بقلم أمينة السعيد
من دواعي فخر المرأة المصرية أن المكاسب الاجتماعية التي أحرزتها لم تأت عفواً.. أو علي سبيل الصدقة والإحسان.. كذلك لم تأت نتيجة لظروف طارئة ضاغطة مثلما حدث في الغرب حن قامت الأوروبيات والأمريكيات بمظاهرات غاضبة لجأن فيها إلي العنف الشديد فحطمن فوانيس الشوارع والعربات والمنشآت العامة، ولم يهدأن حتي استجيبت مطالبهن، أو استجيب الجانب الأهم منها علي الأقل.
لا، لم يحدث شيء من هذا في مصر، إنما أتت المكاسب نتيجة حركة نسائية قوية انبثقت من قلب الحركة الوطنية، وصنعتها مشاركة النساء للرجال في معركة الصراع الوطني وتقديم التضحية والفداء..
إن الحركة النسائية عندنا كما يثبت تاريخها المجيد، ذات أصالة وعراقة، وفيها تتوافر جميع مقومات النجاح، فكان من الطبيعى أن تنضج على مضى العهود، وأن تؤتى فى الوقت المناسب ثمراتها الطيبة..
ولعل أروع ما يذكر للمصرية فى هذا المجال، أنها خاضت معركة النضال الوطنى قبل أن تحصل على أى حق من الحقوق، أو يعترف لها بأدنى دور اجتماعى خارج أسوار البيت الذى كانت تعيش وتموت فيه... وكان دافعها الوحيد إلى المشاركة فى التضحية والفداء وطنياً بحتاً يقوم على الإيمان الراسخ بأرضنا الطيبة، وحق هذه الأرض التى عاش عليها آباؤنا وأجدادنا ألوف السنين فى التطهر من دنس الاستعمار والتخلص من نير الظلم والاستبداد بجهود أبنائها البررة الرجال منهم والنساء...
ولقد بدأت الانتفاضة الأولى للحركة النسائية أيام الزعيم مصطفى كامل فى مستهل القرن العشرين عندما صدرت القوانين بتقييد حرية الصحافة، وكتب الثائر الشاب مختار طلعت صبور بإحدى الجرائد اليومية مقالاً مثيراً يودع به حرية الصحافة تحت عنوان: «وداعاً إلى حين ..» فلقد هز هذا المقال المثير مشاعر الناس بعنف، واخترقت أصداؤه جدران الحريم العالية، فإذا بالمصرية، التى لم تكن تعرف الطريق إلى باب بيتها، تنفر غاضبة وتنفض عنها غبار قيود التقاليد البالية، وتخرج إلى الطريق - لأول مرة فى تاريخ بلادنا - فى مظاهرة عارمة تنادى بسقوط الاستعمار والاستبداد، وتطالب برفع القيود عن الصحافة وإعادة حريتها لها كى تمضى فى طريقها المعهود لسان الشعب الحر الأمين...
وكانت تقود هذه المظاهرة ست فتيات لم تبق على قيد الحياة منهن إلى الآن سوى واحدة أطال الله عمرها وهى السيدة تفيدة طلعت صبور شقيقة الثائر الشاب مختار الذى كتب مقال «وداعاً إلى حن ».. واشتركت معها فى القيادة أختها عريفة طلعت صبور، كذلك جميلة عطية والأخوات الثلاث وجيدة وأمينة وفهيمة ثابت.. كانت قيادة المظاهرة تتألف من أولئك الخمس المتحمسات.. ومن ورائهن سارت جمهرة ضخمة من النساء يهتفن بسقوط الاستبداد والاستعمار ويطالن بعودة حرية الصحافة.
ولقد شعرت السلطة الحاكمة المستبدة بمدى خطورة مشاركة النساء والرجال فى الحركة الوطنية، فتصدت الشرطة لهن، ولجأ رجال الأمن إلى العنف والتحقير والتطاول فى تفريق شملهن... غير أن هذا الأسلوب زاد النساء حماسة على حماسة، فقسمن أنفسهن إلى مجموعات صغيرة تولت توزيع المنشورات المعادية للاستعمار، وتعليق الملصقات الوطنية على الجدران فى جميع الأحياء، واقتحام دور الحكومة لحض الموظفن على الانضمام إلى حركة الاحتجاج على تقييد حرية الصحافة..
