هوية مصر تقوم علي التعدد والتنوع بين عناصر كثيرة، انصهرت في البوتقة المصرية وذابت فى بعضها بحيث يستحيل فصل أى عنصر عن بقية العناصر
- أقترح تكوين لجنة رفيعة المستوى من المفكرين والمبدعين لوضع تصور كامل عن الهوية الوطنية، وأهم روافدها وكيفية ترسيخها والحفاظ عليها
- أقترح إنشاء كيان فى مجلس الوزراء باسم (المجموعة الثقافية)، لوضع رؤية ثقافية موحدة ولتنفيذ الأفكار والرؤى التى ستضعها لجنة المفكرين والمبدعين
- عندما نطالب بزيادة الدعم للثقافة، فإننا نخفف أعباء أجهزة الدولة الأخرى، وخاصة الأجهزة الأمنية، فالثقافة تشيع الاستنارة وتزيد الوعى
الحوار سنة كونية.. وقد اصطفى ربنا سبحانه وتعالى.. بعضاً من ملائكته ورسله للتحاور معهم.. وقد أثبت القرآن الكريم العديد من حالات الحوار بين الله سبحانه وتعالى وعباده من الملائكة والرسل.. "وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون" البقرة 30.. وفى نفس السورة موقف آخر لأبى الأنبياء إبراهيم مع رب العزة "وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم أجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم" البقرة 260.. وفى سورة الأعراف موقف آخر لنبى الله موسى "ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرنى أنظر إليك قال لن ترانى ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك ثبت إليك وأنا أول المؤمنين" الأعراف 143.
وفى كل هذه المواقف وغيرها الكثير من المواقف.. التى أثبتها القرآن الكريم.. حرص رب العزة سبحانه وتعالى – وهو صاحب القدرة المطلقة "كن فيكون – على إقناع عباده من الملائكة والرسل.. بالأدلة المنطقية قطعية الثبوت.. ليضع النار ربنا العظيم القواعد الأساسية والأهم.. التى تنظم عمل الحوار بين أى طرفين.. وهى أن يلجأ طرفا الحوار إلى العقل والمنطق لإثبات صحة ما يتم طرحه من آراء ورؤى.. والأهم أن هذه المواقف الإلهية أكدت على أن الطرف الأقوى للحوار.. يجب أن يستمع إلى وجهة النظر الأخرى.. مهما حملت من غلو وشطط.. طالما أن صاحبها يطرحها بحثاً عن الحق والحقيقة.. كما فعل نبى الله موسى "قال رب أرنى أنظر إليك".. وقد شهد التاريخ الإنسانى عشرات المئات من الحوارات المهمة.. التى تمت على يد الفلاسفة والأدباء.. سواء بين بعضهم البعض.. أو بينهم وبين الحكام والمسئولين.. ولأن مصر هى مهد الحضارة البشرية.. فقد احتفظ لنا تاريخ مصر القديم بالعديد من هذه الحوارات المهمة.. وفى تاريخنا المعاصر وتحديداً بعد ثورة يوليو 1952.. شهدت مصر العديد من الحوارات المهمة.. حيث كان الزعيم جمال عبدالناصر حريصاً على التحاور مع الأدباء والمثقفين والعلماء والطلاب فى مناسبات عديدة.. وقد برز من بين كل هذه الحوارات بتلك المناظرة الفكرية التى تمت بين عبد الناصر.. والمفكر الكبير خالد محمد خالد فى الجلسة الرابعة لمؤتمر اللجنة الوطنية للقوى الشعبية "29 نوفمبر 1961".. والتى استمرت ساعتين كاملتين.. وأثبتت ثقافة واستنارة وسعة صدر عبدالناصر.. كما أثبتت شجاعة وقوة حجة خالد محمد خالد.
كما أجرى الرئيس السادات العديد من الحوارات.. ولكنه كان يضيق بسرعة.. وقد ظهر ذلك أكثر من مرة أشهرها حواره مع الطلبة.. وكان بينهم حمدين صباحى وعبد المنعم أبو الفتوح.
