الجمعة 17 مايو 2024

عمال حضارة الإبداع


محمود المحمدى عبد الهادى

مقالات16-5-2023 | 19:01

محمود المحمدى عبد الهادى

اهتم الملوك والوزراء فى مصر القديمة بالعمال، حيث تلقوا معاملة حسنة وتم الحفاظ على حقوقهم الكاملة الرعاية الصحية والاجتماعية خاصة فى عصر الدولة الحديثة

عرف العمال فى مصر القديمة حق تشكيل النقابات وتنظيم الاحتجاجات العمالية قبيل آلاف السنين، و كانوا حريصين على إتقان العمل فإتقان العمل يقرب صاحبه إلى الإله

تعد الحضارة المصرية القديمة من أعرق الحضارات التى ظهرت على كوكب الأرض لما قدمته من تراث فنى وثقافى عمل على إثراء الحياة البشرية وكان لها الدور الفعال فى تطور الفنون فهى الحضارة التى وضعت أسس وقواعد الفن والفنون وخلفت لنا تراثا يحكى لنا عن مهارة العمال فى تلك الحقبة حيث إن كل ما تركته الحضارة المصرية القديمة تم بأيدى أبنائها عمال مصر فقد أتقن العمال العمل من أجل حب الوطن وإيمانهم بأن هذه العمل من أجل الوطن ورفعة شأنه.

وكان لعمال مصر الدور الكبير لما وصلت إليه الفنون والحرف إلى ذروة التقدم والرقي في الحضارة المصرية القديمة حيث إن الحرف والفنون لم تتقدم إلا بأيدى وأذرع العمال والحرفيين المهرة الذين برعوا واتقنوا عملهم فكانت الآثار المصرية فى كل مكان على  أرض مصر شاهدة على هذه العبقرية الفريدة التى لم يسبق لها مثيل فى أى حضارة أخرى عرفتها البشرية. 

وحرصت التعاليم المصرية القديمة على رفعة شأن العامل وتقديره حيث يذكر فى تعاليم الوزير بتاح حتب عدد كبير من التعاليم التى تعمل على تنظيم العلاقات فى العمل وكيفية التعامل بين الرئيس فى العمل والحث على العمل حيث يذكر الحكيم بتاح حتب: "اجتهد فى كل وقت، افعل أكثر مما هو مطلوب منك، لا تضيع الوقت إذا كنت قادرا على العمل، مكروه كل من يسىء اغتنام وقته لا تهدر فرصة تعزز ثروة بيتك، فالعمل يأتي بالثروة، والثروة لا تدوم إذا هجرت العمل".

أما بتنظيم التعاملات والعلاقات حيث وضعت قواعد ودليل للمديرين فى كيفية التعامل مع العامل وتقديره مما كان ينعكس على إنتاج العامل وكذلك اعتراف النبلاء  في نصوص السيرة الذاتية لكبار الموظفين والتى تأكد على حرصهم فى إعطاء العمال الذين عملوا في مقابر هؤلاء الموظفين أجورهم كاملة من الخبز والجعة تقديرا لتفانيهم في إتقان أعمالهم وإنجاز الأعمال التي كلفوا بها من قبل الملك على أكمل وجه كى ينعموا باستمرارية القرابين إلى مقابرهم بعد وفاتهم واستمرار سيرتهم الطيبة فى ذاكرة التاريخ حتى ينعموا بها مرة أخرى فى العالم الآخر.

ولما كان من دور كبير للعمال فى مصر القديمة حظى العمال والحرفيون على مكانة كبيرة فى الحضارة المصرية عبر التاريخ حيث اهتم بهم الملوك والوزراء فى كل العصور وخاصة فى عصر الدولة الحديثة حيث تلقوا معاملة حسنة وتم الحفاظ على حقوقهم الكاملة الرعاية الصحية والاجتماعية خاصة فى عصر الدولة الحديثة حيث أسسوا لهم قرية خاصة بهم وهى قرية دير المدينة بالأقصر.

فقد اندرج العمال والحرفيون تحت مسميات الطبقة الدنيا حيث كانوا يعيشون فى قرى بجوار نهر النيل، وكانت الطبقة العليا التى تتمثل فى الوزراء والنبلاء تصور على جدران مقابرهم أنشطة هؤلاء العمال والحرفيين ومتابعة أعمالهم ومثال على ذلك نجد الوزير (رخميرع) وزير الملك تحتمس الثالث قد قام بالمرور على العمال وخاصة فى معبد آمون للاطمئنان على حسن سير العمل والمتابعة.

ونالت طبقة العمال والحرفيين فى مصر القديمة وخاصة فى عصر الدولة الحديثة رعاية واهتماما كبيرا من ملوك الدولة الحديثة حيث لم يبخلوا عليهم بالمقابل المادى أو المقابل المعنوى مما عمل على ترقى العامل والحرفى إلى مكانة كبيرة فى المجتمع المصرى وخاصة حرفيى الصناعات الدقيقة مثل صانعى الذهب والمجوهرات الذين كانت صناعاتهم تصل إلى حد الابداع والابتكار.

وتظهر المكانة المعنوية التى حصل عليها العمال فى مصر القديمة فى مجاورة الملوك فى الرسوم والجدريات حيث تم تصويرهم بجوار الملوك فى الأعياد المختلفة حيث كانوا يحملون ألقابا تدل على عظمة مكانتهم الاجتماعية مثل لقب (الصائغ الملكى) ولقب ( صائغ الملك ) وذلك يعبر على تقدير العمال والحرفيين من قبل الملوك.

وتعتبر قرية دير المدينة من أهم الأمثلة التى وضحت الوضع الاجتماعى للعمال والحرفيين فى مصر القديمة وخاصة فى الدولة الحديثة حيث كانت لحمة توحد أفراد هذا المجتمع الذى استقر فى هذه القرية فهم عمال مكلفون بحفر وبناء المقابر الملكية وتجهيزها وزخرفتها مقابل ما يتقاضون من أجر وقد فرضت طبيعة عملهم العزلة عن باقى المجتمع وذلك لأنهم كانوا يعرفون الكثير من توزيع أماكن المقابر الملكية التى كانت تحتوى على أشياء ثمينة لجميع الملوك وحتى لا يتورطوا فى أعمال السلب والنهب التى وقعت فى الجبانة الملكية فى عهد رمسيس التاسع.

وكان العمال يتسلمون بصفة منتظمة أجورهم عينا، كما يتضح من نص للملك رمسيس الثانى، الأسرة التاسعة عشرة، بحسب تقسيم عصور تاريخ مصر القديم، أورده العالم الفرنسى، جان بيير مارى مونتيه، في دراسته بعنوان "الحياة اليومية فى مصر فى عصر الرعامسة"، وهو نقش على لوحة تذكارية أقامها الملك فى معبد أيونو، قال مخاطبا عمال المحاجر "ملأت المخازن بجميع الفطائر واللحوم والكعك لتأكلوها، وأنواع العطور لتعطروا رؤوسكم بها كل عشرة أيام، وصنادل تنتعلوها كل يوم، وملابس تلبسونها طوال العام. عينت لكم رجالا يحضرون لكم الطيور والأسماك، وآخرين يحسبون كم هو مستحق لكم، أمرت بتشييد ورشة فخار تصنع لكم الأوانى الفخارية ليظل ماؤكم صافيا فى الصيف، ومن أجلكم أبحرت السفن دوما من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الجنوب تحمل لكم الشعير والحبوب والقمح والملح والخبز".

عرفت مصر القديمة حقوق العمال والحرفيين فعرفوا حق تشكيل النقابات وتنظيم الاحتجاجات العمالية قبيل آلاف السنين، حيث قاموا بتكوين النقابات العمالية تضمن حقوقهم مثل الحصول على إجازة أسبوعية مدتها ثلاثة أيام، حيث كان الأسبوع لديهم عشرة أيام، كما عرفوا عطلات العمل في الأعياد والمناسبات الدينية، كما عرفت التظاهرات العمالية، وكانت أول تظاهرة عمالية شهدتها مصر القديمة، في عام 1970 قبل الميلاد، وتحديداً في عصر الملك رمسيس الثالث، حين تأخر صرف رواتب العمال لمدة عشرون يوماً. وألقى العمال، الذين كانوا يعملون وقتها فى بناء مقابر ومعابد الملوك فى غرب الأقصر، بأدواتهم ومعداتهم واحتشدوا فى مسيرة ونظموا إضراباً واعتصاماً سلمياً للمطالبة برواتبهم، ولم يتزحزحوا من موقع اعتصامهم برغم كل نداءات المسؤولين حتى تم صرف الرواتب والأجور المقررة لهم.

وكان أيضا من ضمن حقوق العمال والحرفيين تلقى الرعاية الصحية خلال فترة العمل ويظهر ذلك ما قدمه المهندس ايبوى فى مقبرته التى تقع فى البر الغربى بمدينة الأقصر، وبالتحديد فى منطقة دير المدينة، وتحمل رقم 217، ويظهر بمناظرها صورة كاملة للرعاية الطبية والصحية للعمال العاملين فى المقبرة والتى توضح ما كان يقوم به المهندس إيبوى صاحب المقبرة من أعمال نحت مختلفة ومتعددة، يظهر فى أحد مناظر هذه المقبرة منظر كامل يدل على أن المصرى القديم اهتم بالرعاية الصحية للعمال فى مكان العمل حيث كان يوجد أطباء متخصصون فى جميع الأمراض متواجدون فى أماكن العمل حرصا على صحة العمال والحرفيين، فيظهر لنا فى المقبرة منظر طبيب يقوم إعادة الكتف مريض إلى وضعه الطبيعى، ويظهر أيضًا منظر يوضح كيفية تعامل المصريين القدماء مع أمراض العيون، وكيفية فحص العين وعلاجها، ومما سبق يتضح لنا أن هذه المقبرة أظهرت نوعين من التخصصات التى كانت تعالج فى هذه الفترة، وهى إصابات خلع المفاصل وأمراض العيون، وهذا جعلنا نربط بين هذه المناظر وحقوق العمال والحرفيين لكى نتعرف على الرعاية الصحة والطبية للعمال فى مصر القديمة.

ومما سبق عرضه يتضح لنا بأن المصريين القدماء كانوا حريصين على إتقان العمل وعرف أن إتقان العمل يقرب صاحبه إلى الإله وأيضا حصل العامل على مكانة اجتماعية كبيرة فى المجتمع المصرى وضمن له المجتمع المصرى حقوقه التى تمثلت فى الأجر العادل والضمان الاجتماعى وأيضا الرعاية الصحة والطبية.