بقلم – اللواء محمد إبراهيم
الحديث حول النجاح الكبير الذى حققه المسئولون المصريون فى مباحثاتهم المكثفة مع ممثلى كل من حركتى فتح وحماس خلال الأيام القليلة الماضية أمر يجب التوقف عنده كثيراً، فهو نجاح يضاف إلى رصيد الوطنية المصرية، وهى تسعى لخدمة قضيتها الفلسطينية، إلا أنه فى ضوء أن هذا النجاح يعد خطوة مهمة فى طريق أطول وأصعب وجهد سوف يتواصل، حتى تتبلور نتائجه على الأرض فى المرحلة المقبلة، فلن أتعرض إلى تفصيلات هذه المباحثات المكثفة إلا بشكل سريع وبالقدر اليسير؛ تجنباً لأية اجتهادات قد لا تكون صحيحة، ولذا سوف أتناول هنا معالجة الإطار العام الأشمل، وهو كيف عادت البوصلة الفلسطينية إلى مسارها الصحيح فى اتجاه الدولة المصرية العظيمة.
من الطبيعى أن تكون العلاقات المصرية الفلسطينية على كافة المستويات السياسية أو التنظيمية علاقات مميزة مهما لحقت بها بعض الشوائب فى بعض الفترات، فالدور التاريخى لمصر تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الشعب الفلسطينى لا يمكن توصيفه بأقل من أنه الدور الرائد والفاعل والمؤثر والمشرف فى كل مراحل وتطورات القضية.
ومن هذا المنطلق كانت المشاورات والاتصالات المصرية الفلسطينية ونتائجها، بمثابة حجر الزاوية فى دفع الموقف الفلسطينى للأمام، سواء كان هذا التنسيق والتشاور على المستوى الرئاسى والسياسى أو على مستوى التعامل المصرى مع التنظيمات والفصائل الفلسطينية المختلفة، وهى كلها تحركات ارتكزت على كيفية ترتيب البيت الفلسطينى من الداخل كخطوة ضرورية نحو بلورة موقف فلسطينى موحد مدعوم عربياً وقادر على مواجهة الموقف الإسرائيلى المتشدد والرافض لفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
ولا شك أن التواصل المستمر بين الرئيس عبدالفتاح السيسى والرئيس أبو مازن يؤكد عمق هذه العلاقة القوية، كما أن ما رأيناه مؤخراً من إقدام أهم التنظيمات الفلسطينية مثل: فتح، وحماس، والجهاد الإسلامى على زيارة مصر وبحث كافة تفصيلات الموقف وطرح بعض الرؤى والحلول، يشير إلى أن البوصلة الفلسطينية مازالت صحيحة وتسير فى الاتجاه السليم، مع تأكيد أننا لا يمكن أن نقف فى وجه أى تحرك فلسطينى يسعى لتنويع علاقاته الخارجية، مادام الأمر يصب فى المصلحة الفلسطينية العامة ولا يؤثر سلباً على الموقف المصرى.
بداية من الضرورى الإشارة إلى ثلاث حقائق رئيسية:
أن المسئولين المصريين – على مستوياتهم المختلفة - المتابعين عن كثب لهذا الملف الصعب، هم مجموعة وطنية محترفة ومتفانية تضع نصب أعينها القضية الفلسطينية، وتترجم بصورة فعلية المبدأ الذى تتبناه مصر وهو أنها تقف على مسافة واحدة من جميع الفصائل والتنظيمات ولا يعنيها إلا مصلحة الشعب الفلسطينى.
أن الدور المصرى يلقى ترحيباً كبيراً ليس فقط من جانب القيادة الفلسطينية، ولكن أيضاً من جميع أطياف الشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذى يمنح هذا الدور تميزاً واضحاً لا يرقى إليه أى دور آخر مع استمرار ترحيبنا بأية أدوار أخرى مساعدة وليست أدواراً هدامة.
أن المشروع الوحيد المتكامل والمطروح لتحقيق المصالحة الفلسطينية هو المشروع الذى صاغته مصر بعد مفاوضات مضنية تمت مع جميع الفصائل لعدة سنوات وحصل على موافقة من الرئيس أبو مازن وجميع التنظيمات الفلسطينية وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامى وكافة فصائل المقاومة، حتى نجحنا بامتياز فى توقيع هذا الاتفاق فى القاهرة فى الرابع من مايو عام ٢٠١١ الذى أشاد به العالم أجمع ولكنه للأسف لم يتم تنفيذه حتى الآن.
