الخميس 2 مايو 2024

عين الرضا عن كل عيب كليلة


د حسين علي

مقالات28-5-2023 | 14:02

دكتور حسين علي

نحن نرى ما نحب، وتعجز أعيننا عن رؤية ما نكره، ومشكلة العقل البشري أنه إذا ركَّز انتباهه على محاسن شخص أو على مثالبه، انتبه إلى الكثير منها؛ فهو إذا أحب شخصَا تحولت – في نظره – كل عيوبه إلى مزايا، وإذا كره شخصًا صارت في نظره كل أقواله وأفعاله رذائل بالغة القبح. وكما يقول المثل الشعبي الدارج: «حبيبك يبلع لك الظلط .. وعدوك يتمنى لك الغلط». 
إن المحبوب في نظرنا هو إنسان خلوق وفاضل في كل ما يقول أو يفعل. وإذا رأينا منه شيئًا يستوجب الذم أو اللوم لجأنا إلى منطق التبرير، وتحولت كل خطاياه إلى مزايا. كل إنسان يخطئ؛ والمهم هو عاطفتنا نحوه، فإذا أحببناه بررنا أخطاءه؛ ودافعنا عن هذه الأخطاء بقوة. أما إذا كرهنا إنسانًا ما؛ تحولت كل حسناته في نظرنا إلى سيئات. هذه هى طبيعة الإنسان في كل زمان ومكان. 
والغريب في الأمر أن الإنسان قد يعيش فترة من الزمن – تقصر أو تطول – وهو ينظر إلى من يحب بوصفه نموذجًا رائعًا للصدق والإخلاص، ويزداد حبه له يومًا بعد يوم، متوهمًا أن هذا المحبوب يبادله حبًا بحب. من هنا تأتي الفجيعة الكبرى حين تكشف الأيام كم كان مخدوعًا في حبه الذي صور له محبوبه في أبهى صورة.     
العين ليست آلة صماء كالكاميرا تُصَوِّر الواقع كما هو، وتنقله بحذافيره إلى المخ، بل إنها مصبوغة بلون معين؛ لون بيئتها (أي بيئة صاحبها، ومعتقده الديني، وتربيته، ومستواه الثقافي، ودرجة تعلمه، وطبقته الاجتماعية...إلخ). ووفقًا لهذا اللون الذي يصبغ أعيننا، نرى أشياءً دون أشياء، رغم تجاور هذه وتلك أمام ناظرينا!! إننا لا نرى كل ما هو ماثل أمام أعيننا، بل نرى ما نرغب في رؤيته فحسب. بعبارة أكثر دقة يمكننا القول: إننا لا نرى ما هو ماثل أمام أعيننا، وإنما نرى ما هو كامن وراءها، أي نرى الواقع كما تصوره لنا الأفكار التي غُرِسَت برؤوسنا وتم حشوها بها. 
إننا لا ندرك كل شيء حولنا، إننا ننتقي ما نريد إدراكه، ونترك ما عداه حتى وإن كان ماثلاً أمام أعيننا، وقد يبدو هذا القول غريبًا أو محيرًا للوهلة الأولى، ولكن الواقع المعيش والتجارب التي أجرِيَت أثبتت صحة ذلك، وتُعْرَف هذه الحالة في علم الأعصاب المعرفي باسم «عمى التغير» Change Blindness وهى ظاهرة من ظواهر الإدراك الحسي تقع عندما يحدث تغيير في المشهد لا يستطيع المرء ملاحظته. وهذه العملية لا تُجْرَى طوعًا، بل تحدث دون وعي أو انتباه من جانبنا. وغالبًا ما ينصب اهتمامنا ويتركز على شيء أو أشياء محددة تهمنا، وينصرف انتباهنا عن الأشياء الأخرى رغم كثرتها؛ أو قد يكون بسبب كثرتها. ومن ثمَّ نفشل في إدراك التغيرات التي تطرأ على المشهد المحيط بنا. ويُعَد الفيلسوف الأمريكي «وليم جيمس» (1842- 1910) أول من ذكر عدم القدرة على كشف التغيرات في كتابه «مبادئ علم النفس» (1890). 
في حياتنا اليومية تتوافر أمثلة كثيرة لظاهرة «عمى التغير»، فإذا كنت على موعد مع أحد الأشخاص وتنتظره في مكان ما، فإنك تترقب قدومه، ولا ترى سواه، فإذا كنت تعلم أنه سيأتي راكبًا سيارته، فلن ترى سوى نوع سيارة من أنت في انتظاره وحجمها ولونها، أما بقية السيارات، بأنواعها وألوانها وأحجامها المختلفة فلن تلتفت إليها وكأنها غير موجودة بالشارع. أما إذا كنت تعلم أنه سوف يأتي مترجلاً، فسوف تتفحص كل من يماثل من تنتظره في قوامه وهندامه وطريقته في السير، لدرجة أنه لو مر بك أحد أصدقائك أو زملائك أو جيرانك ملوحًا لك بالتحية فقد لا تنتبه؛ لشدة استغراقك في التركيز على فحص من يماثل الشخص الذي تنتظره. هذه تجربة نعايشها مرارًا في حياتنا، وهى تدعم ظاهرة «عمى التغير».
كلنا مصابون بـ «عمى التغير»، لكن بدرجات متفاوتة، إننا نعجز عن رؤية أشياء ماثلة أمام أعيننا، فكيف نحكم على وقائع تمت منذ مئات السنين؟ أو أحداث جرت على بُعد آلاف الكيلو مترات؟  إن ما يمكن استخلاصه من ظاهرة «عمى التغير» هو أن هناك أشياء قائمة وماثلة أمام أعيننا الآن ولا نستطيع أن نراها. ومع ذلك نتعارك ونتحارب ونتقاتل ونختلف ونتخاصم حول أشياء لم نرها، لأنها حدثت منذ أكثر من ألف سنة، نتعارك ونتحارب ونتقاتل حولها وكأننا رأيناها وعايشناها. هل ثمَّة حماقة أكبر وأفظع من الاقتتال حول مسائل عرقية ومذهبية: سنة وشيعة.. علويون ودروز .. مسلمون ومسيحيون .. عرب وفرس .. سيخ وهندوس .. . إلخ؟! وقائع حدثت منذ مئات السنين لم نرها؛ لأننا ببساطة لم نكن موجودين أصلاً حين حدثت، ومع ذلك تسيل الآن - ونحن فى القرن الحادى والعشرين- الدماء أنهارًا، وكأننا على دراية بمن على حق ومن على باطل!!
لا بد أن نعرف أن دائرة إدراكنا محدودة، وهذا يصل بنا إلى نتيجة بالغة الأهمية، تقول بضرورة أن يكون تسامحنا عظيمًا، وتواضعنا أعظم، علينا أن نتسامح مع الآخر، ونكون أكثر تواضعًا معه.

______________

دكتور حسين علي، أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس

 

Dr.Randa
Dr.Radwa