الجمعة 10 مايو 2024

هل كانت مهنة المبدعين الأولي هي السبب في تميزهم عن غيرهم؟


سهى زكي

مقالات16-5-2023 | 16:59

سهى زكي


● ترك الكاتب الأميركي مارك توين الدراسة في سن مبكرة ليشتغل عاملاً في إحدى المطابع، ثم عاملاً على أحد الزوارق البخارية في نهر الميسيسيبي
● وجد نجم نفسه مجبراً على العمل في سن مبكرة، فعمل في معسكرات الجيش البريطاني متنقلاً بين مهن كثيرة منها "مكوجي"، "بائع سجائر"، "عامل في ورش البناء"


كلما قرأت لكاتب وأُعجبت به أحب أن أعرج إلى قراءة سيرته الذاتية، فأكتشف أن أغلب من ولعت بكتاباتهم كانوا ممن يمتهنون بعض الأعمال التى تعد ضمن الأعمال الشاقة والبدنية أحيانا، أو أعمال بعيدة كل البعد عن كونهم مبدعين ومثقفين، بل واكتشفت أن بعضهم لم يتوقف عن مزاولة مهنته بعدما أصبح أديباً كما يعتقد كثيرون، فهو يمارسها ليأكل منها قوت يومه إذ أن الكتابة ليست مشروعا استثماريا سريعا، ربما تكون على المدى البعيد بعد التوزيع والمسابقات وغيرها من المنافذ التى تساعد الكتب على الانتشار فتقع في يد أحد المخرجين الذي يتحمس لها وساعتها ربما يتغير قدر الكاتب ويتحول من كاتب عامل إلى كاتب فقط.


على مستوى الأدب العالمي، كان الكاتب الأميركي مارك توين الذي يعد من أعظم كُتّاب الأدب الساخر في العالم، قد ترك الدراسة في سن مبكرة ليشتغل عاملاً في إحدى المطابع، ثم عاملاً على أحد الزوارق البخارية في نهر الميسيسيبي، و"صمويل لانجهورن كليمنس" هو الاسم الأصلي لتوين الذي ولد في ولاية ميسوري، توفي أبوه وهو في العاشرة من عمره، فبدأ كفاحه للبقاء، وكانت أكثر شخصيات كتبه واقعية، إذ قابلها في حياته وفي الأماكن التي تنقّل بينها، بعد عمله في الملاحة، شارك توين في الحرب الأهلية عام 1861، وهي بدورها خبرة لم ينسها أبدا، بعد انتهاء الحرب عمل في الصحافة في جريدة محلية في ولاية فرجينيا واتخذ اسم "مارك توين"، فرافقه طوال حياته ووقّع به كتبه ورواياته، لم يؤثر البحر في توين فحسب.


اما الكاتب السوري الشهير "حنا مينا"، فهو يعد من أكثر وأهم الأدباء العرب الذين مارسوا مهناً مختلفة قبل الكتابة، مثل عمله أجيراً في محل للدراجات، وعتالاً في الميناء، وبحاراً على أحد المراكب الشراعية التي كانت تنطلق من اللاذقية إلى الإسكندرية، وكان من عائلة فقيرة جداً، وبعد ولادته مرض أبوه مرضاً شديدًا، فأجبره هذا الوضع على التقلب في مهن عدة تأثر خلالها بكل أنواع البشر فى هذه الطبقة المرهقة الفقيرة، وفي العشرين من عمره، عمل حلاقاً في دكان صغير على باب ثكنة عسكرية بالقرب من البحر، وكان زبائنه من الفقراء والبحارة، فانعكست تلك الأجواء على الكثير من أعماله، من بينها ثلاثية "حكاية بحار"، وبعد هجرته إلى دمشق عمل في الصحافة واستقر في وظيفة مستشار في وزارة الثقافة وأمضى فيها 23 عاماً قبل أن يحال إلى التقاعد.