وكان الزعيم مصطفى كامل ومريدوه وفى مقدمتهم الشاب الثائر مختار طلعت صبور يقفون وراء هذه الحركة النسائية المباركة، يشجعونها ويدفعونها إلى المضى فى طريق الجهاد..
وجدير بالذكر أن الزعيم الخالد كان يكتب بقلمه وبيده الخطب الحماسية، ويعطيها لقائدات الحركة كى يلقينها فى المحافل العامة ويستنفرن بها همم الرجال، ويوقظن الحماسة الوطنية فى نفوس الكبار والصغار..
وعندما انتقل مصطفى كامل إلى جوار ربه، أتى رجال السياسة بالفتاة تفيدة طلعت صبور وحملوها العلم فسارت به فى مقدمة موكب الجنازة حتى وصلت إلى المقبرة فى حى الإمام الشافعى.
ومن جميل ما يذكر لثورة 1952 أنه حين تقرر نقل جثمان مصطفى كامل من مقبرته الأصلية إلى ضريح الزعيم الدكتور أحمد ماهر، ذهبت السلطات تبحث وتنقب عن حاملة العلم يوم وفاته، ولما وجدتها أسند إلى السيدة تفيدة طلعت صبور وهى فى شيخوختها أن تقوم بنفس الواجب مرة أخرى، فحملت العلم ومضت به مع الجثمان حتى مثواه الجديد...
ومما يدل على فرط إيمان المصرية القديمة بقضايا بلادها أن القائدات الخمس للمظاهرة النسائية الأولى، مضن فى طريق الجهاد على توالى العهود، فانخرطت تفيدة طلعت صبور فى صفوف الهال الأحمر وأسهمت بدور مشكور فى محاربة الأوبئة التى اجتاحت بلادنا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولم تتوقف عن البذل والتضحية إلا بعد أن أثقلت السنين ظهرها، وأعجزتها الشيخوخة عن المضى فى رسالتها..
كذلك فعلت أختها الكبرى عريفة طلعت صبور فقد انضمت إلى صفوف سعد زغلول وشاركته هى والأخوات الثلاث وجيدة وأمينة وفهيمة ثابت الجهاد فى دنيا السياسة من خلال وطنهن ببسالة الوفد المركزية للنساء، وظللن يعملن فى خدمة وطنهن ببسالة وتفان إلى أن حانت ساعتهن وانتقلن كل بدورها إلى رحاب الله.
أما جميلة عطية فقد انضمت إلى صفوف هدى شعراوى، وبرزت بجانبها فى عام 1919 حن قامت الثورة الوطنية الكبرى على أثر نفى سعد وزملائه خارج الباد، فقد هب المصريون عن بكرة أبيهم يصرخون بالاحتجاج، ولجأ المستعمر إلى العنف كى يسكتهم، فرد الشعب المصرى على العنف بالعنف، وكان القتال المرير الذى سقط فيه خيرة الرجال من شباب مصر الناهض، وتخضبت أرضنا الطيبة بدمائهم الذكية..
وباستشهاد الآباء والأزواج والأبناء حطمت الفجيعة أسوار الحريم للمرة الثانية، وإذا بنساء مصر يخرجن إلى الجهاد فى مظاهرة أخرى أعظم وأروع من سابقتها... وكانت تقود هذه المظاهرة هدى شعراوى وإلى جانبها إستر فهمى ويصا وجميلة عطية وهدية بركات، وإحسان القوصى، وغيرهن من الشهيدات الواعيات القبطيات والمسلمات اللاتى خرجن حقاً تحت علم يتعانق فيه الصليب مع الهلال، دليل الوحدة الوطنية الكبرى، التى لا تعرف فرقة ولا خلافاً..
وكان المستعمر قد تلقى درساً لا ينسى بخروج النساء إلى المعترك الوطنى أيام مصطفى كامل، فاستقر رأيه على الحيلولة دون تكرار التجربة مرة أخرى خاصة وأنها جاءت أوسع شملاً وأصلب رأياً وأكثر عناداً فى خدمة الوطن..
