الإثنين 25 نوفمبر 2024

مقالات

بطل الصاعقة الباسل عبد الوهاب الزهيرى


  • 8-6-2023 | 22:19

دار الهلال

طباعة
  • أحمد البكري

ظل الزهيرى لأكثر من شهر كامل لا يتصل بأهله كى يطمئنهم أنه مازال على قيد الحياة، وأصر على أن يكون اتصاله بأهله بشارة بالانتصار صدم بصدور قرار بنقله من البحرية إلى الكلية الحربية فأصيب بحزن شديد وقرر أن يستقيل ويترك الكليات العسكرية كلها ليعود إلى الحياة المدنية.

بعد التأكد من الهزيمة رفض الملازم عبد الوهاب الزهيرى العودة إلى أنشاص، مصرا على أخذ ثأر الشهداء والانتقام للهزيمة والعودة إلى عمق سيناء في جلبانة كانت المهمة هى الوصول بأقصى سرعة إلى رمانة لتعطيل تقدم العدو لأطول فترة ممكنة لحين رجوع أكبر عدد من الجنود المصريين من سيناء قال له قائد مكتب مخابرات الإسماعيلية: أمل مصر فيك! فأكد له الزهيرى بأن العدو لن يصل إلى بورفؤاد، ولن يكون ذلك إلا أن يصبح هو ومجموعته جثثا كانت الخسائر النفسية بعد نكسة 5 يونيو 1967هى الأكثر قسوة بالنسبة للشعب والجيش، وهى النكسة التى منيت خلالها القوات المسلحة بخسائر كبيرة في الأفراد والمعدات، وظن العدو الإسرائيلى وكثير من دول العالم بعدها أن الجيش المصرى قد انتهى، وأنه سيحتاج إلى سنين طويلة حتى يستطيع العودة إلى ساحة المعركة، وظهرت الشائعات التى تقول إن المقاتل المصرى لم يعد فى استطاعته خوض المعارك.

تلك العوامل وغيرها كان بإمكانها أن تكسر معنويات أفراد الجيش المصرى، ولكن ما حدث كان العكس من ذلك تماما، فقد استطاع الجيش المصرى أن يثبت أنه لا ينكسر أبدا.

وبدأت مصر على الفور في إعادة بناء جيش قوى لتبدأ حرب الاستنزاف مع العدو الصهيونى. وكان الهدف الأساسى لحرب الاستنزاف هو استعادة الثقة للمقاتل المصرى وتمهيد الطريق للنصر واستعادة الأرض من المحتل.

 فبدأ الجيش المصرى يعيد بناء نفسه، وبدأت أنظمة الدفاع تتموضع في أماكنها على الضفة الغربية من قناة السويس، ثم قامت مصر بعمليات عسكرية كان لها عظيم الأثر، وكانت أهم العمليات التى أوجعت العدو هى معركة رأس العش، والتى بدأت في 1 يوليو 1967بعد أقل من شهر واحد من العدوان، فبعد أن سيطرت القوات الصهيونية على سيناء حاولت الدخول إلى بور فؤاد، فتصدت القوات المصرية للهجوم وتفوقت على القوات الإسرائيلية، لتندلع شرارة حرب الاستنزاف.

 ومن أكبر العمليات العسكرية فى حرب الاستنزاف تدمير المدمرة إيلات التى شاركت في العدوان الثلاثى على مصر فكان تدميرها ضربة قاسية على رأس العسكرية الصهيونية، عمليات وعمليات قام بها أشاوس الجيش المصرى على مدار ما يقرب من 3 سنوات، (1967-1970)، استنزفت فيها القوات المصرية قوات الاحتلال وأذاقتهم الرعب والمرارة، فجن جنونهم وبدأوا في عمليات قذرة بقصف المدنيين العزل في جرائم حرب أضيفت إلى تاريخهم الأسود، ولكن هيهات.. فمصر أبناؤها أبطال بالفطرة، وكان دائما رد الجندى المصرى مذهلا ومفاجئا بمزيد من العمليات التى مهدت الأرض للنصر العظيم في 6 أكتوبر 1973.

