الخميس 25 ابريل 2024

تلك آثارنا (12) تمثال الكاتب "متري"

مقالات19-5-2023 | 21:30

أن تكون كاتباً في المجتمع المصري القديم، أن تحظى بمكانة مرموقة وتقدير كبير في كافة أوساط المجتمع، فتظل في رغد من العيش، ترتدي النظيف من الثياب وتخالط عليه القوم، ولا تشقى بالعمل الشاق في الحقل، فتظل يداك ناعمة، هكذا كانت تعاليم المصريين القدماء ونصائح الآباء إلى أبنائهم : وعلى حد قول أحدهم: "كن كاتبًا حتى تظل أطرافك ناعمة ويديك ناعمة، ويمكنك ارتداء اللون الأبيض، ويرحب بك رجال الحاشية".

هكذا كانت مكانة الكاتب في مصر القديمة، وما تتمتع به من امتيازات ومميزات لا تتوفر لغيرها من الوظائف،. ولقد تدرجت طائفة الكتبة في مصر القديمة وتنوعت، فكان هناك الكاتب الملكي، الذي يسجل ويثق الأوامر والقرارات والأمور الخاصة بالقصر الملكي، وكاتب المعبد الذي يباشر عمله داخل المعبد، وكاتب الحياة اليومية الذي يباشر عمله في الحقول أو المخازن أو غيرها من الأماكن، ومن هنا تم توثيق الأنشطة الإدارية والاقتصادية؛ ولهذا حظي الكاتب بالخلود في النحت والنقش المصري القديم. وتزخر متاحف مصر بالعديد من تماثيل الكتبة، حيث حرص رجال الدولة المصرية القديمة على تصويرهم بتلك الهيئة الراقية دلالة على ما كان لهم من مكانة ومن تقدير في المجتمع المصري الذي يعتم بالعلم والتعليم.

ومن أروع أعمال النحت الخشبية من عصر الدولة القديمة، وتحديداً الأسرة الخامسة (2494-2345ق.م تقريباً)، تمثال الكاتب "متري" من الخشب المكسو بطبقة من الجص الملون، الذي يصوره  جالساً القرفصاء، وهو الوضع الأكثر شيوعاً للكتبة في مصر القديمة، والذي يرسخ ما لهذه المهنة من استقرار وثبات ومكانة، يمسك بيده اليسرى لفافة من ورق البردي مفرودة على حجره، لا ندري إن كان يمسك في يده اليمنى بريشة الكتابة أم قلم من القصب، فكف يده اليمنى مفقود، بينما يحدق في المشاهد بهدوء.

بدن التمثال مطلي باللون البني المحروق، اللون المعبر عن بشرة الرجال الخمرية اللون نتيجة تعرضهم للشمس، والشائعة الاستخدام للرجال في مصر القديمة، ويغطي راسه شعر طبيعى قصير، وهو يرتدي قلادة أو صدرية مكونة من عدة صفوف ملونة، مرسومة على الصدر،  وكتب اسمه، مع ألقابه، على القاعدة الخشبية التي يعلوها التمثال.  ومن بين الألقاب الكثيرة التي كان يحملها: "حاكم المقاطعة، وكاهن المعبودة ماعت، والأعظم بين العشرة بمصر العليا، والمستشار المقرَّب.

وعلى الرغم مما أصاب التمثال من تلف، تسبب في تساقط طبقات الجص الملون، التي كانت تكسوه، في مواضع كثيرة منه، وتآكل الخشب وأليافه في مواضع كثيرة ايضاً، وعلى الرغم من أن التمثال لا يبدو أنيقاً، مثل تماثيل أخرى، خشبية أو حجرية، ملونة وغير ملونة، من مصر القديمة، إلا أن الفنان استطاع أن ينقل لنا في تعبيرية كبيرة وواقعية شديدة ملامح تنبض بالحياة، وخاصة في عينية المطعمتين، فقد نقلت لنا ما يتمتع به الكاتب من يقظة وانتباه وحيوية، وما تشي به ملامحه من صرامة وجدية بادية لا تخطئها عين المشاهد للتمثال.

ولعل ذلك يرجع إلى براعة الفنان النحات ودرايته بالخامات التي تؤدي له ما يريد توصيله في عمله النحتي، فقد  قام بتطعيم العينين باستخدام البلور الصخري من حجر الكوارتز المعتم لبياض العين، وحجر الأوبسيديان الأسود  لإنسان العين بينما الحدقة من البللور الصخري فيما يبدو، ويرى البعض أن حدقة العين وإنسانها من حجر اللازورد الأزرق، بينما استخدم  أسلاك من النحاس لتحديد الجفن وقد تعرضت هذه الأسلام للصدأ والتآكل فتحولت إلى اللون أخضر نتيجة تحول النحاس إلى خام الملاكيت الأخضر.

إضافة إلى ما سبق، فإن هناك ملمحاً مميزاً آخر في عيون هذا التمثال، لا نراه في عيون التماثيل الأخرى، وهو أن بياض العين به احمرار طفيف لسنا ندري أكان متعمداً باختيار هذه نوعية من الحجر بها هذه العروق الحمراء، أم أن هذه العروق الحمراء كانت نتيجة معالجة كيميائية ما م الفنان للحجر الطبيعي، أم أنها تشكّلت وتكونت بمرور الزمن في هذا الحجر ونتيجة لتغيرات حدث لمكونات الحجر بفعل عوامل طبيعية أو كيميائية تعرض لها.  

وأخيراً بقي أن نشير إلى أن هذا التمثال عثر عليه في سقارة عام 1925 ويرجع تاريخه إلى عصر الأسرة الخامسة من الدولة القديمة، وكان معروضاً بالمتحف المصري في التحرير و تم نقله إلى المتحف المصري الكبير المزمع افتتاحه قريبا.

 

Dr.Randa
Dr.Radwa