الأربعاء 1 مايو 2024

السيد الغواب قصائد متمردة على الواقع


سمير الفيل

مقالات16-5-2023 | 16:53

سمير الفيل

• السيد الغواب كزجال مقاوم، لديه القدرة على فضح المسكوت عنه بشكل بسيط، عميق، فى آن واحد، لذا بدا محققا لشروط الصدق والإبانة ورفض المداهنة
• يطلق السيد الغواب على قصائده الزجلية مصطلح" الكلام" ولأنه دارس حقيقى للقرآن الكريم فهو يدرك خطورة اللغة، ودورها فى تشكيل الوجدان
• مواقف الشدة التي تعرض لها الوطن، انعكست في أشعار الغواب، فنجده يبث روح المقاومة بكلماته، ويكشف عن انحيازه القوى لكل يد تحمل السلاح لتدافع عن تراب البلد

السيد الغواب، زجال، من مواليد قرية العدلية إحدى قرى مركز دمياط، ولد عام 1929، لم ينتظم فى سلك التعليم النظامى، غير أنه حفظ القرآن وجوده على يد كتاب القرية، نزح إلى دمياط في سن الثامنة عشر قبل الزواج.

عمل فقيها في بعض المساجد الصغيرة، بعد براعته في حفظ وتجويد القرآن الكريم. تشبع بالحس الشعبى نتيجة التصاقه الحميم بالبسطاء.

تعرف على الطرق الصوفية، حفظ قصائدهم، اعتبرها أداة لكسب لقمة الخبز، عمل كذلك بالموالد، لقب بالشيخ سيد، عاصر فى شبابه قيام ثورة 1952.

تزوج عام 1954 وأنجب أحمد وسهير وآمال ثم رباب وأسماء بعد ذلك.

كان هدفه من قرض الشعر الوصول إلى الإذاعة، فسافر إلى القاهرة فى فترات متباعدة، وأدرك استحالة ذلك.

عمل بحرفة صناعة الموبليات، ثم الأسترجية ـ وهي دهان قطع الموبليا -، لفترة طويلة، كنت أزوره فى الدكاكين التي عمل بها، وأخيرا بعدما تقدم به العمر التحق بمهنة لف الأثاث بالورق والخيوط.

عن تقلبه في تلك الحرف يقول السيد الغواب إنه لم ينجح فى أى عمل حرفى قام به، لأنه لا يعجبه العمل، ولا العمل يعجبه.

انضم إلى جماعة الرواد الأدبية عام 1959، ويذكر من رفاق تلك الفترة: وفاء البدري محمدين، محمد أبوالعلا السلامونى ، محمد حلمي عطا، طاهر السقا، كامل الدابي، محمد عبدالفتاح العواد، عبدالعزيز حبة، وآخرين.

كان يتميز بروح شعبية ساخرة تجلت فى جلسات الجماعة، وكان يعتبر فاكهة الجلسة لحضوره القوى،  ونكاته الساخرة المعبرة عن مشاكل المجتمع.

اعتبره الروائى مصطفى الأسمر وكاتب الأطفال محمد إبراهيم أبو سعدة أحد رجالات دمياط الساخرين وهو أقرب ما يكون إلى محمد مصطفى حمام والديب والشرنوبى، وغيرهم من شعراء البؤس!
لحن له وفيق بيصار بعض أزجاله،  ولما لم يشر إليه كمؤلف، فرفع الغواب قضية عليه وحكم لصالحه.

قدمه طاهر أبوزيد فى الإذاعة فى برنامجه الشهير" جرب حظك"، كما قدم له المذيع محيى محمود 14 رباعية فى إذاعة الشرق الأوسط.

يعتبر بيرم التونسى أستاذه، لكنه ينفي تأثره به. قال عنه عبدالرحمن الأبنودى حين استمع إليه سنة 1969 : " السيد الغواب أطلق زغرودة في محافظة دمياط لن تنسى مدى الحياة ". 

أشاد به محافظون منهم اللواء صلاح مجاهد، والدكتور أحمد جويلى فيما قاطعه وكرهه عدد أكبر من المحافظين بسبب انتقاده أوضاع البلد المعيشية، منها الغلاء والفساد والفقر الذى ظل يعانى منه طيلة حياته.  
حاولت بعض الأحزاب اجتذابه لعضويتها فرفض. كان رده المختصر: " الانتماء للناس اولا".

يذكر محمد عبدالمنعم مدير فرع ثقافة دمياط الأسبق أنه قد فرض عليه حمايته عندما حاول البعض البطش به. يعلق الغواب على الموقف: " لقد وقف معى وقفة شجاعة. وإن لم أقل هذا فأنا جبان!".

كرمه مؤتمر دمياط الأدبى فى دورته الرابعة سنة 1995، أعد عنه كاتب هذه السطور ملفا أدبيا فى العدد الثلاثين من مجلة " رواد" كتب فيه: 

محسن يونس، محمد العتر، مصطفى العايدى، عابد المصرى، عزيز فيالة، ناصر العزبى، محروس الصياد، زهير جاويش، محمد أبوالعلا السلاموني، عباس الطرابيلي، محمد الزكي، أحمد الشربيني، ناجي أبوالنجا، محمد إبراهيم أبوسعدة، مصطفى الأسمر.

نقدم نماذج من أزجاله التي تتميز بالصدق الفني ونبرة السخرية استنادا على ديوانه " رباعيات وأغنيات " الصادر فى أغسطس 1985. 

مفتتح الديوان يعبر عن انتمائه الاجتماعى :" أنا عايز انشر كلامى/ في قلوب الناس / ولا صورتى تطلع في ورقة / آخر النهار تنداس / وشهادة التقدير / آخدها م الجماهير / يمضوا عليها بقلمهم/ بحب وبإخلاص ". 

يلمح في قصيدة أخرى لأهمية الدور الذي يقوم به الزجال في مجتمعه إذ لابد له من الصدق والالتزام، والانحياز  لقضايا الناس : " اللى يقول الكلام / لازم يكون قده / ولابد يعرف مكانه / اللي على قده / وإن كان ولد فنان / والفن بيشده / يسن سن القلم / ويجنده لمجده".

 يقتحم الزجال حصون الزجالين الذين جعلوا من كتاباتهم وسيلة للنفاق والتملق، يعريهم بصراحته المعهودة: " ياللي أنت صاحبى وحبيبى / ليه كلمتك بتضيع/ مع إن لون كلمتك / هايلة بشكل بديع/ إن كنت عايز تلمع / ما يهمنيش تلميع / أصل الدقيق المغربل / عمره ما يبقى رجيع".

ها هو يستخدم مفردات بيئته ليقترب من الشرائح الشعبية التي يمثلها أصدق تمثيل، يقرن رسالة الحب بدوره كناقد سلوكيات المجتمع، كزجال مقاوم، لديه القدرة على فضح المسكوت عنه بشكل بسيط، عميق، في آن واحد: " مسكت فى إيدها القلم / وقالت لى ملينى / أكتب كلام ع الألم / اللي مبكينى / قلت لها قلمك داريه / دانا وحدى حاسس بيه / إبريه ولا تبريه/ هاتيهولى أكتب بيه / وعيونك تملينى". 

يطلق السيد الغواب على قصائده الزجلية مصطلح" الكلام" ولأنه دارس حقيقى للقرآن الكريم فهو يدرك خطورة اللغة، ودورها فى تشكيل الوجدان، لذا بدا محققا لشروط الصدق والإبانة ورفض المداهنة: " لما لقيت الكلام / تقل على لساني / رحت اشتكيت القلم / وقلت له إنسانى / قال لى كلامك يا شاطر / مرفوض ولا فيش خواطر / أنا أصل عندى خواطر / بتدور فى وجدانى".

يدرك الغواب أن ثمة أمل في اعتدال الميزان، وهو أمر يتوقف على وجود زجالين وشعراء لديهم هذا الحس الانتقادى وصولا إلى العدل الاجتماعى وتحرير الإنسان من معوقات التقدم وهو يرى أن الصبر مهما طال فنهايته مؤشر على انقشاع الغمة، ومالم يحدث تغيير فالموت حالة طبيعية للسكوت: " قال لى بلاش تتحمق / دانا سنى برضه رصاص / وجرتى ع الورق / ده ياما زلت ناس / أنا قلت زلت مين ؟ / قال لي اسأل الساكتين / اللى بقى لهم سنين / صابرين،  وماتوا خلاص". 

يقف الزجال وقفة متمكنة مع البسطاء، يدرك إنهم سنده وقوته، فهم أوفياء رغم الظروف الصعبة. في قصيدة بعنوان" مع الغلابة "، نقرأ: " غلابة واحنا غلابة / وغلبنا نكتب كتابة / ونقول كلام معقول / عايز له ساعة استجابة / فتش ودور يا خال / في دفتر الأحوال / ح تلاقي ناس أندال / عاملين علينا عصابة".

لا مناص من الذهاب للطبيب كى يصف الدواء، يبدو أن الطبيب لديه من الحكمة وسعة المعرفة ما يجعله يدرك المأزق الذي يعيشه هذا الرجل المتمرد على ترتيبات فوقية تمنع وصول الخير لأمثاله من البسطاء: "كشف علي الطبيب / ولقيته متحير / سألته مالك يا صاحبى / قال لى: الألم مرر / لكن عواطفك سليمة / ولو أنى شاكك في قلبك / دقاته دقة قديمة / ولابد يتغير".

يقلب الزجال الفصيح الموقف في ذهنه، مدافعا عن مواقفه المبدئية، لم يكن التمرد بقصد الغنى، الأمر أبعد من ذلك، ثمة أسرار، يعلمها رفاق دربه، فلم يكن الانكسار ناشئا عن حالة الفقر والمسغبة بل هى أعمق من ذلك: " قالوا الهنا فى الغنى / أنا قلت لا يا خال / عمر الحديد ما أتتنى / إلا أن دخل في النار / وأنا قلبى ناره فى ناره / حرقت حيطانه وجداره / ما فضلش غير الألم / والحزن ده أسرار".

يترك السيد الغواب عالم المدينة ويقوم بجولة في الغابة ليشتغل على الرمز، دون أن تفارقه رنة السخرية وهنا يبدو الحوار مضحكا:" الكلب قال للأسد/ تعرف أنا أبقى مين؟ / قال له أنت كلب الخلا / لا ذمة لك ولا دين / قال له ده أنا اللي بقيت/ حارس عليك وأمين / وأن ما اعترفتش بجاهى / تصبح بأمرى سجين".

لكن يبدو أن الأسد كان صاحب حجة قوية، ولديه الشجاعة ليعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. وبالطبع، فإن الترميز له دلالة حسب موقف المتلقى من قضايا عصره: " رد الأسد بشجاعة / قال له ليه هبيت / أدى أنت كلب الخلا / إن رحت ولا جيت / وان وقفوك قدام / وقعدوك في اللوج / أهو ديلك المعووج/ يشهد عليك يا لعين". 

في قصيدة "مجانين" يلخص الأمور بشكل دقيق، موضحا أن السكوت على الباطل أمر قبيح، ثم يشير إلى أن الكاتب إذا مارس الغش فسيلحق بجماعات المجانين، والحالة تعبر عن " ضياع العقل: " مش قلت لك مجانين / واحنا كمان مجانين / لكن الحقيقة المسيئة / إن احنا مش داريين / يالا.. وكله يهون / واهو دق مية في هون / وإيدينا خدلت وتعبت / ولسانا سيف مسنون". 

 لا تقتصر تجربة السيد الغواب على الجوانب الانتقادية،  فنراه يقدم غزلا صريحا، فيه خفة الدم:" أنا أصل قلبي اتملا / بالبسملة والنور / من نورك أنت يا أجمل/ من بنات الحور / عديت رموشك لقيتهم / أكتر من سنين عمرى / مضللين فوق رموشك/ يا أغلى من عمرى".

عن الهجر والسهاد حدث ولا حرج، فالعمر يجرى غير أن قلبه متعلق ببنات حسناوات، يتمنى جبر خاطره فهو من " أهل الهوى " وبحاجة إلى هذا الحب المتأخر: " نامت عيونك يا ليل / وعيونى ليه ماناموش / قال لي روح اسأل قلبك/ اللي انشغل برموش / فاتوا عليه أخدوه / وبعدها .. قلبوه / وسابوه لأهل الهوى / اللي ما يرحموش".

 مواقف الشدة التي تعرض لها الوطن، انعكست في أشعار السيد الغواب، فنجده يبث روح المقاومة في ابنه الذى التحق بالكتائب المحاربة، هنا يكشف الشاعر عن انحيازه القوى لكل يد تحمل السلاح، وتدافع عن تراب البلد. يقول فى قصيدة " جواب ": " أول نصيحة أسمعها منى / بلدك أمانة وأغلى منى / أحميها بسلاحك ودمك / يرخص عشان بلدك يا ابنى / واضربها ضربة واد أصيل / وازرع كرامة لألف جيل / جايين هياخدوا التار معاك / ويحققوا الأمل الكبير".

في نفس القصيدة يوجه رسالة موجزة لابنه الواقف على خط النار، نلمح ذلك الدافع القوى لزرع معانى الصمود، وإيقاع الهزيمة بالعدو: "أخر نصيحة أوعاك تجيني / لا تجينى ولا اشوفك بعيني / إلا إذا انتصرت بلدنا / ودى أغلى حاجة حاتراضينى / وبكرة فجر النصر يطلع / من طلقتين من قلب مدفع / من إيد بطل زيك وترجع / منصور ومرتاح الضمير/ يا حتة من قلبي الكبير".

لاشك أن الخطاب المباشر كان يليق بالمرحلة التي زلزلت فيها الأرض تحت أقدام الناس، وكان لابد من المواجهة والتقدم بقوة لإزاحة الهزيمة وتحقيق النصر وهو كعامل يدرك أن تحقيق ذلك يحتاج إلى صبر وجلد، وتدريب متواصل،ومشقة بالغة،  وهو ما تحقق في حرب السادس من أكتوبر 1973. 

سلام على روح الزجال العتيد السيد الغواب، الذي وصل بشعره إلى الناس، وكان يطرب حين يسميه أهل بلده " بيرم زمانه "؛ فهو يستحق وقفة نقدية حيث ظل سنوات طويلة يدافع عن حق البسطاء في لقمة نظيفة وبيت للستر ودواء. 

الكلام الطيب لا يتبدد مع الزمن بل يزداد توهجا وانتشارا.

Dr.Randa
Dr.Radwa