قام بتلك العمليات مجموعة كبيرة من الأبطال، منهم من استشهد على أرض المعركة، ومنهم من أمد الله في عمره، وجميعهم يستحقون منا كل التكريم والتقدير، ومن هؤلاء الأبطال العميد عبد الوهاب الزهيرى، الذى كان من أهم أبطال معركة رأس العش برتبة ملازم حديث التخرج، فاجتمعت بنجله الصديق محمد عبد الوهاب الزهيرى وطال بنا الحديث فى سيرة البطل العميد الزهيرى.

سيرته.. ولد عبد الوهاب أنور حمزة الزهيرى في 17 يناير 1945 فى قرية الزعاترة التابعة محافظة الدقهلية ( تتبع حاليا مركز الزرقا – دمياط)، وتم تسجيل ميلاده رسميا في 14 فبراير 1945.

ولد لعائلة ميسورة الحال، وكان ترتيبه الثانى بين إخوته، عاش فى قريته حتى توفى والده وهو فى المرحلة الإعدادية، ثم انتقل إلى حى المنيل بالقاهرة في المرحلة الثانوية، وحصل فى الثانوية العامة على مجموع يؤهله لدخول كلية الهندسة ولكن حلم حياته كان الانخراط فى سلك العسكرية المصرية وتحديدا أن يكون ضابطا فى البحرية المصرية، وقدم بالفعل في تنسيق الكليات العسكرية فتم قبولة فى البحرية والجوية والحربية، ولكنه كان قد جعل الكلية البحرية هى كل رغباته، رغم اجتيازه جميع الاختبارات التى تؤهله لباقى الكليات العسكرية.

وحقق حلم حياته وانخرط في دراسته في الكلية البحرية فى 1965، وبعد فترة التدريب (45 يوما) صدم بصدور قرار بنقله من البحرية إلى الكلية الحربية فأصيب بحزن شديد وقرر أن يستقيل ويترك الكليات العسكرية كلها ليعود إلى الحياة المدنية ويلتحق بكلية الهندسة، كان هذا قراره ولكن تم رفض استقالته، وحاول معلموه في البحرية إقناعه بالأمر حتى قبل بالأمر الواقع وانتقل إلى الكلية الحربية ليكون فى الدفعة 49 حربية.

ورغم عدم انسجامه مع وجوده هناك، إلا أن مدرسا في الكلية الحربية هو النقيب (وقتها) حسين طنطاوى صادقه وتقارب معه وهدأ من روعه، فاحتوى انزعاجه من الانتقال، وانتظم في دراسته وتدريباته حتى تعرف إلى مدرسة الصاعقة وأعجب بشده بها وبتدريباتها، فتقدم إليها وتفوق في فرقة الصاعقة، وكانوا وقتها يقومون باختبارات للمتفوقين لتأهيلهم لدخول فرقة أخرى هى فرقة معلمى الصاعقة الراقية، وتم اختياره، فكان من الأوائل تلك الفرقة، وتخرج فى الكلية برتبة ملازم فى 1967 قبل 5 يونيو بأيام قليلة.

استقر الملازم عبد الوهاب الزهيرى فى مدرسة الصاعقة بأنشاص بعد تخرجه، وكان دوى ما يحدث في سيناء وقتها يصل إليهم مبهما، فكانوا لا يعرفون تحديدا ما الذى يحدث هناك على أرض المعركة، وفجأة صدرت لهم التعليمات بالتحرك إلى مطار الطور، فتحركت بهم المركبات حتى وصلوا الطور في 5 يونيو، وكانت الحرب قد بدأت بالفعل، فتصلهم تعليمات جديدة بالتوجه إلى القنطرة ثم إلى العريش، وعندما وصلوا إلى القنطرة، جاءت الأوامر بالتوجه إلى الإسماعيلية بدلا من العريش، كان ذلك يحدث وكل ما يعرفونه من البيانات أن مصر تتفوق على العدو وأن الانتصار قادم لا محالة، وكانت الهزيمة أبعد ما تكون عن مخيلتهم.

عندما وصلوا إلى الإسماعيلية وسط تساؤلاتهم وجدوا بعض الجنود والضباط العائدين من سيناء وبدأت الأمور تتكشف، وبدأوا يعرفون حقيقة ما يحدث.. وعندما تأكدت الهزيمة صدرت لهم التعليمات بالعودة إلى مدرسة الصاعقة، فنفذت مجموعة التعليمات، ورفضت المجموعة الأكبر العودة، وأصروا على البقاء وكان الملازم عبد الوهاب الزهيرى ضمن الرافضين للعودة، مصرا على أخذ ثأر الشهداء والانتقام للهزيمة والعودة إلى عمق سيناء، بل إنه ظل لمدة أكثر من شهر كامل لا يتصل بأهله كى يطمئنهم أنه مازال على قيد الحياة، وأصر على أن يكون اتصاله بأهله بشارة بالانتصار.