وأحاط الجنود بالمظاهرة النسائية، ووجهت البنادق إلى صدور المتظاهرات وكان التركيز أساساً على هدى شعراوى التى كانت تقف فى المقدمة وتلهب مشاعر الرجال قبل النساء بهتافاتها الحماسية الرائعة.. وعندما رأت إستر فهمى ويصا وميض الشر فى عيون جنود الإنجليز، وتأكد لها أنهم يبيتون شراً لهدى شعراوى اندفعت من بين الصفوف إلى الأمام وفتحت صدرها للبنادق، وخرجت تقول للمستعمرين باللغة الإنجليزية التى تتقنها: «هاكم صدرى فأطلقوا على الرصاص إذا كنتم رجالاً حتى يعرف العالم كله أنكم دون البشر وأحط فى وحشيتكم من الحيوانات .»
وأخذ الإنجليز بكلامها الرائع، وثابوا إلى رشدهم مقدرين خطورة قتلهم النساء بعد قتلهم الرجال، فاكتفوا بإطاق أعيرة للإرهاب، تصوروا أنها فى الهواء، ولكن بعض رصاصهم استقر فى قلب فتاة مصرية فى مقتبل العمر اسمها شفيقة محمد، فسقطت على الأرض ولفظت أنفاسها الطاهرة الأخيرة قبل أن يصل إليها الإسعاف.. ولم يكتف الإنجليز بذلك، إنما لجأوا إمعاناً فى التنكيل إلى تطويق المظاهرة النسائية ومنعها من الحركة لمدة سبع ساعات كاملة تحت شمس الصيف المحرقة مما أدى إلى إصابة كثيرات بالإغماء، ثم قبض على الزعيمات، وأودعن السجن تحت الحجز، ولم يطلق سراحهن إلا عندما تقدم قادة الثورة ودفعوا الكفالة، وأخرجن المتظاهرات..
غير أن القتل والسجن والاضطهاد والتعذيب، لم يزد هدى وصاحباتها إستر فهمى ويصا، وجميلة عطية، وهدية بركات، ومن ورائهن المصريات من جميع الفئات، إلا عزماً وإصراراً على مزيد من الجهاد.. وبالفعل أنشأن جمعية المرأة الجديدة بزعم أنها لخدمة الفقيرات، والحقيقة أنها كانت الملجأ السرى لزعماء الثورة من الساسة والمجاهدين.. وفى هذا الملجأ السرى كان الرجال يجتمعون كل ليلة خفية عن الأنظار المتربصة بهم، ويكتبون المنشورات.. ويوزعون أوامر الجهاد على المجاهدين.. ويسجلون الأوامر السرية ويطبعونها..
كل هذا كان يحدث فى مقر الجمعية النسائية، ثم تكلف النساء بحمل الأوراق والمنشورات السرية ونقلها إلى مواقعها، فكانت هدى وأخواتها يخفينها تحت «الحبرة » التى بقين إلى ذلك الوقت يتحجن بها، ويسافرن بها من بلد إلى بلد، ومن مديرية إلى مديرية، ومن كفر إلى كفر.. مقدرات تمام التقدير خطورة العمل الذى يقمن به، ووحشية العقاب الذى ينلنه إذا اكتشف أمرهن..
وعندما انتهت الثورة بانتهاء الظروف التى دعت إلى قيامها، لم تترك هدى وصاحباتها مواقعهن السياسية، وظللن يخدمن الوطن فى ظل لجنة الوفد المركزية للسيدات والاتحاد النسائى المصرى الذى تغير اسمه وأصبح الآن «جمعية هدى شعراوى ..»
ولقد كرم الرئيس جمال عبدالناصر عام 1967 الباقيات على قيد الحياة من زعيمات الثورة الوطنية ومنحهن وسام الكمال وهو أرفع أوسمة الدولة للنساء - إلى السيدات: إستر فهمى ويصا، وجميلة عطية، وإحسان القوصى، وهدية بركات التى شاء القدر أن توافيها المنية قبل الاحتفال بساعات، فوضع الوسام على نعشها وظل فوقه يشع نور الفخر والعزة إلى أن أرقدت فى مثواها الأخير...