وفيما يتعلق بالقضايا الرئيسية المرتبطة بإعادة ترتيب البيت الفلسطينى وتحرك مصر من أجل تهيئة الوضع الفلسطينى ليكون أكثر قدرة على التحرك فى المرحلة القادمة، هناك مجموعة من القضايا التى تمثل اهتماماً مشتركاً لدى الجانبين المصرى والفلسطينى، وفى هذا المجال يمكن الإشارة إلى القضايا الخمس الرئيسية التالية:
أولاً : قضية الحدود المصرية مع قطاع غزة
تمثل هذه القضية أحد أهم القضايا التى تحرص مصر على بحثها بصفة خاصة مع حركة حماس باعتبارها القوة المسيطرة على قطاع غزة منذ حوالى عشر سنوات وهناك العديد من المطالب المصرية العادلة والضرورية التى تتمسك بها وتصر على تنفيذها تتلخص فى وجوب ابتعاد حماس تماماً عن المساس بالأمن القومى المصرى، وبما يتطلب إغلاقها الأنفاق وتأمين منطقة الحدود المشتركة واعتقال أية عناصر موجودة فى قطاع غزة يشتبه فى تقديمها أى دعم لوجستى للجماعات الإرهابية الموجودة فى سيناء، وإنى على ثقة بأن ما تقوم به القيادة الجديدة لحركة حماس من مراجعة صادقة لمواقفها تجاه مصر ستؤدى بها إلى نتيجة واحدة، وهى أن مصر تمثل العمق الحقيقى لفلسطين كلها وليس لقطاع غزة فقط ومن ثم يجب الحفاظ على أمنها وعدم السماح بأن تكون غزة فى أى وقت مصدراً لتهديدنا وهو ما سينجم عنه وضع الأمور فى نصابها الصحيح.
ثانيا: قضية المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية
تعد هذه القضية بمثابة القضية المركزية التى لا يمكن حلها إلا من خلال تنفيذ متطلبات المصالحة الواردة فى الاتفاق الشامل الموقع فى القاهرة عام ٢٠١١، وترى مصر أن أى تحرك سياسى لتنشيط القضية الفلسطينية لابد أن يرتكز على تحقيق المصالحة؛ نظراً لأن إسرائيل تتذرع بعدم وجود أية إمكانية للتحرك قدماً فى عملية السلام مادام هناك انقسام فلسطيني تسيطر فيه حماس على قطاع غزة ويفرض الرئيس أبو مازن سيطرته على الضفة الغربية فقط، ومن هذا المنطلق لا يمكن أن تمانع مصر من استئناف جهودها لتحقيق المصالحة التى تتولى مسئولية ملفها بقرار من الجامعة العربية بشرط توافر الإرادة السياسية لدى الجميع من أجل تنفيذ متطلبات هذه المصالحة.
ثالثا: قضية الأوضاع فى قطاع غزة
لا شك أن هناك العديد من التعقيدات فى الوضع الحالى فى قطاع غزة نتيجة طول فترة الانقسام الفلسطينى الذى تعدى عقداً من الزمن، ومن الطبيعى أن تتدخل مصر بين الحين والآخر لتهدئة الأمور فى القطاع أو إمداده ببعض السلع الحيوية؛ نظراً لأن الوضع العام فى القطاع يؤثر تأثيرأ مباشراً على الأمن القومى المصرى ولا يمكن لمصر أن تقف مكتوفة الأيدى أمام وضع بهذا الشكل أو أمام أى تهديد لأمنها.
** أما فيما يتعلق ببعض المشكلات الأخرى التى أثيرت مؤخراً وأهمها مشكلة اللجنة الإدارية التى أسستها حماس وبعض الأمور المالية المتعلقة بموظفى القطاع، فمن المؤكد أن البيان ذا النقاط الأربع الذى أصدرته حماس يوم ١٧ الجارى وأعلنت فيه موافقتها على حل هذه اللجنة ودعوة حكومة الوفاق لممارسة مهامها والموافقة على إجراء الانتخابات العامة والاستعداد لبدء حوار المصالحة يعد تطوراً إيجابياً جديداً يمهد المجال أمام ترتيب البيت الفلسطينى بالشكل الصحيح، وهو الأمر الذى سوف ننتظر ترجمته على الأرض فى الفترة القريبة المقبلة.