في تلك الأثناء كانت هناك بلاغات استطلاعية عن وجود قوات معادية تتقدم نحو رمانة، فأصدرت القيادة تعليمات بتشكيل مجموعات للتصدى لتلك القوات وتعطيلها أطول وقت ممكن ليتمكن باقى الجنود من العودة من سيناء.. مهمة انتحارية بلا شك، كان من القيادات وقتها العميد عبد المنعم واصل، الذى أصدر قرارا بتشكيل مجموعة من المدرعات مكونة من 10 دبابات بقيادة ابنه طارق عبد المنعم واصل، وتنضم تلك المجموعة المدرعة إلى المجموعات التى ستتصدى لقوات العدو، وكانت المهمة محددة: الوصول بأقصى سرعة إلى منطقة رمانة لتعطيل تقدم العدو لأطول فترة ممكنة لحين رجوع أكبر عدد من الجنود المصريين من سيناء.

معركة جلبانة بدأ تحركهم، ودخلوا سيناء يوم 7 يونيو ليلا، متوجهين نحو المحور الشمالى كى يصلوا منطقة رمانة بأقصى سرعة، ولكن قبل أن يصلوا إلى رمانة وعند منطقة جلبانة وفى الظلام الدامس فوجئوا بالعدو أمامهم، وكان لواء مدرعا وقد أضاء كل أنواره فكان كالمدينة المتحركة أمامهم، وكان أبطالنا يتحركون وكل أنوارهم مطفأة، فأصدر قائد الكتيبة الرائد سمير يوسف تعليماته وحدد المهام، فتوقفوا، وبدأوا بالنزول من المركبات واحتلال مواقعهم، وبعد ذلك أضاءوا أنوار المركبات التى بدأت تتحرك في كل اتجاه لإيهام العدو بأنهم قوة كبيرة جدا، رغم أنهم كانوا كتبة صاعقة واحدة (الكتيبة 103 صاعقة)، ومعهم أربع عربات (صواريخ شميل).

تم التحرك وتخيل العدو بالفعل أنهم قوة كبيرة فبدأ بالتوقف فعلا.. واستطاعوا تعطيل القوات المتقدمة. دارت في منطقة جلبانة معركة شرسة لا ينساها القادة الصهاينة، ورغم أنه كان من الأسلحة التى معهم ( أر بى جى 2) ، وكان لا يتناسب مع المدرعات الصهيونية.

اشتركت في معركة جلبانة البحرية المصرية والطيران المصرى من قبل الفجر وكبدوا العدو خسائر كبيرة، ومع خيوط ضوء فجر 8 يونيو وصلت المجموعة المدرعة المكونة من 10 دبابات بقيادة طارق واصل، واستمروا في المقاومة إلى ما بعد العصر.

كانت الخسائر الصهيونية كبيرة جدا، ونجحوا في مهمتهم التى كلفوا بها رغم عددهم القليل ورغم الإصابات التى حدثت لهم.

لم تتوقف الاستعدادات أبدا منذ 5 يونيو ولم يتوقف الاستطلاع ولا العمليات العسكرية، فخرج الملازم عبد الوهاب الزهيرى بعد أقل من أسبوع بعد 5 يونيو في أول دورياته خلف خطوط العدو على المحور الشمالى فى سيناء ودخل رمانة وقام بالاستطلاع لمدة ثلاثة أيام متتالية، وبعده وبناء على استطلاعاته دخلت 5 دوريات أخرى فى أقل من أسبوع، وإن دل هذا على شىء فإنما يدل على الجاهزية والاستعداد والتصميم.. فقد كان جرح النكسة غائرا داميا، رغم أن عبد الوهاب الزهيرى عاش طيلة حياته وهو مقتنع تمام الاقتناع بأن ما حدث في 5 يونيو كان نوعا من أنواع الغدر، ولم يكن هزيمة على الإطلاق بل كان انسحابا، لأن الهزيمة تستدعى أن يكون هناك معركة حدث فيها مواجهة، والمواجهة تحدد انتصار طرف على الآخر، وهذا ما لم يحدث فى 5 يونيو.

