الإثنين 25 نوفمبر 2024

وقائع التاريخ تؤكد أن مصر لا تقبل بدوية دينية أو ثيوقرطية ١٥١٧ الشيخ والوزير

  • 24-9-2017 | 21:16

طباعة

بقلم: حلمى النمنم

وزير الثقافة

بينما كانت دولة المماليك تترنح أمام جحافل سليم الأول، سنة ١٥١٧، والكل منشغل ومنهك فى مصيره وقادم الأيام، تصدر عن المصريين بعض مواقف دالة وقاطعة، على أن هذا المجتمع لا يمكن أن يقبل بدولة دينية- كهنوتية، أو «ثيوقراطية»، وأنه يرفض تماماً أن يلعب الفقهاء دوراً سياسياً مباشراً، وهذه المواقف يمكن أن نفسرها بالانحياز إلى ما نطلق عليه اليوم «الدولة المدنية»، حتى لو لم يكن المصطلح تم صكه وقتها، ولا كان دخل قاموس الحياة السياسية بعد على هذا النحو من الكثافة والعمق فى الكثير من مناحى الحياة.

يحدثنا ابن إياس فى وقائع شهر شوال ٩٢٣ هجرية، عما أطلق عليه «كاينة» الزينى بن موسى بركات مع الشيخ أبو السعود الجارحي، الكاينة فى التعبيرات المصرية، تعنى الأزمة أو الكارثة والمصيبة، وها نحن أمام أزمة أو مصيبة وقعت بين فردين، ولا غرابة فى ذلك، كل يوم تقع أزمات من هذا النوع بين مواطنين وأفراد، وطالما استمرت الحياة، فسوف تستمر الأزمات والمشاكل بين البشر وفى حياتهم، لكن خطورة تلك «الكاينة» من طرفيها، أحدهما من كبار رجال الدولة ومسئوليها الكبار، والآخر من الشخصيات العامة والمؤثرة، وإن لم يكن لديه منصب داخل جهاز الدولة ..

«الزيني» فى تلك اللحظة هو المسئول المالى ، يشبه وزير المالية حالياً، وكان له سنوات فى هذا الموقع، تقترب من العشر سنوات، ألفه الناس وألفهم، بمظالمه وقسوته، لكنه فى النهاية نجح فى موقعه، وأثبت كفاءة، مما جعل السلطان الغورى يسند إليه مواقع أخرى، مثل مسئولية «الذخيرة»، وهو موقع يقترب من دور وزارة الإنتاج الحربى الآن، والذى ضمن للزينى أن يحبه الناس، رغم عسفه، أنه كان إذا اتخذ إجراءات قاسية وهاج الناس وضجوا منها، كان يستجيب ويتراجع أو يخفف منها، وكان إذا اشتكاه الأهالى للسلطان، فيزجره، ويستجيب الزينى على الفور، وكان دائماً جاهزاً بحلول أوقات الأزمات المالية، وغيرها، تحدث أزمة فى القمح أو ما شابه، وفى اللحظة الصعبة يكتشف الأهالى أن لديه مخزناً سرياً، لا يعرف به أحد، يفتح وتتراجع الأزمة، وهكذا، ولمن أراد أن يعرف هذه الشخصية أكثر أن يراجع رواية جمال الغيطانى البديعة عنه بعنوان «الزينى بركات».