وهل تتخيل عزيزي القارئ المحب لكتابات الروائي الفيلسوف الروسي "ليو تولستوي" أنه كان يعمل في إصلاح الأحذية ومسحها، ووهل تعلم أنه بعدما حصل عليه طوال حياته بعد نجاحه وشهرته ككاتب مهم فى روسيا وبعدما كسب الأموال وأصبح من أثرياء الكتب، وأنه عندما بلغ السبعين من عمره بدأ يقنط من حياته، فتنازل عن ملكيته لضيعته لأقاربه وعن أرباح كتبه لزوجته وارتدى ثياب الفقراء وعاش في الحقول المحيطة ببلدته يكسب مما تعمل يداه، وأنه ظل ينشر مقالات يدعو فيها إلى المساواة بين الناس، وبلغ عدد الرسائل التي كتبها عشرة آلاف رسالة، حتى لقِّب بـ "محامي مائة مليون من الفلاحين الروس"، عندها خشيت زوجته من أن يوزع ممتلكاته على العمال كما يدعو في مقالاته، وهذا ما حصل بالفعل، إذ استيقظت في أحد الأيام لتجد رسالة من زوجها يخبرها فيها قراره بالرحيل، جاء فيها: "حبيبتي صوفيا. أعلم أنك ستتألمين كثيراً لرحيلي وأنه ليحزنني ذلك أشدّ الحزن، لكنني آمل من كل قلبي أن تدركي الأسباب التي تدفعني إلى ذلك الرحيل، لم تكن أمامي وسيلة سواه لتلافي مأساةٍ قد تكون مفجعة! غدا وضعي في هذا البيت غير محتمل يا صوفي! لم أعد قادراً على ممارسة الحياة اليومية في تلك الرفاهية التي تحيط بي، بات الثراء يخنقني! طال صبري على هذا! حتى انقطع رجائي في مزيد من الصبر يقيني شر اليأس من عالمٍ اشتهيته كثيراً، كما يشتهيه كل عجوزٍ بلغ السن التي بلغتها! وما أنشده هو عالمٌ من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال وأنانية الثراء ووحشية الرغبة في التملّك! أريد أن أقضي الأيام المتبقية لي من العمر بسلام".


أما الأديب الإنجليزي الأشهر فى تاريخ الأدب "وليام شكسبير" والذي يعتبر إلى يومنا هذا من أهم كُتّاب المسرح في العالم، فقد كانت مهنته الأساسية هي "سايس للخيل" بعدما أجبره والده على ترك المدرسة،  بدأ العمل لدى أحد القصابين لكنه سرعان ما فرّ منه وتقلّب في مهن عدة حتى بات بعض الذين يكتبون عنه ينعتونه بـ":فلاّح ستراتفورد" نسبة إلى بلده الأصلي.


أجبر الوضع الاقتصادي لعائلة المؤلف الأمريكي من أصل ألماني "جون شتاينبك" الحائز على جائزة نوبل للآداب على تعليق دراسته في جامعة ستانفورد حيث كان يتخصص في علم الأحياء البحرية، وتنقل بين أعمال عدة في مدن أمريكية مختلفة منها أجيراً في مزرعة، عامل بناء، بحاراً، بائع جرائد، مساعد صيدلي، وحين أراد مزاولة أعمال حرة في نيويورك لم يحالفه الحظّ، فعاد إلى كوخ منعزل في كاليفورنيا ليتفرغ للكتابة و تعد روايته "عناقيد الغضب" (1939) من أكثر أعماله شهرة، يصف فيها حالة عائلة فقيرة من أوكلاهوما هاجرت إلى كاليفورنيا خلال الأزمة الاقتصادية في الثلاثينيات من القرن العشرين. شكل الفقر، الذي كان مصدر شقاء شتاينبك، مصدر نجاحه بالإضافة إلى المهن التي عمل بها حتى حصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1961، وبعدها ميدالية الحرية الرئاسية عام 1964. 


ومن الأدباء المصريين الشاعر الكبير الراحل الشهير بـ"الفاجومي" أحمد فؤاد نجم الذي ولد في قرية صغيرة داخل الصعيد المصري في 29 مايو 1929 لأم فلاحة كان يتغنى بجمالها دائما، وأب توفى ولم يتعدّ أحمد فؤاد نجم السادسة من عمره، فوجد نفسه مجبراً على العمل في سن مبكرة، فعمل في معسكرات الجيش البريطاني متنقلاً بين مهن كثيرة منها "مكوجي"، "بائع سجائر"، "عاملا في ورش البناء" وغيرها. واستقر فى وظيفة فى هيئة السكة الحديد من 1951 إلى 1954 ، ثم انتقل إلى وزارة الشؤون الاجتماعية حيث عمل ساعياً للبريد، عن تلك المرحلة يقول: " كنت أعيد اكتشاف الواقع بعدما تعمقت رؤيتي وتجربتي، وشعرت حينئذ، على الرغم من أني فلاح وعملت بالفأس ثماني سنوات، أن حجم القهر الواقع على الفلاحين هائل وغير محتمل، وكنت أجد في الواقع المصري مرادفات قوية لما تعلمته نظريًّا، كان التناقض الطبقي بشعاً".

كان لتلك المهن، الأثر الأكبر في شعره الذي خصّصه للدفاع عن تلك الطبقة عاش نجم طول عمره في إحدى الحارات الشعبية في شقة "فوق السطوح" سعيدا جدا بمكانه ولم تغيره المكانة الأدبية الرفيعة الذى حصل عليها ولم يتأثر بكل الجوائز والتكريمات التى رافقت رحلة صعوده، وظل مخلصا وفخورا بارتداءه للجلباب البلدي.
 

Dr.Radwa
Egypt Air