رأس العش استولت إسرائيل في 5 يونيو على سيناء ما عدا مدينة بورفؤاد التى لم يصلوا إليها، وكانوا قد اطمأنوا إلى أن الجيش المصرى انكسر ولن تكون هناك مقاومة تذكر إذا تقدموا بقواتهم نحو بورفؤاد وبورسعيد.. وبالفعل بدأت قواتهم تقوم بعمليات استطلاع لتحديد مواقع القوات المصرية في الطريق إلى بورفؤاد، فى تلك الأثناء لم تكن هناك قوات مصرية، فاطمأنوا وظنوا أن الطريق ممهد وأن الاستيلاء على المدينة سيكون بمثابة نزهة لقواتهم حتى أنهم سمحوا للكاميرات الأمريكية بمرافقتهم لتصوير استيلائهم على بورفؤاد! في يومى 29 – 30 يونيو تحركت فرق الاستطلاع الصهيونية بعربات الجيب لاستكشاف الطريق إلى بورفؤاد وبورسعيد، ووصلوا إلى منطقة الكرنتينا في بورفؤاد فلم يجدوا عوائق عسكرية تمنعهم من التحرك.

تنبهت قيادة القوات المصرية لما يفعله العدو من محاولات للتقدم نحو على بورفؤاد والاستيلاء عليها، فتم تكليف سلاح المهندسين العسكريين مساء يوم 30 يونيو بزرع الألغام حول منطقة الكاب والتينة ورأس العش.

وبدأت تحركات العدو بناء على استطلاعاته السابقة فى صباح يوم 1 يوليو بقوات كبيرة مدرعة بالدبابات والمركبات النصف مجنزرة وعربات الجيب التى تحمل القاذف 106، كانوا يتحركون بهدوء واطمئنان، وقد ضمنوا الاستيلاء على بورفؤاد بلا مقاومة، هكذا صور لهم الخيال. لكنهم عندما وصلوا إلى منطقة الكاب فوجئوا بالقرائن الدالة على وجود ألغام، فاستعانوا بالمهندسين العسكريين لإزالتها، وكان نفس الحال فى الألغام حول منطقة التينة.

استغرقت عملية إزالة الألغام طوال اليوم حتى وصلوا إلى منطقة رأس العش عند علامة الكيلو 14 المحاطة أيضا بالألغام. في تلك الأثناء كان الملازم عبد الوهاب الزهيرى في كتيبته 103 صاعقة متمركزا في بورسعيد مع كتائب الصاعقة الموجودة لتأمين بوسعيد، وكانت المهمة الموكلة للكتيبة 103 صاعقة هى تأمين المنطقة الغربية لبورسعيد ومطار الجميل.. استعدادا وتحسبا لأن يقوم العدو بعمليات إبرار جوى (نقل القوات المحمولة جوا)، أو إسقاط مظلات، أو إنزال بحرى.

وكان من المفترض أن تتحرك الكتيبة 103 صاعقة فى ظهر يوم 1 يوليو إلى مطار الجميل غرب بورسعيد لتجهيز الأماكن المواقع. ولكن الملازم الزهيرى فوجئ باستدعاء من قائد سريته النقيب نزيه العجان الذى أخبره بأن هناك تعليمات بمهمة انتحارية في رأس العش لقطع الطريق أمام الصهاينة ومنعهم من التقدم نحو بور فؤاد، وطلب منه اختيار مجموعته. وكان هناك ثلاث مجموعات أخرى، مجموعة بقيادة الملازم خليل جمعة، ومجموعة بقيادة الملازم فتحى عبد الله، والمجموعة الرابعة كانت بقيادة الملازم أول جابر الجزار.

لم يتردد الملازم الزهيرى وانتقى رجاله بسرعة البرق وتسلح كل منهم بـ 8 ألغام و(أر بى جي 7) الذى كان سلاحا جديدا عليهم، والسلاح الآلى، وتحركوا بعربات الجيب.

