إن لبعض الأمكنة والأبنية تاريخاً كتاريخ الأشخاص، وإن منها ما له علاقة بشخصيات تاريخية يستمد منها ذكراه.. وقصر المنتزه الذي يقوم الآن بعاصمة القطر الثانية هو أحد هذه الأبنية، وهو يتصل بالخديو السابق عباس حلمى الثانى مكتشف موقعه ومنشئه.
***
.. وحينما دعيت للاشتراك فى هذا العدد، الذى اعتزمت دار الهال إصداره لمناسبة مضى أربعن عاما على تأسيسها، بحثت فى ذاكرتى عن النواحى التى أجيب بها داعى مجلة الهال، التى أعتقد بحق أنها أدت للجمهور المصرى خدمات جليلة فى سنيها الأربعين. .. وجال فى نفسي كثير من الخواطر، ومعظمها يتجه وجهة تاريخية، أى إلى الناحية التى كرست لها أهم جهودى، وخير أوقاتى، ولا سيما فى هذا العهد الأخير من حياتى.
واخترت من تلك الذكريات، ذكرى “اكتشاف موقع المنتزه وإنشائه” إذ أن عمر هذه الذكرى كعمر مجلة الهلال- أربعون عاما- وعهدها يرجع بنا إلى سنة 1892 وهى سنة تأسيس هذه المجلة!
***
استدعى الشاب عباس حلمى من مدرسة الترزيانوم بالنمسا فى أوائل يناير سنة 1892 عقب وفاة والده المغفور له توفيق باشا، ليتقلد منصب خديوية مصر، وكان عمره إذ ذاك حوالى الثمانية عشر عاما.
وغير الخديو الشاب وبدل فى نظام الديوان الخديو وفى رجال المعية، مما لا سبيل إلى تفصيله هنا، ولكن المهم أنه اختار جماعة وثق بهم وأنس إليهم، فقربهم إليه، وكنت ضمن هؤلاء المقربين من رجال معيته، وقد اختار لى رياسة قلم الترجمة نقا من نظارة الخارجية. وجاء الصيف فى هذا العام الأول فانتقل الخديو السابق إلى الإسكندرية بقصر رأس التن وصحبه إليها من اختارهم من رجال معيته، وكنت ضمنهم بطبيعة الحال.
وكان الخديو السابق يخرج إلى النزهة فى كثير من الأيام مع بعض رجال الحاشية، فكنت أشهد معه هذه النزهات، التى اختار أكثرها فى النزول إلى سراى والده الحديدى- ومن هناك نركب “الهجن” إلى جهات مختلفة فى ضواحى الثغر وسيدى بشر إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
ومما أذكره أنه فى إحدى الليالى المقمرة، أمر الخديو بإعداد ثمانن حمارا من الحمير للذهاب بها ليلا فى هذه الصحراء على شاطئ البحر، وأمر أن ترافقنا الموسيقى الخديوية رجالها خمسة وأربعون، وقد كان ذلك، ،وركبنا وركبوا وهم يعزفون بموسيقاهم حتى أتينا سيدى بشر وبعدنا عنها بقليل وقد سمع العربان هذه الموسيقى التى لا عهد لهم بها فجاءوا يهرعون رجالا ونساء وأطفالا ليستطلعوا ذلك الأمر الجديد فلما علموا بوجود أميرهم صاحوا بالتهليل على عادة العربان ورافقونا فى رجوعنا إلى مسافة طويلة ثم عدنا وقد مضى من الليل غير قليل.
ولقد أعجب الخديو السابق بالنقطة القريبة من سيدى بشر، والتواءاتها الجميلة فى داخل البحر وتسرب الماء بين ثنياتها الصلبة فى خرير ووسوسة فعزم على التوغل فيها، ومعرفة ما وراءها .
وفى مرة من المرات- أذكر أنها كانت فى ستبمبر من هذا العام- بعدنا فى تجوالنا إلى مسافة كبيرة عن سيدى بشر وكنا ثلاثة مع الخديو السابق، روليه بك السكرتير الخصوصى، وعلى بك شاهين معاون التشريفات، وكاتب هذه السطور وجد بنا السير حتى بلغنا محا أعجب بمنظره سموه، تكتنفه ربوتان عاليتان وبينهما جون صغير وفى طرفه الشمالى جزيرة صغيرة.
