الأحد 28 ابريل 2024

سنبلة قمح في غيطان برسيم

مقالات15-5-2023 | 14:47

فكرت طويلا في ملابسات خضوع الدول العربية لعدم زراعة القمح في أراضيها، ولنأخذ مثالا مصر والسعودية، فلا يخفى على مطلّع، مطالبة الولايات المتحدة للبلدين بالحد من زراعة القمح مقابل قيام «العم سام» بتوفير المنتج بثلث ثمن التكلفة بغرض التحكم في مصادر قوت العباد والبلاد.

وقد دفعتني أصولي الريفية لعدم نسيان تلك الحقبة التي ساد فيها الاعتماد على زراعة البرسيم والمنتجات الثانوية في أراضي المنصورة بدلتا مصر -أخصب بلاد المعمورة- عوضًا عن زراعة المحاصيل الاستراتيجية.

ساورتني تلك التساؤلات كلما شردت في كيف نسمت من صوب دلتانا سنبلة قمح بطعم الحرية، وبنكهة النضال، فقد نشأت الدكتورة «هبة دربالة» في بيئة خضعت لزراعة البرسيم، ومع هذا، نبتت «هبة المنصورة» كسنبلة قمح بين فدادين البرسيم لتُذكر أهل الكنانة أن أرضهم مؤهلة لتغذية عقول وأبدان العالم بالقمح المفيد للإنسان، لا البرسيم غذاء الخرفان.

هبة دربالة هي اليوم الاسم الخليق لخلافة أيقونة بثقل رائدة الفكر النسوي نوال السعداوي التي اعتقلت وعانت التشويه الاجتماعي حين طالبت بتجريم ختان الإناث. 

لم تنشأ «د.هبة» في جو من الخوف والكبت في محيطها الأسري، لكن هذا لا يعني أنها لم تعاني الاضطهاد ذاته والجهل المجتمعي نفسه والأحكام المسبقة والخنقة والانغلاق حد «الكمكمة» في مجتمعها الريفي.

فقد ولدت الدكتورة هبة بمنتصف الستينات لأسرة ثرية، منعمة، بميت غمر بالدقهلية، فأجدادها عمد طهواي ومن أعيان السنبلاوين، كما أنها الابنة الوحيدة للأستاذ شوقي دربالة، أحد كبار المحامين في نواحي المحروسة، أما والدتها، «إحسان هانم الوكيل» فقد أنجبتها بعد ست عجاف من عدم الإنجاب.. ورغم النشأة في الأقاليم، إلا أنها كانت تمثل التقدمية في مجابهة الرجعية والتحضر المعاند للتخلف وتعترف د. هبة أنه تم التعامل معها داخل أسرتها كشخصية مميزة ليقين والديها أنهما لن يرزقا بسواها، فتولد لديها الكثير من الثقة بالنفس والجدارة بالاستحقاق، حتى أنها تضحك كلما تذكرت رفضها الذهاب صغيرة للروضة لمجرد أنها كانت تلقى معاملة عادية وهو ما لم تعتده في أسرتها التي عاملتها بتميز.. حتى جيرانها من «قوم عيسى» كانوا يتنصتون على الجدران لتحري سماع صوتها لو حاول الأهل منعها عنهم.. فكيف لا تشعر بتميز وبمحبة للآخر؟!

من والديها، ورثت دربالة سمات الشخصية الكاريزيمية، لكنها بالوقت ذاته دفعت ثمن باهظًا لانتمائها لأبوين يتمتعان بسمات قيادية، نظرًا لما تحمله الشخصية القوية من رغبة في السيطرة والتحكم، وهو ما اضطرها -مثلًا- لدراسة الطب نزولًا على رغبة والدها الذي رفض مجاراتها في دراسة القانون الجنائي لتجنيبها المخاطر، فضلًا عن كونها لم تسلم من الضغوطات الغير مباشرة لحملها على الزواج.

وقد يحق لي أن اسأل

كيف انسل منها عقد العشرينات وماذا عن الثلاثينات؟ 

وكيف لم أسمع عنها سوى بعدما شارفت على الخمسين؟

صدقا المليحة تبطئ.

ود.هبة جد مليحة وقد استوت موهبتها تمام التسوية على شعلة نار هادئة.

إذ كان للمراجعات مساحة بارزة في شخصية هبة دربالة ذات الأفق الأرحب من لوحة أهداف فيما عيناها كانتا أدق من خرائط المسير.. فعقب زواجها وبعدما انسلت الأيام من رزنامة الحياة وشرع العمر في التمطى، استفاقت روحها كطالب واجه وقت الامتحان الذي داهمه، فعزم على تكريس جل تركيزه لإثبات جدارته بنبؤاته عن نفسه، فعاودت اللحاق بحلمها ودرست القانون لتحقيق حلم الصبا بعد الإنجاب.

