الجمعة 17 مايو 2024

للشعب جيش يحميه


رفعت رشاد

مقالات10-6-2023 | 15:02

رفعت رشاد

عقد كامل من السنوات مضى على موضوعنا المطروح اليوم. عشر سنوات مرت على حدث غير وجه الحياة فى مصر. أتذكر ويتذكر معي الملايين من المواطنين كيف مر علينا عامان ونصف قبل يونيو 2013. كيف كانت الحياة بعد 25 يناير 2011. كيف كنا فى رعب من كافة الاتجاهات. كيف تغير وجه الحياة فى مصر وارتدت البلاد النقاب والجلابية وأطلقت لحيتها واقتربنا من مشهد طالبان في أفغانستان. كيف عبئ البرلمان بأعضاء كان همهم الأول أن يرفعوا الآذان فى البرلمان. شاهدنا كيف أزيحت الموائد من القصر الجمهورى وصار تناول الطعام على الأرض. عشنا احتكار فصيل معين من الشعب الصفوف الأولى فى كل موقع ومجال. صارت الجنسية الإخوانية جواز العبور لعالم السياسة والاقتصاد والصحافة والإعلام. شاهدنا كيف تغير من كانوا بالأمس أصدقاء إلى أشخاص يتعاملون معنا بتعال وصلف. مررت بتجارب عديدة في هذا الشأن, كان أحدهم يتودد لكى تتاح له فرصة ممارسة العمل السياسى وبعد أن صار نائبا كان يتكلم معنا بتعال. آخر كان خلوقا ومهذبا وبعد 25 يناير أتهم فى تعذيب مواطنين فى ميدان التحرير. 

لن أتحدث عما مررنا به من أزمات فى الطاقة أو السلع فربما يكون لها أسباب لا أعلمها, إنما أتحدث عن شعور باختفاء الحرية. انتشرت ظاهرة من يوقف الناس في الشارع ومن ينتظرهم عند مداخل مساكنهم ويسألهم لماذا لا نراكم في صلاة الفجر ؟! لماذ تترك زوجتك وبناتك متبرجات؟ مالك أنت يا سيدى ومالى وصلاة الفجر ؟! هل أنتم دعاة لدين جديد ونحن فى زمن الجاهلية ؟! 

إذا لم تكن 30 يونيو ثورة فهى هدير الشعب الرافض لهذا النوع  من الحكم. لم تكن هناك 30 يونيو أو غيرها إذا لم يساندها الجيش بعدما تمكن الإخوان من مفاصل الدولة. كانت إرادة التمرد عامة وشاملة, انتظر الناس انتشار الفكرة والمبدأ والتفاهمات مع قيادة الجيش. امتلأت الشوارع بشكل سلمى, خرجت أسر بأكملها إلى الشوارع التي لم تكن لتمتلئ بالجماهير لو لم تتيقن من حماية الجيش والشرطة لها . كانت الأسباب عديدة لما حدث في 30 يونيو, أزمات فى كل مجال, فى الطاقة, فى المرور, فى الأعمال, لكن أهمها وعلى رأسها شعور الناس بالتهميش, شعورهم بأن لا مكان لهم فيما هو قادم, ولا مكان لأولادهم على أرض الوطن.

هذا الشعور كان الأخطر , الكثيرون كانوا فى طريقهم للهجرة, آخرون كانوا على وشك طلب اللجوء السياسى. كان الشعور بالتحزب لفصيل معين من الناس قد سيطر على البلاد, فالكليات العسكرية ستكون لأبنائهم والقضاء سيكون لهم وبدأ بالفعل تغيير القوانين وتغيير النائب العام وغير ذلك الكثير , كان الناس على يقين من أن القادم ليس لهم فيه مكان, كان احتكارا سائدا من فصيل لبقية الشعب, وتردد الكثير عن مقولة " جئنا لنحكم لمدة خمسمائة عام .. ليس أقل " . 

لم تكن 30 يونيو لتحدث لو لم ينهض الملايين في كل مكان فى مصر ويهبوا هبة رجل واحد. خرجوا بعد أن استعرت حدة الاحتكار التي شعر بها الشعب في ظرف أقل من عام, فكر الناس إذا كان هذا قد حدث في عام, فماذا يمكن أن يحدث في أعوام وعقود وربما كما سمعوا فى قرون؟! ماذا سيحدث؟ لم يكن شعور الطبقات الدنيا بالقهر أو إحساس الطبقات الغنية بالأزمات قادر على تهيئة ثورة إلا لو كان هناك من يقود الثورة, وكان القائد هنا الجيش ومعه الشرطة ومعه مؤسسات الدولة التى استشعرت الخطر, المسألة لم تكن مسألة أن الرئيس محمد مرسى منتخب, فمع احترامى لشخصه إلا أنه لم يكن الحاكم الفعلى, كما أن فى دول أخرى تم انتخاب أشخاص بطريقة ديمقراطية وتحولوا إلى حكم استبدادى, أي أن طريقة الانتخاب ليست ضمانة للخير وليست ضمانة للديمقراطية وليست ضمانة لحياة رغدة للشعب وليست ضمانة للحقوق التى ينشدها غالبية أفراد الشعب. 

كان الناس قد آملوا بعد أحداث 25 يناير فى حدوث تغيير جوهرى فى حياتهم. تمنوا لو أن الأبناء يجدون فرص عمل وأن السلع تتوفر وأن يحصلوا على مسكن مناسب وأن يكون لهم دخل يتيح لهم حياة آمنة. تمنى الناس ذلك ولكن تسارع مجريات الأحداث واستمرار الوضع المتوتر بعد 25 يناير 2011 جعل الشعب لا يهنأ بما اعتقد أنه سيناله. واستمرت الأوضاع بعد أن تولى الإخوان الحكم فى البلاد ولكن زاد عليها انسداد طاقة الأمل بعدما شهد الناس نوعا من الاحتكار في كل المجالات وصار رجال الأعمال يبحثون عن مفر لهم واختفى الكثيرون بعيدا عن الأعين حتى لا يستدعوا للعقاب بسبب انتماءاتهم السياسية أو الدينية. كان هناك تناقض بالغ بين الشعار الذي رفعه الإخوان " نحمل لكم الخير " وبين الواقع .  

لم تقتصر المشاركة في 30 يونيو على فئات معينة أو على مجموعات كانت سبق لها المشاركة في 25 يناير إنما شارك فيها وأعد لها مسبقا فئات مختلفة من الشعب. كان للمثقفين من الفنانين والأدباء دور كبير فى مواجهة وزير الثقافة الإخوانى واعتصموا في الوزارة وحركوا مشاعر وإرادات العامين بالوزارة والرأى لافتين انتباههم لما يحدث من أخونة المجال الثقافى وتوجيه العمل الثقافى إلى وجهة تجتزئ من مشهده فقط ما يريده الإخوان. كان الأمر هجمة على ثقافة استمرت آلاف السنين بل وسمعنا من يقول إن تماثيل الفراعنة ومعابدهم حرام باعتبارهم جزءا من زمن الوثنية _ كانت حركة طالبان قد دمرت تمثالين من أكبر تماثيل بوذا فى أفغانستان بهذه التأويلات_.  وفى مجال الإعلام تجاهل الصحفيون والقائمون على الصحف من رؤساء التحرير ورؤساء مجالس الإدارة تعليمات الإخوان ولم ينشروا كل ما أرادوه ونشروا ما كان المجتمع يقوم به من مظاهرات واحتجاجات وتفاصيل عن المشاكل التى انتشرت فى كل مواقع الخدمات والمصالح الحكومية. لم يلتزم الإعلاميون بما كان الإخوان يرغبون. وتجرأ المذيعون ومقدمو البرامج على الرئيس محمد مرسى وعلى قيادات الوزارة والبرلمان والوزراء والمحافظين وهاجموهم بقوة. وخرج الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل وهو صاحب الكلمة المسموعة يقول إن عربة مصر أى الدولة المصرية تسير بسرعة كبيرة في منحدر وبدون فرامل تكبح سرعتها المتزايدة وهو ما يمثل خطرا داهما على البلاد وكانت كلماته بمثابة إشارات إلى أن الوضع فعلا خطير وليس كما قد يرى البعض أنها مجرد أزمة تمر. كان الناس يعرفون مدى صلات هيكل وعلاقاته ومصادره وبالتالى يدركون ما هو قادم. 

كانت 30 يونيو حراكا اجتماعيا عَكَس مفهوم الثورة التى قادها الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة الأخرى فى الوقت الذى شلت فيه حركة الإخوان وبدا كأنهم لا يعرفون كيفية التصرف فى تلك الحالة وهذا يشبه ما حدث فى 25 يناير حيث أصيب النظام بشلل ولم يعرف كيف يتعامل مع حدث جديد وإن كان تسارع الأحداث وقتها أربك مؤسسات الدولة التى انحازت لما حدث فى ميدان التحرير وكنت شاهد عيان على عجز القيادات عن اتخاذ قرارات مناسبة. كانت 30 يونيو هبة شعبية نادت بتدخل الجيش فلبى النداء وتم تغيير نظام الحكم وهذا عكس مفهوم الثورة لدى المنظرين وبالذات النظرية الماركسية, فقد خرج الناس أولا وبعدها جاء دور الجيش بينما فى العادة كانت الثورات تشتعل بسبب استعار صراع الطبقات والمصالح وهذا حدث فى الثورة الفرنسية التى اختمرت أفكارها من خلال مفكرى فرنسا فى القرنين السابع عشر والثامن عشر وفاقمت تصرفات الملك والطبقة الأرستقراطية من سوء الأوضاع ما حدا بالناس أى الشعب نفسه أن قاد الثورة التى تزعمها اليعاقبة والجيروند وقد انقلبوا على بعض بعد ذلك وسالت الدماء أنهارا فى شوراع باريس وأعدم الثوار بعضهم البعض ولم ينجو منهم إلا قليلا. 