خرج معهم قائد الكتيبة 103 الرائد سمير حسين يوسف الذى كان يمثل بالنسبة للملازم عبد الوهاب الزهيرى القدوة والمثل الأعلى للقائد الرزين الواعى، وتحركوا نحو منطقة رأس العش، حيث توقفوا هناك قليلا، وفي هذا الموقع كان هناك فصيلة من الكتيبة 43 بقيادة الملازم أول جابر الجزار، وتحركوا مرة أخرى حتى وصلوا إلى منطقة التينة فتم إنزال الملازم خليل جمعة مع مجموعته وكانت مهمته هناك هى منع ارتداد العدو، ثم تحركوا مرة أخرى إلى منطقة الكاب، حيث كانت مهمة الملازم عبد الوهاب الزهيرى هناك هى منع أى تقدم للقوات المعادية فى اتجاه رأس العش.

كان الملازم الزهيرى ومجموعته في منطقة الكاب، والملازم خليل جمعة ومجموعته فى منطقة التينة، وكلتا المنطقتين تقعان فى غرب القناة جنوب بور فؤاد وبورسعيد، وكانت مجموعة جابر الجزار ومجموعة فتحى عبد الله قد عبرت القناة وتمركزت عند الكيلو 14 شرق القناة، فطلب الزهيرى من قائد الكتيبة أن يسمح له بالعبور، فأمره القائد بالالتزام بمهمته الموكلة إليه، وأخبره بأن الأوامر بالعبور للجهة الشرقية ستأتى في حينها. تم إنزال المجموعات كل فى موقعه، وتركهم قائد الكتيبة بعد أن أوكل لكل مجموعة دورها ومهمتها.

يقول عبد الوهاب الزهيرى في أحد لقاءاته مع القناة الثانية فى التليفزيون المصرى إنهم فى تمام الساعة الثامنة إلا ثلث بدأوا يسمعون أصوات انفجارات واشتباكات مع الفصيلة الموجودة عند الكيلو 14 في رأس العش والتى كانت بقيادة الملازم أول جابر الجزار، وكانوا لا يزالون متمركزين فى موقعهم فى منطقة الكاب غرب القناة، واستمرت أصداء الاشتباكات حتى الساعة الثانية والنصف إلا 5 دقائق صباحا قبل فجر 2 يوليو، حيث سمع الملازم الزهيرى بلاغ من قائد الفصيلة 43 المتمركزة عند الكيلو 14 عبر جهاز الاتصال، وكان البلاغ يقول إن نصف قوة الفصيلة قد استشهد والنصف الآخر مصابون وجرحى، وأنه جار الإخلاء.

عندما سمع الملازم عبد الوهاب الزهيرى نص البلاغ لم يتمالك نفسه وقام بالعبور مع مجموعته إلى شرق القناة. وكان العدو قد تقدم من الكيلو 14 إلى الكيلو 10. عبر الزهيرى إلى شرق القناة متوجها إلى رأس العش رغم أنها مهمة تتطلب ذخيرة كبيرة ولكنه الإصرار والثقة في الله.

لم تمر 10 دقائق من عبوره حتى بدأ أول اشتباك مع مركبتين نصف جنزير تم تدمير واحدة وانسحبت الأخرى نحو القنطرة. استمر في التقدم حتى الساعة السادسة والنصف صباحا حيث جاء بلاغ من القنطرة عن طريق الاستطلاع بتوجه مركبة دعم معادية نحو رأس العش، فبدأ الزهيرى فى زرع الألغام في الطريق، دخلت المركبة فى الألغام لينفجر بها أحدها، وحاول قائدها القفز منها فتمت تصفيته، وكانت غنيمة كبيرة حيث كانت المركبة محملة بالذخائر، فاستخرجوا منها 27 صندوقا من ذخيرة الدبابات والهاون، وكان هذا يعنى أن القوات المعادية فى الأمام قد قلت ذخائرهم وأن هذه المركبة كانت إمدادا بالذخيرة.

فى حوالى الساعة 11 صباحا اتصل قائد مكتب مخابرات الإسماعيلية بالملازم الزهيرى وأخبره بأن هناك قولا لقوات العدو يتكون من 11 قطعة، خرج من القنطرة فى اتجاه بورفؤاد، وحذره من أن يمر هذا القول من خلاله.. وأنه إن لم يدمره أو على الأقل يجبره على الانسحاب فإن سقوط بورفؤاد وبورسعيد واقع لامحالة.

توقفت طويلا مع الصديق الأستاذ محمد الزهيرى حول تلك المكالمة لما كان لها من تأثير كبير على نفسية ومعنويات ملازم حديث التخرج وجد نفسه فور تخرجه وسط أتون الحرب، لا يمتلك الكثير من الخبرة التى تؤهله لتحمل مسئولية كالتى ألقيت على عاتقه فى تلك المكالمة.