كما أقام الرئيس حسنى مبارك أكثر من حوار موسع.. كان أشهرها ذلك الحوار الذى لم يدع إليه المفكر الكبير خالد محمد خالد وكتب عنه كتابه المهم "لو شهدت حوارهم لقلت".
وأخيراً جاء الحوار الوطنى الذى دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ أكثر من عام.. وبدأت جلسات محاوره فى قاعة المؤتمرات بمدينة نصر منذ عدة أسابيع.. وقد شرفت باختيارى متحدثاً فى محور "الثقافة والهوية الوطنية".. ذلك المحور الذى يرأسه عالم الاجتماع الكبير د. أحمد زايد.. ويأتى ضمن المحور المجتمعى الذى يرأسه المهندس خالد عبدالعزيز وزير الشباب السابق.. ذلك المحور الذى يمثل أضلاع مثلث الحوار الوطنى.. مع المحور السياسى.. والمحور الاقتصادى.. وقد عقدت جلسة الثقافة والحوار الوطنى جلستها الأولى عن مفهوم الهوية الوطنية.. وجاءت الجلسة فى جزئين على مدى ست ساعات.. الجزء الأول تم تخصيصه للعديد من الرموز الثقافية والمسئولين عن المؤسسات الثقافية.. وقد تم منح كل متحدث أربع دقائق فقط للتعبير عن وجهة نظره.. ورغم ضيق الوقت فقد استطعت خلال كلمتى تقديم رؤية فكرية عن مفهوم الهوية الوطنية.. ثم قدمت بعض المهددات التى تهدد الهوية الوطنية المصرية.. وفى نهاية الكلمة قدمت اقتراحين لكيفية الحفاظ على هذه الهوية ومواجهة كل المخاطر التى تهددها.. وقد لاقت الكلمة استحسان كل المشاركين وطلب د. أحمد زايد نسخة ورقية منها.. وفيما يلى نص هذه الكلمة:
(فى عام الرمادة الذى سطا فيه الإخوان علي حكم مصر ، وتحديدا ًفى بداية عام 2013 كنت رئيسا ً لتحرير مجلة الهلال، وأصدرت عددا ً كاملا ً من المجلة عن هوية مصر، وكان مقالي الافتتاحى بعنوان (سبيكة الهوية المصرية) أكدت من خلاله على أن هوية مصر تقوم علي التعدد والتنوع بين عناصر كثيرة، انصهرت فى البوتقة المصرية وذابت في بعضها البعض بحيث يستحيل فصل أى عنصر من عناصرها عن بقية العناصر .
ولكن هذه السبيكة للأسف الشديد تتعرض علي مدى الخمسين عاما ً الماضية لكثير من الطعن والتشويه بأكثر من طريقة.
- فعندما يكون لدينا أنواع متعددة من التعليم، وعندما نرفع شعار "أدفع لكى تتعلم" ، وعندما ينهش وحش الأمية أكثر من ربع الشعب فهذا تشويه للهوية.
- وعندما نترك الكثير من المدارس وخاصة الدولية منها والتى تقام في كل العالم لخدمة جاليات الدول، ولكن أثرياء مصر يدفعون أبنائهم إلى هذه المدارس التي تضرب الهوية من خلال ضرب اللغة العربية والتاريخ، فمدرسة من هذه المدارس كتبت ( أن عبد الناصر سرق قناة السويس عام 1956 ) وكتبت أخرى ( أن الكيان الصهيوني أنتصر في حرب أكتوبر ) وليس هذا فقط فكل هذه المدارس تقدم لطلابها المنظومة السلوكية التغريبية، فنجد مثلا ً طلابنا يحتفون بعيد الهلويين ولا يحتفلون بعيد الأضحى، مما يمثل ضربا ً فى صميم الهوية.
- عندما تصبح الثقافة سلفة ننتظر منها العائد رغم أنها حق من حقوق الإنسان أو علي الأقل خدمة، فهذا طعن لأبسط وسائل تأكيد الهوية.