وهكذا، قدم في أزقة العمل العام فيما الأخرى في الدار، حيث كانت كثيرًا ما تضع كتبًا على مكاتب أبنائها لتشجيعهم بشكل غير قسري على الاطّلاع، ثم تعود بعد أسبوع لتجد الغبار عابس على الكتب، لتدرك بحسها المجتمعي أن الجيل الحالي يركن للثقافة السمعية لا البصرية.

ربما كان هذا أحد أسباب شروع دربالة بتكريس جهودها الإعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فأنشات قناتها عبراليوتيوب وأجرت عشرات الحلقات عن كثير مما يشغل المجتمع، ما جعلها تساهم في تمهيده للتغيرات المتلاحقة التي يموج بها على الأصعدة الثقافية والاجتماعية كما والعقائدية وإن كانت برامجها تحظى بإقبال النخب، فإني على يقين أن مجرد مشاهدة حلقة واحدة لها كفيل بمتابعتها.

فالمتابع لفيديوهات «د.هبة» يلمس جانبًا إنسانيًا، رقيقًا، فهي بارعة في فن الإنصات بشكل يضاهي روعتها في فنون الكلام، والمفارقة أن هذا النشاط  الإعلامي يشي كذلك بالجانب المحارب في شخصيتها، إذ لم يكبحها المرض الخبيث عن الاستمرار في رسالتها التنويرية بالكلمة المسموعة لا المقروءة، فكرست الكثير من وقتها لإماطة أذى المتعصبين الذين ينخرون في العقل على حد تعبير الكاتبة «نيفين صدقي».

ربما أعادت د.هبة حساباتها بعد تلكم المراجعات، فاكتشفت موهبتها في التشريح الاجتماعي والتي تناطح به د.جلال أمين وتقارب فيه د. مصطفى حجازي، ما حدا بها لمناقشة الظواهر المجتمعية من خلال برنامجها «حكي نسوي»، فناقشت قضايا التباهي بالبراندات في حلقة «الماركاتلية» وانتشار الطلاق وقضايا المرأة والمواريث والعنصرية والتعصب وأثر المفهوم الخاطئ للشرف على انتشار جرائم الشرف، وأسباب الانفجار السكاني والنطاعة وتأخر سن الزواج وأزمة منتصف العمر والتحرش الجنسي في المجتمع وهل بيوتنا آمنة أم لا؟ عدا قضايا المساواة مع الذكور وترييف المدينة، بالإضافة لبرامجها السياسية، فضلًا عن إسهاماتها في شرح تاريخ مصر السياسي و الديني عبر الأزمنة.

هذا الألق الذي صاحبها بعد الخمسين جاء كحصاد لعمل دؤوب على أصعدة شتى أو لربما لكونها لم تغفل الجانب الإنساني، فحتى المُلَح حاضرة في برامجها، كما أنك تشاهدها عبر الشاشة وأنت على يقين أنها مُعَطرة، تخاطب الجميع بأدب جم، «تُهَنِّم» النساء و«تُؤستذ» الذكور وتبتسم بكياسة حيناً وتضحك بطفولية أو بمجاملة أحيانًا، كما لا تنسى الأفشات الغير جارحة، لكن في برامجها السياسية، تحسبها أخت «النفيسي» وقلما تتجهم لكن يثيرها عدم احترام الوقت وقد تتنازل من باب المحبة والمجاملة لكنها، لا تقبل التخطي أو التهميش.

 تلك المرونة لم تتحل بها د. السعداوي كونها قلما أعارت انتباها للحُلّي في حين عاشت الدربالة حياة مدنية وسط الريف وأقامت بقلب المدينة بروح هانم ذات أصول قروية. 

تقيم بميت غمر، لكنها أقرب للغربية عبرالجسر «الكوبري الفرنساوي» الذي ما إن تعبره حتى تجد نفسك في مدينة زفتى، بل ومن مخدعها بحي توريل بالمنصورة، تفتح  الهاتف، فتقابل العالم الافتراضي شرقه وغربه للتفاعل معه فهي روح تأبى الركود، وتعمد للركض عبر التنقل بين أقاليم مصر بحكم عملها السياسي، حيث شغلت عدة مناصب حزبية، فكانت سكرتير عام حزب الوفد بالدقهلية ورئيس لجنة السودان والشؤون العربية بالوفد، كما مثلت مصر بالاتحاد النسائي العربي. 

وتقلدت منصب رئيس اللجنة المصرية للتضامن أفروآسيوي بالدقهلية ثم انضمت لحزب الدستور ثم للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي. 