وهنا أمر الخديو السابق بالإناخة فنزلنا عن رواحلنا تجاه هذا المنظر الجميل.
ورأى سموه أن ننزل فى قارب صياد كان متروكا على الشاطئ، لنرتاد هذه الجزيرة وما حواليها ونعرف ما فيها وما يحف بها، وما كان يخطر ببالنا بأن أحدنا وهو على بك جبان يفرق من ركوب البحر، فقد تردد أولا فى الركوب، ولكن تحت إصرار الخديو السابق اضطر للخضوع وما كدنا نبتعد عن الشاطئ قليا حتى لعبت الأمواج بالفلك الصغير، وتقاذفته ذات اليمين وذات الشمال ودب الخوف إلى قلب صاحبنا فألجاه إلى قعر الفلك عله يجد فيه موئلا، وتشبث بأرجلنا تشبث الغريق، ولكن ذلك لم يعصمه من الاهتزاز الذى انخلع له قلبه، فأخذ يصيح مستغيثاً بالخديو الجالس على الشاطئ فى انتظارنا: “يا أفندينا اعمل معروف قل لهم يرجعونى” ولكن سموه ضحك ولم يرد الجواب، ظللنا نحن فى سيرنا بالقارب على الرغم من استغاثات صاحبنا المتكررة.
ولما رأى أن سموه لا يأمر بالرجوع، ونحن لا نلتفت إليه، ووجد أن وظيفته بالمعية، هى التى تركبه هذا المركب الصعب، وتضطره أن يكون تحت رحمة الأوامر حتى فيما يظنه تهلكة لنفسه صاح بملء فيه: “أنا مستعفى يا افندينا.. أنا مستعفى...” وأشفق سموه عليه حين وجد أنه فقد تماسكه ووصل إلى درجة مهلكة من الرعب، فأمرنا بالرجوع.
ومنذ هذا اليوم تقرر فى ذهن الخديو السابق أن تكون النقطة التى كشفها وأعجب بها مصطافا، وأن بها يبنى قصراً أنيقاً هو “قصر المنتزه”.
ويرجع بنا الحديث إلى الربوتن والجون والجزيرة وما بها، وهى التى تكون منها القصر وملحقاته: كان على إحدى الربوتن مدافع قديمة من عهد محمد على الكبير، وكانت تستخدم لحماية الشواطئ وقد بنى مكانها الساملك وأقيمت أمام هذا الساملك مزولة قد نقش عليها بيتان مناسبان للمقام من شعر المرحوم الشيخ على الليثى.
وكان يقوم على الربوة الأخرى قشاق خفر السواحل الذى ابتاعه سموه من الحكومة وبنى مكانه الحرملك وكان يقوم وراء الربوتن بيت منعزل صغير يملكه موسيو “سينادينو” المشهور بالإسكندرية يدعو إليه فى ليالي القمر بالصيف بعض الأصدقاء والصديقات حيث يطيب منظر الماء والخاء، فيقضى الأصدقاء ليلتن أو ثلاث بن أحضان الطبيعة فى أنس وسرور وقد اشترى الخديو السابق منه هذا المكان، كما اشترى أراضى واسعة من الحكومة، ومن الأهالى لتكون ملحقات للقصر الجديد.
ومما يذكر أن سموه وضع بنفسه تخطيط القصر وتصميماته، واختار مواقع الساملك والحرملك والتلغراف والتليفون والمرافق الأخرى ونظم الجون ليكون منه ميناء للسراى وهو الذى كانت ترسو أمامه المحروسة وكذلك انتقى أنواع الأشجار التى تؤلف الحديقة، وخطط الطرق والممرات بها.
ثم بنيت بعض البيوت لسكنى المستخدمين والعمال الذين يعملون بالقصر، وشيد مسجداً وتكية للعجزة الأتراك.
وهكذا كان تاريخ قصر المنتزه أما سبب تسميته بهذا الاسم، فإننا كنا ذات يوم بحضرة سمو الخديو السابق وكان بيننا المرحوم محمود باشا شكرى رئيس الديوان التركى، فطلب منا سموه أن ننتخب اسماً للقصر الجديد، فأخذ كل منا يقترح اسماً، وكان اقتراح المرحوم محمود شكرى باشا أن يسمى هذا القصر باسم )قصر المنتزه( فارتاح سموه إلى هذا الاسم وأطلقه عليه من ذلك الحين.
نوفمبر 1931 .