- عندما نتنازل عن ريادتنا الثقافية والفنية فهذا تشويه للهوية، ولعل حضراتكم تذكرون أن مصر فى ستينيات القرن الماضى كانت أكثر دول العالم إصدارا ً للكتب، والآن صناعة النشر لدينا تعانى من الموت الإكلينيكى، ولعلكم تذكرون أن كل فنانى العرب من المحيط إلي الخليج ومن جنوب السودان إلي شمال سوريا كانوا يحصلون علي صك الاعتراف والشهرة من مصر، أما الآن فمطربونا يغنون بلهجات أخرى علي منصات غيرنا.
- عندما نترك المنابر والمنصات للسلفيين الذين يرفضون (وسطية مصر) التي استطاع المصريون إضفاءها على كل الأديان فهذا قتل للهوية.
- وعندما تحمل مشروعات الدولة أسماء أجنبية..وتصفعنا تلك اللغات الأجنبية فى كل مكان..مقابل التضييق والتشويه للغتنا العربية فهذا تضييع للهوية.
وفى الختام أقترح تكوين لجنة رفيعة المستوى من المفكرين والمبدعين لوضع تصور كامل عن الهوية الوطنية، وأهم روافدها وكيفية ترسيخها والحفاظ عليها، وأيضاً رصد أهم المخاطر التى تهددها وكيفية مواجهتها.
وبالتوازى أرجو تفعيل اقتراحى الذى قدمته لرئيس الدولة الأسبق فى معرض الكتاب قبل أكثر من خمسة عشر عاماً وهو إنشاء كيان فى مجلس الوزراء اسمه ( المجموعة الثقافية )، وتضم وزارات ( الثقافة – التعليم – التعليم العالي – الشباب والرياضة – الأوقاف – المجلس الأعلى للإعلام – الأزهر – الكنيسة ) لوضع رؤية ثقافية موحدة ولتنفيذ الأفكار والرؤى التى ستضعها لجنة المفكرين والمبدعين).
أتحدث معبراً عن رؤية تحالف أحزاب الحركة المدنية ، وتحديدا ً الحزب العربى الديمقراطي الناصري
في البداية أرجو أن يواصل مجلس أمناء الحوار المطالبة معنا بالإفراج عن المحبوسين على ذمة قضايا الرأى
أعتقد أن عنوان هذه الجلسة .. يضع أيدينا علي العصب الأكثر حساسية وخطورة فى منظومة الثقافة المصرية، ويمكن أن نتناوله من خلال مجموعة من النقاط المهمة: -
أولا:
يجب أن نركز علي مؤسسات الدولة، وذلك لأن المؤسسات الخاصة ومؤسسات المجتمع المدني، رغم الدور الملموس لبعضها، تعمل وفق الرؤى الشخصية للقائمين عليها، تلك الرؤة التى تتواءم مع القوانين المنظمة لعمل هذه المؤسسات، ولكنها قد لا تتواءم مع الأهداف العليا، التى تسعى إلى نشر الاستنارة والوعى عند جموع الشعب، وليس مجرد مجموعات نخبوية بعينها، كما أن بعض هذه المؤسسات تتلقي دعما ً من بعض الجهات الخارجية والداخلية، لتضع نفسها فى إطار ( من يدفع للزمار يختار اللحن) .
ثانيا ً
أما عن مؤسسات الدولة، فأعتقد أننا لن نعيد اكتشاف الشمس، فمن المفترض أننا ننطلق من تجربة مصرية عملاقة كانت حديث العالم كله، وهى تجربة ثورة يوليو، تلك الثورة التى حلقت فى فضاءات الإنجاز بجناحى العدالة الاجتماعية والثقافة، وتحولت الثقافة خلال الخمسينيات والستينيات إلي مشروع عملاق، برعاية الزعيم جمال عبد الناصر، وإدارة د .ثروت عكاشة، ومازالت عطاءات هذا المشروع مستمرة حتى الآن، فمن يستطيع أن يتجاهل ( أكاديمية الفنون – هيئة الكتاب – الثقافة الجماهيرية – هيئة المسرح – الفنون الشعبية – السيرك القومي – معرض الكتاب – مؤسسة السينما – مشروع الألف كتاب – جوائز الدولة ) ، وغيرها من الهيئات والمؤسسات، التى تعانى منذ سنوات طويلة حالة غريبة من الإهمال وعدم التطوير
ونحن بالطبع لا نطالب باستنساخ هذه التجربة الرائدة، ولكننا فقط نطالب باستلهامها والحفاظ على إنجازاتها .
ثالثا ً
أعتقد أننا جميعا ً نلمس العديد من الأمراض الاجتماعية التى تضرب المجتمع بقوة منذ سنوات طويلة (أرتغفاع معدلات الجريمة والعنف والبلطجة – المخدرات – التحرش – الفن الهابط – التطرف)، وغير ذلك من الأمراض التي تهدد بنية المجتمع، والثقافة هى حائط الصد الأول والأخير القادر على مقاومة هذه الأمراض، ذلك الحائط الذى كاد أن ينهار، بعد أن تراجعت إلى حد التلاشي ميزانية الأنشطة الثقافية، فطبقا ً لميزانية العام المالي 2021 / 2022 كان نصيب وزارة الثقافة 3 مليارات 541 مليون جنيه ذهب أكثر من 81 % منها إلي رواتب العاملين، وتبقي فقط 637 مليون جنيه للأنشطة بواقع ستة جنيهات لكل مواطن، فهل مثل هذه الميزانية الهزيلة يمكن أن تدعم المؤسسات أو تنفذ سياسات.
وعندما نطالب بزيادة الدعم للثقافة، فإننا نخفف أعباء أجهزة الدولة الأخرى، وخاصة الأجهزة الأمنية، فالثقافة تشيع الاستنارة وتزيد الوعى، والمثقف لا يمكن أن يكون متطرفا ً أو إرهابيا ً أو متحرشا ً أو مدمنا َ أو غير ذلك من الصفات الذميمة.
رابعا ً
علينا أن نتوقف طويلا ً أمام التوتر الدائم في العلاقة بين السياسي والمثقف، فالمثقف حتي لو اختلف أو عارض فإنه يسعي دائما ً إلي مصلحة الوطن، كما أنه يملك رؤية استشرافية وحرية في إعمال العقل والاجتهاد، بعيدا ً عن القيود التي تعيق السياسى، ولذلك فإن أى دعم للمؤسسات الثقافية، وأى أطروحات لسياسات ثقافية، لن تؤتى ثمارها إلا بضمان حرية الرأى والتعبيير للمثقف، ولعلنا جميعا ً نتذكر تلك المناظرة الفكرية التى دارت بيت الرئيس عبد الناصر والمفكر الكبير خالد محمد خالد فى حوار وطنى مثل الحوار الذى نقيمه الآن، وفى هذه المناظرة اتسم المثقف بالشجاعة وقوة الحجة، واتسم الحاكم بالاستنارة وسعة الصدر والحرص على سماع الرأي الآخر ، فما أحوجنا إلي تعميم هذا النموذج فى كل مناحى حياتنا، وخاصة فى مؤسساتنا الثقافية، ذلك النموذج الذى يجعلنا نستلهم تجربة (الديمقراطية الإبداعية) ، التى برزت خلال مرحلة الخمسينيات والستينيات، والتى جعلت المسرح أكبر ساحة للمعارضة، وجعلت الشعراء والروائيين ينتقدون بحثا ً عن الأفضل، والأهم جعلت الدولة تتبنى هذا النقد وتنشره فى كتب، وتقدمه في أفلام سينمائية كثيرة مثل ( ميرامار – شئ من الخوف – ثرثرة فوق النيل وغيرها) .
خامسا ً
يجب أن نخرج من هذا الحوار ونحن علي قناعة بأن دعم الثقافة وحرية المثقف قضية أمن قومى، تستوجب وجود مشروع ثقافى عملاق يحافظ علي الهوية، ويعيد قوتنا الناعمة مؤثرة وفاعلة فى محيطها العربى والإقليمى.