لم تنجح الثورة الفرنسية منذ الجولة الأولى لكنها تكررت فى حركات ثورية عدة مرات لكنها فى النهاية كانت المقصلة التى قطعت عهد الإقطاع بلا عودة والتى ألهمت دول العالم والثوار فى كل مكان للقيام بثوراتهم الخاصة. انتشر شعار الحرية. الإخاء. المساواة فى العالم وصار التأريخ يفصل بين ما قبل الثورة الفرنسية وما بعدها, لكن من أسوأ نتائجها أن الاقتتال بين فرقاء الثورة جاء بدكتاتور هو نابليون الذى تسببت أفعاله في عودة الملكية بعد أن تكالبت عليه أوروبا لتحقيق هذا الهدف.  

 وكانت الثورة الروسية كلاسيكية الطابع حسبما تنصر النظرية الماركسية بشأن الصراع الطبقى وتعارض المصالح بين الفقراء والأغنياء أو بين العمال والفلاحين وبين من يملكون وسائل الإنتاج ويملكون الأرض ولم تكن ثورة عفوية بل انطلقت بإعداد من قادتها الذين آمنوا بالفكر الماركسى وعلى رأسهم لينين ومعه مفكرو الثورة وأولهم تروتسكى فكانت معدة مسبقا بل تكررت محاولات الثورة فى سنوات سابقة لكن لم يكتب لها النجاح إلى أن اشتعلت الحرب العالمية الأولى وكان من صالح ألمانيا تحييد الجبهة الروسية الشرقية لتتفرغ لأعدائها فى الغرب فساعدت البلاشفة على القيام بثورتهم . لم تقم الثورة بين يوم وليلة إنما نضجت بسبب الأوضاع داخل المجتمع الروسى وضياع الحقوق واحتكار قلة للثروة والمناصب وهى كما حالة كل مجتمع قام بثورة . 

لقد تولى الإخوان الحكم بعدما أزاحوا من طريقهم قوى ثورية أخرى شاركت فى أحداث 25 يناير خاصة القوى التى اندفعت من أجل الديمقراطية, استقطب الإخوان السلفيين والصوفيين وكل القوى الدينية وقوى أخرى تحالفت معهم على أساس إقامة الدولة الإسلامية والحكم بما أنزل الإسلام لكنهم استبعدوا القوى المخلصة لقضية الحريات والديمقراطية وبالتالى سمحت الظروف لهم بالقضاء تمهيديا على مظاهر المدن والتحضر والتدخل فى تفاصيل حياة الناس على غرار ما حدث فى إيران بعد ثورة 1979 التى تزعمها الخمينى وقضت على نظام الشاه محمد رضا بهلوى. 

كان اليسار المصرى شريكا فى أحداث 25 يناير لكنه صار يسارا إعلاميا أى أن وجوده على الأرض لم يعد مؤثرا, لذلك انضوى بصفته المعارضة ضمن قوى يناير لكنه كان الطرف الأضعف ولم يكن لديه القدرة على مواجهة قوى الإسلاميين التى تملك الكثير من العناصر الفاعلة ولديها رؤية متكاملة. كان اليسار فاقدا البوصلة كما أن قواه متشرذمة وبالتالى لم يكن شريكا بالمعنى المفهوم. كان ميراث اليسار فى المناداة بالصراع ودكتاتورية الحزب والطبقة العاملة لا تتناسب مع أصحاب اللحى الذين كان لهم مفاهيمهم الخاصة بالديمقراطية والحرية ونظام الحكم. ومع ذلك كان اليسار هو القادر على الجمع بين المسألة الوطنية والعدالة الاجتماعية, لذلك عندما حل موعد 30 يونيو انحاز لها اليسار وفاز بمقاعد فى البرلمان وإن كان هذا لا ينفى أن اليسار من حيث المبدأ ضد الجماعات الدينية .  

كانت أحداث يونيو 2013 فارقة في تاريخ مصر مهما كان للبعض رأى مختلف, ففى كل الأحوال تختلف الآراء لكن النتيجة يؤكدها أو ينفيها التاريخ الذى تكتب وقائعه بعد وقت.