كما أن ردود الفعل الإيجابية على هذا البيان من جانب الرئيس أبو مازن وقيادات حركة فتح ووفدها الذى كان موجوداً فى القاهرة برئاسة عزام الأحمد بالإضافة إلى ترحيب كافة التنظيمات والشخصيات الفلسطينية بالبيان سوف تفتح الطريق أمام إحداث تغيير جوهرى فى ترتيب البيت الفلسطينى، دون أن ننسى أن الجميع قد أشاد بالجهد المصرى الكبير الذى تم بذله للوصول إلى هذه النتيجة.
رابعا: قضية معبر رفح
من الضرورى أن يعلم الجميع أن مصر لم تكن طرفاً فى الاتفاق الذى أدى إلى فتح معبر رفح بشكل دائم والذى يسمى اتفاق المعابر والحركة الموقع فى الخامس عشر من نوفمبر عام ٢٠٠٥ بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل مع وجود مراقبة أوربية فى المعبر، ولم تقم مصر بإغلاق المعبر إلا بعد سيطرة حماس على القطاع فى منتصف عام ٢٠٠٧ نتيجة غياب أسس تشغيل المعبر المتفق عليها سواء المراقبين الأوربيين أو المؤسسات الشرعية التابعة للسلطة الفلسطينية، إلا أن مصر لم تتوانَ منذ هذا التوقيت عن فتح معبر رفح على فترات من أجل تخفيف المعاناة عن أبناء القطاع، أما تشغيل المعبر بشكل دائم مرة أخرى فهو أمر يتطلب توافر الظروف السياسية والأمنية الملائمة التى لم تتوافر حتى الآن بالشكل المطلوب، ولاشك أن تحقيق المصالحة الفلسطينية سوف يزيل أهم العقبات المثارة أمام فتح المعبر بصورة مستمرة.
خامسا : قضية الأسرى
تحظى هذه القضية باهتمام ملحوظ لدى الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى وهناك ثقة كاملة من كلا الطرفين فى قدرة الجانب المصرى على حل مشكلة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس فى مقابل إفراج إسرائيل عن بعض الأسرى فى السجون الإسرائيلية، ولاشك أن نجاح مصر فى إنجاز أهم صفقات تبادل الأسرى بين الجانبين بعد مفاوضات مضنية استمرت خمس سنوات وهى صفقة شاليط (أو صفقة وفاء الأحرار) فى نهاية عام ٢٠١١ والتى تم بمقتضاها مبادلة جندى إسرائيلى واحد بأكثر من ألف أسير فلسطينى يعد عاملاً مهماً يؤكد إمكانية تولى مصر هذا الملف بنجاح مرة أخرى إذا طلب الطرفان ذلك.
فى النهاية لا أجد أمامى بداً من توجيه رسالة إلى القيادة الفلسطينية التى نثق فيها وإلى كافة الفصائل والتنظيمات الفلسطينية بمختلف توجهاتها وإلى الشعب الفلسطينى الصامد، ورسالتى باختصار أن يثق الجميع تماماً فى الموقف المصرى وصلابته وأن يحرصوا على استثماره لصالح ترتيب حقيقى وسليم للبيت الفلسطينى من الداخل ولصالح دعم القضية الفلسطينية، وأن يستغلوا هذا الرصيد الضخم من الخبرة والاهتمام المصرى بالقضية فى الوصول إلى أنسب تصور ممكن للتحرك خلال الفترة القادمة من أجل دفع عملية السلام التى تقوم إسرائيل بمحاولة وأدها استناداً على الخلافات العربية والفلسطينية وانشغالنا بمشاكلنا الداخلية، وأن ينفذ الجميع التزاماته ويتحمل مسئولياته الوطنية كاملة أمام الله أولاً استناداً على الإنجاز الذى حققه جهاز المخابرات العامة المصرية.
كما يجب أن يكون الجميع على قناعة بأنه حينما يعاد ترتيب البيت الفلسطينى بإرادة فلسطينية حقيقية وبمساعدة مصرية ودعم عربى، فإن الموقف حينئذ سوف يتغير حتماً للصالح الفلسطينى، ومن المؤكد أن الرئيس السيسى سوف يستثمر وجود سيادته فى نيويورك سواء فى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أو اللقاء المرتقب مع الرئيس الأمريكى دونالد ترمب فى إعادة التأكيد على أن حل القضية الفلسطينية يعد أساس الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، وأن الوقت قد حان لبدء مفاوضات جادة تؤدى فى النهاية إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة التى تعيش فى أمن وسلام واستقرار بجوار إسرائيل.