وقد أكسبها العمل السياسي مرونة لم تتمتع بها د. السعداوي التي كانت أشد إقصائية وحدية في توجهاتها سواء الشخصية أو العامة ما جعلها تتصادم مع السلطة وتسجن.

بالمقابل، كانت د. دربالة أكثر كياسة في تعاطيها مع السلطة، فلم تكن ملكية أكثر من الملك، لقد قامت بدورها التنويري بكل أمانة، لكنها لم تجد جدوى في منح أي مستغل فرصة للزج بها في السجون، على أن النموذجين قد وهبا حياتهما لقضايا المرأة، لانغماسهما في طين الوطن ما جعلهما ينصتان لأنين السواد الأعظم من النساء اللائي عانين الظلم، وهو طفح آسن لكأس دهاق من المآسي ينضح به المجتمع العربي.

لكن المفارقة أن السعداوي ودربالة وجدا غالبية النساء على استعداد للرضوخ للمزيد من التعذيب، كحشرات يرضخن لدعس الأطفال تلذذًا بهذا الظلم، لفهمهن الخاطئ لمعنى الرضا والقناعة والطاعة أو لربط الانصياع بالعقيدة والدين.

وللقارئ أن يتخيل مدى الحرب التي تواجهها سيدة نسوية تعيش في قرية بدلتا مصر لكونها تدعو لحرية احترام كافة المعتقدات وتجاهر بحبها لجيرانها المسيحيين ولا تضع وشاح الإذعان على رأسها وتجاهر بممارستها للسباحة وبحبها للموسيقى وتقيم صالونا ثقافيا كملتقى تنويري، وتقف للتصوير بابتسامة –جدًا- ودودة جنبًا إلي جنب مع أصدقائها من الجنسين وتدعم أيما امرأة عانت من عنف أسري في قرى تموج بالكبت والقهر والجهل والانغلاق وتذبح فيها النساء ويهدر فيها دمائهن باسم جرائم تعنون بالشرف.

والدكتورة هبة تحمل من ثراء الشخصية وتنوعها ما قد يجعلك تعتقد أنها متناقضة، فرغم جديتها الشديدة التي جعلتها تشرع في العمل السياسي بعمر الخامسة عشرة إلا أنها احتفظت لنفسها دائمًا بمسافة تستطيع خلالها أن تنأى وتؤوب، فلم تتورط في مقررات حزبية إن خالفت قناعتها.

ورغم كونها قاطعة في أخذ المواقف وخوض المعارك لكنها في الوقت ذاته مرنة في التفاوض ما هيأها للاستمرار في المعترك السياسي، تعلو لقمته ثم تغيب، كما أنها تعتبر من ظرفاء مصر، لتمتعها بروح دعابة فائقة وسرعة بديهة وقدرة على التندر حتى من نفسها، فقد عزت تفوقها الدراسي في طفولتها لكونها الطريقة الوحيدة التي جعلت المعلمة لا تعاملها كشخص عادي. 

واللافت في شخصيتها أنها تؤمن بقدراتها منذ الصغر فلم تكن تعاني من وعي متأخر، لكن المعضلة الحقيقية أنه كان عليها أن تبدأ مع مجتمعها في شرح المشروح للتفريق بين المعاني الحقيقية والاصطلاحية في مجتمع كان يقرن بين العلمانية واللادينية.

وتستطيع بسهولة أن تلمس الجانب الإنساني في شخصيتها، فهي تجامل بصدق من العباب للسماء وتعترف بكونها تؤثر بصدق الوداد وتدمع من لحن كما أنها تتمتع بحس وذائقة فنية رفيعة وعالية لكن -غالبًا نسوتيالجية- بل وأحيانا تلوم نفسها -علناً- كونها لم تتعاطف التعاطف الكافي مع شخصية عانت اضطهادا فحسبتها تهول من مشاعرها لكنها بنهاية المطاف، انتحرت!

ولأن أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، فأحسب أن الدكتورة هبة ليست استثناء لتلك القاعدة، فأعتقد أن تأثيرها في المجتمع العام قد فاق نظيره في محيطها، وسيمر العمر حتى يفهم القريب والداني أنهم جاوروا أحد عظماء مجتمعهم وواحدة ممن استطاعت انتشال نفسها من الانسياق للجموع بتفعيل عضلة العقل عوضًا عن النقل أو الانسياق مع الركب.

سيرة الدكتورة هبة لم تحرر بعد في كتاب رغم أنها عامرة بالأحداث التي شكلت مفاصل مؤثرة في مجتمعها.

ويصدق فيها قول الأبنودي كانت الصوت لما تحب الدنيا سكوت.

ولا تزال سنابل القمح تطرح الخير في مراعينا.
 

Dr.Randa
Dr.Radwa