كان كلام قائد مكتب مخابرات الإسماعيلية واضحا شديد الوضوح، إن لم يتم تدمير القول أو إجباره على الانسحاب سقطت بورفؤاد وبورسعيد.. فطمأنه الملازم الزهيرى قائلا: لن تستطيع أى قوة المرور خلال منطقتى إطلاقا.

فرد عليه قائد مكتب مخابرات الإسماعيلية بلهجة حاسمة: (يا عبد الوهاب أمل مصر فيك. لو القول ده فات منك يبقى بورفؤاد وبورسعيد اتاخدوا).. فأكد له الزهيرى بأن هذه القوات إذا مرت من خلاله فلن يكون ذلك إلا أن يصبح هو ومجموعته جثثا.. وما داموا أحياء فلن يمر أحد إن شاء الله، ولم يستطع كبح دموعه فبكى من شدة التأثر بتلك المكالمة التى أوكلت إليه مهمة لابد من إنجازها على أكمل وجه.

بدأ الاشتباك مع القول وتم تدمير دبابة كانت في المقدمة، واستطاعوا إيهام العدو بأنهم قوة كبيرة فبدأت المركبات التى فى الخلف تنسحب عائدة إلى القنطرة مرة أخرى، واستمر الاشتباك حتى استطاع الزهيرى ومجموعته إجبار القوات على الانسحاب والعودة من حيث أتوا.. وكان قد تم تدمير دبابة وثلاث مركبات نصف مجنزرة، وانسحب الباقى، ولم تسقط بورفؤاد ولا بورسعيد وأنجزت المهمة.

حكى لى الصديق محمد الزهيرى أحد المواقف المؤثرة حقا فى هذه المواجهة، حيث أصيب أحد جنود الملازم الزهيرى وهو الجندى فكرى طاحون بشظية فى رأسه وكان الدم ينزف بغزارة على وجهه فطلب منه الملازم الزهيرى العبور إلى غرب القناة ليتم إسعافه هناك، ففوجئ بالجندى فكرى طاحون يرفض تماما وهو يعتذر منه لأنه وللمرة الأولى لن يقول له تمام يا فندم، وهو يؤكد له أنه لن يعود بدونه فقد جاءا معا، فإما أن يستشهدا معا أو أن يعودا معا.

هذه هى عقيدة جنود مصر البواسل، الذين دافعوا عن الأرض والعرض ببسالة وإقدام وشجاعة، وسطروا بأحرف من نور الملحمة تلو الملحمة، والمعركة تلو المعركة. *** تمت ترقية الملازم عبد الوهاب ترقية استثنائية بتكريم من جمال عبد الناصر إلى رتبة ملازم أول.

انضم الزهيرى إلى منظمة سيناء، وإلى المجموعة 39 قتال، واشترك في العديد من المعارك منها المعركة المهمة التمساح. مع الاستعدادات التى سبقت حرب أكتوبر 1973 تم تعيينه معلما في مدرسة الصاعقة، وعندما قامت الحرب كان قائد كتيبة صاعقة مهمتها كانت اقتحام الثغرة كخطة عسكرية مسبقة، تحسبا لفشل المفاوضات حول الثغرة. وفى آخر السبعينيات تم تعيينه مدرسا فى الكلية الحربية، ثم انتقل إلى المشاه الميكانيكية وتنقل إلى العديد من المناصب في القوات المسلحة المصرية حتى وصل إلى سن المعاش في عام 1989 برتبة عميد. بعد سنوات طويلة كان فيها مقاتلا من سلاح الصاعقة و أحد رجال الصفوة فى القوات المسلحة المصرية.

تم تكريمه من الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس حسنى مبارك ومن المشير طنطاوى. وأدرج في قائمه الشرف الوطنى المصرى - باب القوات المسلحة، اعتبارا من 23 يونيو 2018 بعد منح اسمه قلاده تاميكوم من الطبقه الماسية. انتقل العميد عبد الوهاب أنور حمزة الزهيرى إلى رحمة الله فى نفس تاريخ انتصاره فى 2 يوليو 2012 عن عمر 67 عاما!.. وللأرقام صدف مبهجة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة