدون تصريح وعلي من باع عجلا مذبوحاً خارج السلخانة وعلي من أخرج جثة متوفي أو نقلها قبل مضي الميعاد القانوني - وعلي من لم تخطر عن انتقال «مومس» إلي منزلها بصفة «عايقة» مسئولة شهدنا هذا المشهد في مسلسل «ريا وسكينة» وعلي وعلي وعلي ....

انقضت المخالفات وبدأت الجنح... كان نوعها لا يخرج عن السرقات البسيطة لكن هناك قضية سرقة استدعت انتباهي- سرقة دجاجة - شيء عادي طبعا- لكن الطريقة التي اتبعت في السرقة والمناقشة التي جرت بين القاضي والمتهم - كان فيها ما يستحق الاصغاء والمشاهدة.

أعترف المتهم بأنه استخدم خيطا طويلا متينا ربط في طرفه حبة قمح وجعل يتربص بدجاجة مارة في أحد الأزقة فما أن عثرت الدجاجة بحبة القمح حتي ابتلعتها وحينئذ جذب المتهم الخيط وإذا بالدجاجة قد صارت في يده - بلا مشقة.

......

ونظر القاضي إلي المتهم وقال معقباً:

يعني اصطدت الفرخة بطعم شبه سنارة كأنها سمكة

- وهو صيد السمك حرام ياسعادة القاضي

- صيد السمك موش حرام .. لكن صيد الفراخ حرام

- إيش عجب؟!

- لأن السمك في البحر مالوش صاحب.. لكن الفرخة ليها صاحب

- ما كانش لها صاحب.. كانت ماشية تايهة في الحارة

يعني ياسعادة البيه لو لقيت من غير مؤاخذة كلب تايه في الحارة وأخذته ابقي حرامي؟!

- الكلاب غير الفراخ

- الكلاب والفراخ كلها حيوانات

- سمعنا عن كلاب ضالة.. لكن فراخ ضالة لم يحصل أبداً

- يعني الكلب يضل .. والفراخ ما تضلش؟ تبقي الفرخة أفطن من الكلب؟!

- يراجل وقت المحكمة ضيق.. أنت متهم بسرقة فرخة

- أنا ياحضرة القاضي ماسرقتهاش .. هي اللي بلعت قمحتي من جوعها ولو كان لها صاحب كان يسبها في السكك تلقط قمح الناس

- ظهر لها صاحب

- وأنا أعرف منين؟ كان يعمل لها طوق عليه اسمه في رقبتها

زي الكلاب اللي ليها أصحاب .. ولا أنا غلطان

- طوق في رقبة الفرخة؟ وسلسلة بالمرة

- يكون أحسن

- إنت متهم بالسرقة

- السرقة لما أكون أخدت حاجة من بيت واحد أو من جيبه لكن اللي يرمي حاجة في السكة كأنه رماها في البحر ... تبقي من نصيب واحد فقير زي حالاتي

- كفاية ياراجل كلام فارغ

- الكلام بالعقل ياسعادة القاضي... أنا رحت للفرخة ولا الفرخة جات لي؟! لو كنت رحت بنفسي للمسروق كنت أكون صحيح حرامي لكن المسروق حضر بنفسه لحد عندي .. أكون سارقه بأي صفة

.....

انتهيت من دفاعك؟ ثلاثة أشهر حبس مع الشغل

... والتفت إلي الحاجب صائحا .. غيره

...

واستمر كل شيء في الجلسة بعد ذلك علي الوتيرة السابقة وأخذ النعاس يلعب بأجفانى من جديد إلي أن تنبهت مرة أخري علي صوت غريب لرجل غريب:

القاضي: أنت متهم بالتشرد علي الرغم من إنذار البوليس

فقال الرجل بنبرة استنكار واحتجاج

- أنا متشرد؟!... عيب

وقلب القاضي صفحات الملف الذي أمامه وقال:

وارد في محضر البوليس أنه ليس لك وسيلة مشروعة للعيش فقال الرجل باعتزاز:

- أنا حاوي ياسعادة البك

- والحاوي يعتبر صاحب صنعة مشروعة!

- طبعا ياسعادة البك.. هو كل واحد يقدر يكون حاوي

... أنا ضيعت عمري كله فيها ... تحب أفرج سعادتك؟

- تفرجني؟!

- لما تشوف الشغل يا بيه تحكم إنها صنعة ولا مش صنعة

.. صنعة شطارة وحداقة

... وقبل أن ينتظر رأي القاضي شمر الحاوي عن كم ساعده اليمنى واقترب من المنصة قائلاً:

بسم الله الرحمن الرحيم - ثم مد أصابعه إلى ذقن القاضي فأخرج منها كتكوتا أصفر - وإذا بالكتكوت يقفز أمام أعيننا المندهشة فوق منصة القاضي...