الطرف الآخر فى «الكاينة» هو سيدى أبو السعود الجارحي، وهو أحد أقطاب التصوف والمتصوفة فى عصره، له مهابة بين العوام، وله مريدون كثر، ويمتلك نفوذاً ضخماً بهم ومن خلالهم كذلك، ويذهب إليه الأمراء، ويستمعون إليه، وينصاعون لما يقول، وكان السلطان طومان باى واحداً من هؤلاء المريدين، الذين يجلونه، ويقدرونه، أيما تقدير وإجلال، وحدث بعد موقعة مرج دابق، ومقتل السلطان الغوري، أن اجتمع أمراء المماليك على طومان باي، ليكون سلطاناً بدلاً من الغوري، فاستعصى وتأبى، وكان الغورى عينه «نائب الغيبة» حين سافر إلى الشام، وهو منصب يعنى أنه قائم بأعمال ومهام السلطان فى غيابه، وإنهاء لهذا الإشكال، ذهبوا جميعاً إلى الشيخ الجارحي، ليس واضحاً من رواية ابن إياس من الذى اقترح الذهاب إليه، هل هو طومان باى أم أحد غيره من الأمراء، لكن أن يذهب جميع الأمراء المؤثرين والفاعلين فى الدولة إليه، ليحتكموا إليه فى هذا الأمر الجلل، يعكس مدى التقدير الذى حظى به، هو، لديهم جميعاً، والمصداقية التى يتمتع بها عندهم، والثقة، هل أقول «الكاريزما» أيضاً ؟!

كان ذهاب طومان باى إلى شيخه، يعنى أنه ليس ممتعناً بالمطلق عن السلطنة، ولكنه يريد طرفاً ثالثاً أو شاهداً وضامناً لاتفاقه مع المماليك، وربما لإدراكه أن المسألة أكبر من أن تحسم بينه وبقية المماليك، هناك طرف ثالث هو الشعب المصري، ومن يمثله آنذاك غير نموذج مثل الشيخ الجارحي، بما له من جماهيرية وقبول لدى الأمراء عامة والأعيان.

استمع الجارحى من الأمراء ومن طومان باي، الذى أبدى مخاوفة من المسئولية، الخزينة خاوية تماماً، وليس لديه ما يجهز به الجيش، والأمراء لا يطاوعونه فى الخروج إلى غزة، لمقابلة سليم هناك، دون انتظاره فى مصر، والثالثة أنه يخشى غدر المماليك، يبايعونه اليوم، وغداً يغدرون به كعادتهم، ويضعونه فى سجن الإسكندرية، حيث لا خروج منه، وكان أن جاء الجارحى بمصحف كبير وجعلهم يحلفون أن لا يغدروا بطومان وأن لا يخونوه وأن ... وأن .. وهكذا جرت مبايعة أو عملية سلطنة طومان باي، دعك الآن من أنهم لم يلتزموا بما حلفوا عليه وأن معظمهم خانوا أو غدروا ليس بطومان باى وحده، لكن بالدولة ذاتها، هذا المشهد ضمن نفوذا متزايداً للشيخ الجارحي، فى لحظة كان بقية الفقهاء مجروحين ومهزومين، من جراء معارك عديدة أيام الغوري، ثم خروجهم معه إلى مرج دابق، وأخذهم فى الأسر من قبل سليم الأول؛ ويبدو أن تعاظم هذا النفوذ كان بداية الأزمة أو «الكاينة» التى نحن بصددها.

والذى حدث أن مواطناً يدعى «الدمراوي»، يعمل فى دباغة الجلود وبيعها، جار عليه الزينى بركات، بتعبير ابن إياس، وإن لم يحدد نوعية هذا الجور، هل يتعلق بمتأخرات أو مطلوبات ماليه عليه، هل فرض الزينى عليه أموالاً وضرائب فوق ما يطيق.. أم أن هناك شيئا آخر؟! لا نجد تحت أيدينا أى تفاصيل، المهم أن الزينى استعد لإلقاء القبض على الدمراوى ومعاقبته، ويبدو أن الخبر وصل إلى الأخير، فما كان منه إلا أن جرى إلى الشيخ الجارحى محتمياً به، وحماه بالفعل، ثم بعث برسالة إلى الزينى يتشفع فيها فى الدمراوي، ويعلنه أنه دخل فى حمايته .. كبر الأمر على الزينى وشعر أن الدمراوى تحداه وأسقط هيبته، وأعلن عدم التزامه بشفاعة الجارحي، وأنه مصمم على معاقبته، وكلم الشيخ الجارحى فى ذلك؛ والواضح من ذلك أنه متأكد من إدانة الدمراوى وأنه ارتكب ما يستوجب العقاب، والمؤكد أن الدمراوى يعرف ذلك وإلا ما تصرف على هذا النحو.

كانت ظروف ذلك العصر، تسمح بأن يتوسط أحد الفقهاء والمشايخ لدى مسئول أو أمير لشأن يتعلق بأحد الأفراد، وعادة كان يحدث استجابة، أما أن يتدخل شيخ لوقف عقوبة على هذا النحو وبتلك الطريقة، فلم يكن مألوفاً، ولعل هذا ما استفز الزيني.

موقف الزينى ورده لم يعجب الجارحي، وأغضبه، وهنا قام باستدعائه، لاحظ، أنه يملك حق الاستدعاء، وذهب إليه الزيني، فقام بتوبيخه، صائحاً فيه بكلمات تبدأ كالتالى : «يا كلب كم تظلم المسلمين»، ولنا أن نتخيل بقية الحديث، ولم يكن يليق أن يقال له هكذا كلمات على مرأى ومسمع من مريدى الشيخ وغيرهم من المتواجدين لديه، أبدى الزينى غضبه مما سمع، وانصرف تاركاً الجارحي، الذى لم يعجبه أن يتمرد عليه الوزير، فما كان إلا أن أمر رجاله بالإمساك به وأن يكشفوا رأسه وأن يضرب بالنعال، كان الضرب بالنعال عقابا سائدا، وكان المقصود به الإهانة الشديدة، فرأس الإنسان، أى هامته أو أعلى مكان فيه، يضرب بالنعال، أى القبقاب الذى يلبس فى القدم، باختصار المقصود أن ينحط مستوى الرأس إلى هذه الدرجة، وسوف تظل هذه العقوبة قائمة لفترة طويلة، حتى الأفراد حين يتشاجرون مع بعضهم البعض، إذا أراد طرف أن يهين الآخر ضربه بالنعل، سوف نجد لدى الجبرتى أن علماء الأزهر الكبار، حين ذهبوا أيام ثورة القاهرة الثانية إلى المجاورين، وطلاب الأزهر يطالبونهم أن يكفوا عن معارضة الجنرال كليبر، يخبرنا الجبرتى أن رأى العلماء كان مرفوضاً منهم «وضربوهم بالنعالات»، وحتى وقت قريب قامت كثير من الثارات فى ريف مصر، لأن أحداً هدد الآخر أن يضربه بالنعل، ناهيك عن أن يفعل ذلك.

حتى يومنا هذا، هناك تعبير سائد فى الشجار ويقال أحياناً على سبيل المزاح اسمه «والله .. بالجزمة»، هذا التعبير الذى نسمعه كثيراً، هو استمرار لفظى أو شفاهى مخفف لتلك العقوبة، ومن يتابع بعض الأعمال الدرامية يجد أسلوب الضرب بالنعال مازال قائماً فى بعض مشاهد الكوميديا.

المهم أن مريدى الجارحى نفذوا ما أمر به شيخهم الجليل، كشفوا رأس الزينى وانهالوا عليه ضرباً، ولم يكن ضرباً لمجرد الضرب والإهانة، لكن الحمية أخذتهم، يقول ابن إياس «.. فصفعوه بالنعال على رأسه .. حتى كاد يهلك»

قد يبدو الأمر للكثيرين منتهياً عند هذا الحد، الشيخ أنفذ رغبته ومنع الوزير من معاقبة الدمراوي، ثم عاقب الوزير نفسه بالضرب المهين، غير أن الأمر اتسع مع الجارحي، فإذا نحن أمام طاغية بحق، وشخص متجبر إلى أبعد الحدود، فلم يكن الأمر يقتضى أن يعاقب الزينى على هذا النحو، غير الرغبة فى استعراض القوة والنفوذ، بدعوى حماية مواطن لجأ إليه، وأن الضعفاء والفقراء يحتمون به.

استدعى الجارحى الأمير «علان الداودار الكبير»، وهو منصب رفيع فى الدولة، ويأمره الجارحى بثلاثة أشياء، أولاً : أن يضع الزينى فى الحديد، أى أن يسجن ويضرب، ثانياً : أن يطلع إلى السلطان بالقلعة ويشاوره فى أمر الزيني، ثالثاً : أن يخبر السلطان أن الزينى يؤذى المسلمين، وكان معنى ذلك أنه مصمم على قتل الزينى وأن يكون ذلك بأمر سلطاني.

لاحظ مرة أخرى، أنه يملك استدعاء «الدوادار الكبير»، ويملك كذلك أن يوجه إليه أمراً.

وجاءه الرد من السلطان، كما يهوى أو يتوقع الجارحي، قال له «مهما اقتضاه رأيك فيه افعله»

وهكذا مارس ساديته، فقد رسم بأن يشهروا الزينى فى القاهرة، ثم يقومون بشنقه على باب زويله، وكان أن أركبوه حماراً والحديد فى رقبته، وراحوا ينادون : هذا جزاء من يؤذى المسلمين، كانت عملية تجريس كاملة، طافوا به من حيث مقر الجارحى وصولاً إلى شاطئ النيل أو البحر كما يسميه ابن إياس، عند مصر العتيقة، أى بجوار منطقة الفسطاط.

ويبدو أن الأمير علان، لم يكن سعيداً بما حدث، ولا راضياً عن تجبر ذلك الشيخ، وتدخله فيما لا يعنيه، وفضلاً عن ذلك فهو يدرك أن السلطان من المأخوذين بذلك الرجل، لذا أراحه، وضع عنق الزينى فى الحديد وأشهره، أما مسألة الشنق فوجد فيها صعوبة عملية، ذهب إلى الشيخ ينبئه أن الزينى مدين بأموال كثيرة جدا لمولانا السلطان، ولو تم شنقه لراح المال كله على السلطان الذى يحتاج إلى كثير منه لتجهيز الجيش والاستعداد للحرب.

لم يكن ممكناً للشيخ أن يوافق على الشنق، ويبدو كمن يضيع على السلطان أمواله، لذا وافق على إلغاء الشنق، والاكتفاء بما وقع للزيني، وكان أهمه أن الزيني، بناء على ذلك التجريس، فقد كل مناصبه ومواقعه.

سارت قضية الزينى فى مسارات أخرى، كالعادة ظهر الشامتون والحاقدون والراغبون فى الانتقام وغيرهم، وكان من بينهم خصمه شهاب الدين ابن الصايغ، الذى وشى بأن لديه معلومة بامتلاك الزينى داخل بيته مائة ألف دينار، يمكن أن يدل عليها ويكشف عنها، فذهبوا به إلى بيت الزينى وجرى تفتيش زوجتيه وانتزاع كل ما لديهما ولم يكن غير بعض أقمشة وأمور نسائية، فذهبوا إلى الزينى يسألونه فرد هو الآخر بأن شهاب الدين لديه مائتى ألف دينار، وهكذا لعبة الانتقام البيروقراطى الوضيع، التى انتهت بإدانة ابن الصايغ وعقابه بالضرب، حتى مات من شدة الضرب.

لكن بقى ما فعله الشيخ الجارحى مسار حديث الناس وتعليقاتهم بالمدينة، وكان التعليق قوياً وصادماً، بقدر ما هو صادق أيضاً.

يقول ابن إياس «قامت عليه الدايرة والأشلة، وأنكروا عليه الناس والفقراء، وقالوا : أيش للمشايخ شغل فى أمور السلطنة»، كلمات ابن إياس دالة فى أن الناس والفقراء أنكروا عليه ما فعل، وأن الدايرة أى الدنيا أو الجميع قاموا عليه، ذلك أن تصرفه غير مسبوق، لا نعرف أحداً من المشايخ فعل ما فعله الجارحي، والسبب ليس جبروت أو قسوة الجارحي، ولكن أيضاً ضعف وتساهل طومان باي، إذ قبل حدوث ذلك وسمح به، بل شجع عليه، حين أرسل إليه يفتح المجال أمامه يفعل بالزينى ما يحلو له، ومنحه الحق فى أن يقضى وحده بما شاء، وأن ينفذ ما قضى به.

لم يكن المجتمع المصرى يتقبل أن يتدخل المشايخ ، متصوفة أو فقهاء، فى أعمال السلطنة ومجالات السلطة، لهم اختصاصهم ودورهم، الذى يجب أن يحترم، وليس من دورهم إدارة شئون الدولة، وقد اعتاد الناس فى القاهرة وغيرها من المدن المصرية، على الخلاف بين السلطان والفقهاء، بين حين وآخر، هو خلاف يعود إلى أن السلاطين كانوا حريصين على أن لا يقترب هؤلاء من مجال ممارسة السلطة، بل اعتاد الناس أن يزجر السلطان، بين حين وآخر بعض المشايخ، فى واقعة الزنا التى ارتكبها القاضى الفقيه نور الدين المشالي، وقعت قبل حكاية الزينى بركات بثلاث سنوات، جمع السلطان قنصوه الغورى قضاة المذاهب الأربعة وكبار الفقهاء، ولما دخلوا عليه قال لهم : « .. والله افتخرتم يا قضاة الشرع نوابكم شيء يشرب الخمر وشيء يزنى وشيء يبيع الأوقاف» واعتبر ابن إياس هذا من السلطان توبيخاً لهم وكلاما فجا، ولم يجرؤ أحد منهم على الرد، إذ كانوا متورطين فيما ذكره، وبعدها مباشرة، عزلهم جميعاً، وعاقب بعضهم، كان الرأى العام فى مصر، اعتاد وقتها ظاهرة انتقاد الفقهاء وقضاة الشرع، من الأدباتية والشعراء، وبعض هذا النقد كان قاسياً وجارحاً، ليس الفقهاء وحدهم، بل المماليك أيضاً، من الذين انتقدوا الفقهاء والقضاة فى زمن الغورى الشاعر جمال الدين السلموني، الذى هجا قاضى قضاة الحنفية هجاءً مريراً فى قصيدة مطلعها هكذا ..

فشا الزور فى مصر وفى جنباتها .... ولم لا وعبدالبر قاضى قضاتها

وتفاعل الناس مع القصيدة، ولذا حين سجن الشاعر، ذهب الناس إلى السجن وتجمهروا حتى أخرج منه ..

والمعنى أن الرأى العام فى مصر لم يعتد ولم يكن على استعداد أن يتقبل تدخل أحد فى السلطة على النحو المبتذل والسلطوى الذى قام به الشيخ الجارحي. وسمح له طومان باى «الضعيف» بذلك، وأصبح لدى الناس مساحة من التسامح والاستعداد لتقبل النقد وأن يطول النقد المشايخ والفقهاء، بغض النظر عن وضعهم العام فى المجتمع واقترابهم من الدولة؛ كان المجتمع وصل إلى حالة من المدنية لا بأس بها فى ذلك الزمان.

ولم يكن وضع الدولة زمن الغورى أفضل كثيراً من وضعها مع طومان باي، وما لم يدركه الجارحى ولا طومان، أن أحداً فى المجتمع لن يتقبل منهم ذلك.

والحق أنه منذ دخول العرب والمسلمين مصر، لم تقم بها دولة دينية، بالمعنى الثيوقراطي، ترك ابن العاص المصريين لشأنهم يديرون حياتهم، وتم الالتزام بمبادئ الصلح التى أبرمت يوم دخولها، ولم نعرف أن المشايخ يتدخلون فى شئون السلطة، على هذا النحو، حتى فى زمن الدولة الفاطمية، وكانت دولة دعوية، لم يسمح المصريون لأدعياء هذه الدولة بالتدخل فى حياتهم وشئونهم، بل يمكن القول أن المصريين أجبروا دعاة هذه الدولة على التراجع عن بعض مفاهيمهم وبعض ما تصوروا أن بإمكانهم تحقيقه بين المصريين، أجبر المصريون الخليفة الفاطمى على أن يقطع رأس أحد مسئوليه لأنه تفوه أمامهم فى حق السيدة عائشة بكلمات لم يقبلوها، فأخذوه إلى الخليفة، على ما يروى ابن الأثير وغيره، وصاحوا : هذا سب السيدة عائشة أم المؤمنين .. فما جزاؤه ؟ كان بإمكانهم أن يفتكوا بذلك المسئول، لكن ذهبوا إلى المسئول الأعلى، ليكون تصرف الدولة وقرارها .. وموقف الدولة ، حتى لا يقدم أحد على تكرار تلك الفعلة.

ولا يصح التذرع، فى هذه الجزئية، بأن الدولة كانت فى لحظة حرب، فى زمن صلاح الدين كنا فى معركة شرسة، اقترب فيها الأعداء من الموانى المصرية فى الشمال، ومع ذلك أدت - هذه التجربة - إلى مزيد من التسامح داخل المجتمع المصري، وأسقط صلاح الدين الأيوبى الجزية عن الأقباط، حين وجدهم يتطوعون فى القتال دفاعاً عن البلاد فى مواجهة الفرنجة، ولذا فحين يقول ابن إياس « قامت عليه الدايرة والأشلة ..» يجب أن نصدقه ونثق بما يقوله، وهو محق، إذ يقول عن الجارحى «اشتغلت الناس به ولم يشكره أحد على ما فعله مع ابن موسى»

المصريون مسلمون نعم، لكن الإسلام شيء، والإسلام السياسى شيء آخر تماماً، الإسلام دين وعقيدة من عند الله سبحانه وتعالى، جاء بها نبى الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم- أما الإسلام السياسى فهو إيديولوجيا والرغبة فى السلطة وإقامة الدولة الدينية، التى هى اختراع المستلطنين والراغبين فى أن يقبضوا على ضمائرالناس وعقائدهم، وهذا ما حاوله الشيخ الجارحى وأثار عليه «الدايرة والأشلة..»

بالتأكيد كان هناك للزينى بركات خصوم وكارهون، وبالتأكيد هو لم يكن المسئول العادل ولا المنصف، ولدى الكثيرين مظالم مالية وإدارية تجاهه، وقد يكون «الدمراوى» واحدًا من هؤلاء، ولكن الناس حين يشكون فإنهم يلجأون إلى السلطان، أو من يمثله، وحتى حينما كان يلجأ المواطن إلى أحد المشايخ والفقهاء، فإنما كان ليتوسط لهم هؤلاء لدى الدولة وممثلها، وليس لأن يحلوا محلها، وينتزعوا اختصاصها؛ إيمان المصرى بالدولة واحترامه لها قديم، قدم الحضارة المصرية ذاتها.

وإن أراد الناس إزاحة الزينى يزيحه السلطان، وقد سبق أن أزيح من قبل أكثر من مرة، أما أن يتدخل أحد المشايخ، ويقوم بضربه وعزله وتجريسه ويأمر بشنقه، كل هذا وهو ليس بذى صفة فى الدولة، على أى نحو من الأنحاء، فهذا غير مقبول، ولما امتعض منه الزينى فى البداية فقد كان محقًا، ومدركًا لمعنى الدولة ومفهومها، أى أن من يوبخه يجب أن يكون السلطان أو نائبه، أو من يمثله، وليس شيخًا يعجب به السلطان، ويجمع حوله، بعض البهاليل والدروايش.

والواضح أن ما قام به الجارحى، كان على هوى «طومان باى»، وذلك أنه بعد انتهاء الأزمة، صعد الزينى إلى القلعة ليعيد السلطان الخلع عليه وتوليته موقعه الذى عزله عنه الجارحى ولم يتم تعيين بديل له، لم يلتفت إليه طومان، وتركه ينزل كما صعد، وحزن أنصار الزينى الذين كانوا جهزوا موكبًا له وأفراحا تبدأ فور نزوله مجبورًا من القلعة.

رد فعل الناس وصل إلى الشيخ الجارحى، لكن لم يفهمه على وجهه الصحيح، تصور أن الناس غاضبون من أجل الزينى وليس مما فعله ومن طريقة تدخله فى شئون السلطنة، لذا استدعى الزينى .. «وقد رضى عليه وفكه من الحديد، وأظهر أنه قد رضى عليه.»، كان ذلك يوم التاسع عشر من شهر شوال، بدأت الأزمة يوم التاسع من شوال، أى أنها استغرقت عشرة أيام، وإذا كان هو رضى عليه وصالحه، نرى ماذا لو كان ما أمر به أنفذ وهو شنقه الزينى.. ما هو الموقف الشرعى فى هذه الحالة وما هى المسئولية التى كان يمكن أن يتحملها ومن كان يحاسبه ساعتها..؟!

انتهت الأزمة بالنسبة للزينى, وانتهت بينه والجارحى، لكن أزمة الجارحى مع الناس لم تنته، بل تزايدت، كان سبب الأزمة تدخله فى شئون السلطنة، وهو استمر بتدخل

حتى بعد انتهاء أزمة الزيني، يقول ابن إياس، أنه راح «يتصرف فى أمور المملكة من عزل وولاية ..»، أى أننا لم نكن بإزاء حادث فردى أو واقعة استثنائية تتعلق بشخص محدد، هو الزيني، لكننا كنا بإزاء شيخ أراد أن يتسلط، وسمح له السلطان بذلك، لكن الناس لم يسمحوا أو لم يصمتوا فقد ظل انتقادهم له «.. أنكر عليه الناس ذلك «

جرت هذه الوقائع كلها، واتخذ عامة المصريين، هذا الموقف سنة ١٥١٧ ميلادية؟، أى قبل الثورة الفرنسية بحوالى ثلاثة قرون إلا ربع، تحديداً ٢٧٢ سنة، قبل ظهور الحداثة واستقرارها حتى فى أوربا، فضلاً عن أن تصبح نهجاً إنسانياً، وأيضاً قبل استقرار مفاهيم الدولة المدنية وقوانينها ودستورها؛ لا نقول ذلك من باب التفاخر والتباهي، وإن كان ذلك ليس عيباً، بل هو حق لنا فى هذا السياق، نحن نذكره لنتذكره ونعيه، يعيه أبناء هذا الوطن وهذه الأمة، وهو أننا أمة بحكم الخبرة التاريخية والعمق الإنسانى الطويل، لا تختار ولا تحب خلط الأدوار داخل المجتمع والدولة، ولا تقبل بتدخل ثيوقراطى فى شئون السلطنة، وخلط الدينى بالسياسي، على النحو الذى ينادى به دعاة الإسلام السياسى فى العقود الأخيرة.

كانت دولة المصريين مدنية / وطنية ويجب أن تظل كذلك وأن نعمل على بنائها بعمق فى الوعى العام للمواطنين، ومن حسن الحظ أن ذلك توجه المجتمع والدولة المصرية منذ ثورة ٣٠ يونيو، التى قامت لهذا الغرض .

    أخبار الساعة