كذلك فعل رئيسنا المفدى أنور السادات، ففى عيد العمال الاجتماعى الأخير كرم الباقيات من الزعيمات السياسيات القديمات، وقلد السيدتين مارى كميل، وسيزا نبراوى وسام الكمال فازدادت المصرية بهذه اللمحة الكريمة شرفاً على شرف..
ولا شك أننا لا نستطيع ونحن نتكلم عن البطولات النسائية فى ثورة 1919 وما بعدها، أن نغفل اسم مجاهدة كبيرة لعبت أدواراً مهمة فى تاريخ الكفاح الوطنى لبلادها، وهى السيدة صفية زغلول زوجة الزعيم الخالد ورفيقة كفاحه والأم الروحية للشعب المصرى... فلقد ظلت على مضى هذه الفترات الصاخبة من تاريخ كفاحنا الوطنى ملتزمة موقعها فى بيت سعد.. لم تخرج منه ولم تشارك فى مظاهرات، ولكنها كانت فى الحقيقة مصدر الوحى والإلهام، تمنح الشجاعة وتدفع إلى التفانى فى الكفاح.. ومن آيات ما فعلته يوم اعتقل سعد وأصحابه إلى مالطة عام 1919 أن رفضت مرافقته رغم احتياجها له واحتياجه إليها.. واختارت بمحض إرادتها أن تبقى لتضفى بوجودها الحماسة الوطنية على قلوب المصرين..
ولقد خصصت الدور الأرضى من منزلها لاجتماعات الزعماء ولجان الطلبة.. ومن هناك أيضاً مثل جمعية المرأة الجديدة كانت الخطط السياسية توضع والمنشورات والأوامر السياسية تعد وتوزع بواسطة من سبق ذكرهن من السيدات، فهدى شعراوى وإستر فهمى ويصا وبقية الزميلات كن أعضاء فى لجنة الوفد المركزية للسيدات مثلما هن أعضاء فى جمعية المرأة الجديدة، ومن الموقعن أديرت دفة القتال...
وفى عام 1921 اعتقل سعد للمرة الثانية، وأرسل أولاً إلى جزيرة سيلان ثم جاءت الأنباء بتدهور صحة الزعيم نتيجة لرداءة الجو فى تلك المنطقة من العالم.. فطلبت صفية زغلول من السلطات الإنجليزية أن تسمح لها بالالتحاق بزوجها، غير أن المستعمرين لخبث طويتهم ظلوا يراوغونها، حتى ضاقت بهم ذرعاً فقررت البقاء لتقود الحركة الوطنية من بيتها وتؤلب عليهم الجماهير..
ونشرت فى ذلك الوقت نداء ألهب مشاعر الناس ظهر بالصحف فى اليوم الأول من يناير عام 1921 ورأى الإنجليز أن الطاقة الوطنية قد تضاعفت نتيجة لهذا النداء، وقدروا خطورة بقائها فى مصر، فصدر الإذن بعد ذلك بأربعة أيام فقط بسفرها إلى زوجها... لكنها عرفت من هذا الحادث أهمية بقائها، فرفضت السفر بعد أن كانت تسعى إليه، وآثرت أن تظل فى مصر لكى تدير الدفة من قلب أرض الوطن..
ولم ترض بالالتحاق بسعد إلا بعد أن نقل إلى سيشيل، وجاءت الأنباء بمزيد من تدهور حالته الصحية، واحتياجه الشديد لرعاية مخلصة أمينة..
عندئذ فقط سافرت صفية زغلول إلى منفى زوجها الحبيب، وتوفرت على خدمته بكل ما تملك من وقت وطاقات وكانت حريصة دائماً على أن تعد له بنفسها الطعام المناسب لحالته الصحية، وأن تحميه من كافة المتاعب والمضايقات.. وبقيت هناك إلى أن رفع عنه الحصار، وعاد بجوارها إلى مصر عودة المنتصرين..
وما هذه فى الواقع سوى نبذة قصيرة من آيات جهاد أم المصريين التى لم يرض شعبنا بأم غيرها، لا قبلها ولا بعدها، فمنها كان يستمد الوحى خاصة بعد وفاة زوجها، حيث عاشت السنين فى بيت سعد تلهم المصرين وتقويهم وتمنحهم البركة فى صراعهم المرير من أجل الحرية...
أغسطس 1973