فضج جمهور الحاضرين بأصوات يختلط فيها الإعجاب بالضحك وعلا التهليل والتكبير الله أكبر ولم يدر القاضي أن يضحك هو أيضا أم يغضب.

... ونظر إلي جمهور القاعة فأيقن من مظهر سروره وابتهاجه أنه يكاد ينسي أنه في قاعة محكمة وأن المتعة قد استولت علي لب الجمهور الساذج من القرويين ممن لم تتح لهم كثيرا مثل تلك الألعاب فجلسوا مبهورين ناسيين أنفسهم راجيين أن تستمر الجلسة علي هذا النحو من الفرجة المجانية.. ورأي القاضي أن يضع حدا لهذا السرور الغامر.. فآثر الغضب ودق بقدمه دقا شديدا علي المنصة آمراً بالسكوت فخيم الصمت علي القاعة وعادت السحن والوجوه إلي الكآبة بعد الابتهاج.

وصوب القاضي نظرة نارية إلي الكتكوت الذي لم يزل يتبختر فوق المنصة غير مصغ إلي الأوامر!! وعندئذ فطن الحاوي إلي الموقف فمد يده وسرعان ما اختفي كتكوته..

واستأنفت الجلسة سيرها الوقور كأن شيئا لم يحدث...

وكنت أول الخائفين علي مصير هذا الحاوي المسكين لكن من حسن حظي أن القاضي كان من الطيبين الأخيار الذين لا يسمحون لانفعالهم الطارئ بالطغيان علي شعور العدالة..

..... والتفت إلي الحاوي

- اقتنعنا أنك بارع وأن براعتك في خفة اليد.. ولكن هل كل خفة يد تعتبر صنعة شريفة... النشال أيضا بارع في خفة اليد

- وأنا نشال لا سمح الله؟ النشال خفة يده في جيوب الناس لكن أنا ياسعادة البيه بخفة يدي عمري ما سرقت .. خفة يدي تهدش الناس وتسرهم وكل واحد يدفع لي ما فيه القسمة عن طيب خاطر..

أنا فنان يا بك أنا فنان

- فنان ؟!

قالها القاضي ثم التفت إليّ كما لو كان يريد أن يسألني أحقا ما يقول هذا الحاوي - فالقاضي يعرف صلتي بالفن وهوايتي له

....

هل استطيع أن أقول للقاضي إن هذا الحاوي يملك صفة من صفات الفنان - إذا قلت ذلك فمعناه إني أبرئ الحاوي من هذه التهمة ووظيفتي أن أدينه لأن المفروض أن النيابة هي التي قدمته للمحاكمة.. ليس أفضل إذن من أن نناقش الأمر بعيداً عن المتهم وتهمته فقلت:

البراعة شرط من شروط الفن.. ولكن هل البراعة وحدها يمكن أن تصنع فناناً؟

فقال القاضي

تقصد أن ليس كل بارع في عمله يعتبر فنانا

قلت:

إن الفن هو الشيء الزائد علي البراعة والفنان هو الذي يبقي بعد البراعة

فسألني القاضي السؤال الطبيعي الذي يقتضيه التسلسل المنطقي المعتاد في مجال التحقيق القضائي

- وما هو هذا الشيء الزائد أو الباقي

- لست أدري كيف اقول ربما كان هو الإشعاع الخاص الذي له القدرة علي النفوذ خلال طبقات الأجيال فبدا علي وجه القاضي أنه لم يفهم وله الحق... فاستأنفت مفسراً

ما هو الفرق بين خاتم من الزجاج وخاتم من الماس لهما نفس البراعة في الصياغة

الفرق ولا شك في قوة إشعاع الماس

فارتاح القاضي قليلاً لهذا التشبيه

معقول .. لكن هذا الحاوي

... وهناك خاتم من ذهب وخاتم من نحاس قد يصنعهما صانع واحد بعين الشكل وعين البراعة ولكن النحاس يصدأ بعد وقت والذهب يبقي..

والذهب نفسه طبقات ودرجات

وهنا التفت المتهم إلي القاضي..

أنا قلت إني جواهرجى.. أنا قلت إني حاوي يا سعادة البك

....و.....يستمر الحوار بشكل فلسفي عميق وجاد و.....

أنساني التدفق والتحمس نفسى فلم أفطن إلي أن مثل هذا الكلام ليس مما يقال في جلسة كهذه...

أما القاضي فقد جعل يلعب بالقلم بين أصابعه وهو مطرق يفكر فيما ينبغي له أن يحكم به وطالت به الحيرة واستبد به التردد وتململ في كرسيه من الضيق.. وأخيراً رفع رأسه بقوة وصاح في المتهم..

- رح يارجل.. براءة