سيكون رد فعل السلطة التنفيذية وربما التشريعية على مخرجات الحوار الوطنى، هو الاختبار الحقيقي لمدى نجاح تجربة الحوار برمتها
المشاركون في الحوار ينتمون إلى كل المدارس الفكرية، والمستبعد الوحيد من الحوار هو كل من حمل سلاح أو مارس أو دعا إلى العنف
الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على أحد موائد إفطار رمضان قبل الماضي، وتحديدًا في 26 أبريل2022، لا تزال أعماله في بدايتها، وهي تسير بشكل مكثف، منذ أن دشن مجلس أمناء الحوار مناقشات الخبراء والحزبيين اعتبارًا من الأحد 14 مايو2023، عقب احتفال البدء الذي أقيم الأربعاء 3 مايو الماضي.
المؤكد أن التأخر في بدء مناقشات القوى السياسية والخبراء في الحوار الذي أعد له من أول اجتماع لمجلس أمناء الحوار في 5 يوليو2022، أدى إلى نوع من إحباط الناس، وتصورهم أن الدعوة للحوار كانت فرقعة إعلامية، لكن هذا الوقت الطويل استُغرق بغية الإعداد الجيد للعديد من الأمور الإجرائية، التي لولاها لفشل كل ما تبع جلسات الإعداد لمجلس الأمناء والبالغة 23 جلسة.
محددات الحوار الوطني
وقد وضع الحوار عدة محددات شكلت إطارًا حدوديًا له، وتلك المحددات هي أن الحوار القائم هو حوار سياسي، وإن تطرق لعديد من القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وهو حوار بين السلطة والمعارضة. وبذلك فإن ما يمكن أن يقال عنه أنه حوار بين خبراء أو متخصصين، لا أساس له من الصحة، وغرضه البعد عن الهدف المرجو منه، كما أن غرضه بقاء حال المجال العام على حاله من الانسداد.
يرتبط بالأمر السابق أمر آخر وهو أن المشاركين في الحوار ينتمون إلى كل المدارس الفكرية سواء يمين أو يسار أو وسط أو تيار إسلامي، وهنا تم التأكيد على أن المستبعد الوحيد من الحوار هو كل من حمل سلاح أو مارس أو دعا إلى العنف، وأشير على سبيل المثال إلى جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم.
المحدد الثالث، هو التأكيد على أنه لا مساس بدستور البلاد، وهو دستور 2012 المعدل عام 2014 وعام 2019، فهذا الدستور على علته وعلى ما به من سلبيات في رأي البعض يجب تنحية الخلاف بشأنه جانبًا حتى لا تتشتت الجهود والرؤى، وحتى لا ينتهي أي نقاش فيه إلى تعديله، والتي لا يتحكم فيها أنصار الحوار وحدهم، إذ أن البرلمان له الدور الرئيس والنهائي في هذا التعديل، ومن ثم قد لا تأتي التعديلات النهائية عليه (حال شموله بالنقاش في الحوار) على غير مزاج أطراف الحوار.
المحدد الثالث، الابتعاد عن كل ما يرتبط بالأمن القومي للبلاد، وهنا يبدو أن القائمين على الحوار قد قصدوا المنظور الضيق للأمن، وليس المفهوم الفضفاض الذي يقوض كل أركان الحوار. ومن ثم اعتبر المقصود هو النأي بمهام السياسة الخارجية المصرية عن النقاش.
المحدد الأخير، هو التقدير الكامل لكل مؤسسات الدولة خاصة البرلمان. إذ أنه من المعروف أن الحوار بين السلطة والمعارضة في أي نظام سياسي هو وظيفة معنوية يقوم بها البرلمان آليا، ومن ثم فإيكال تلك المهمة لتنظيم جديد ومؤقت هو الحوار الوطني قصد منه تأسيس كيان أكثر جرأة من البرلمان في التعاطي مع المعارضة، ودون أن يكون بديلا عنه، ببساطة لأن الحوار تحتاج بعض مخرجاته للتمرير -من خلال مجلس النواب- في صورة تشريعات.
قضايا الحوار
وترتبط قضايا الحوار بتقسيم العمل داخله، وهو أمر مرتبط بالتبعية بوجود ثلاثة محاور. سياسي واقتصادي ومجتمعى. وداخل تلك المحاور الثلاثة توجد 19 قضية مركزية. ففي المحور السياسي يناقش النظام الانتخابي ومباشرة الحقوق السياسية، والحريات العامة وحقوق الإنسان، والأحزاب، والمجتمع المدني. وبالمحور الاقتصادي، يناقش الدين العام، والاستثمارات، والبطالة، والصناعة، والزراعة، والسياحة. وفي المحور المجتمعي يناقش قضايا الصحة والتعليم والسكان والهوية.
المؤكد أن تلك القضايا عديدة والأمور الفرعية عنها كثيرة، وتصل إلى نحو 113 قضية جانبية. فمثلا النظام الانتخابي ومباشرة الحقوق السياسية، يناقش شكل النظام الانتخابي لمجلس النواب، وكذلك مجلس الشيوخ، وعدد أعضاء مجلس النواب، والتفرغ لعضوية المجلسين.. وهكذا. لكن على الرغم من كل ذلك فإن هناك قضايا غائبة عن الحوار، كان يجب أن يشتمل عليها، يذكر منها على سبيل المثال تفعيل مواد الدستور فيما أشار إليه من حتمية إصدار قوانين معينة، خاصة ما يتصل بسن تشريعات في آجال محددة، وهي آجال مضت بالفعل دون أن تصدر، وهنا يخص بالذكر قانون العدالة الانتقالية، الذي تلتزم الدولة بصدوره بحد أقصى عام 2015 (مادة241)، بغرض تصفية الأحقاد والضغائن بين القوى السياسية، وهو لا يغني عن محاكمة القائمين بأعمال عنف. وكذلك التزام الدولة بسن قانون منع ندب القضاة إلى جهات غير قضائية (مادتا 186و239)، وهو القانون الذي يحول دون إفساد القضاة من خلال ندبهم في دواوين الحكومة واشتغالهم بأعمال يغلب عليها الطابع السياسي أو الإداري. وكذلك التزام الدولة وفق مواد 18و19و21و23 من الدستور بأن تنفق الحكومة على الترتيب على كل من الصحة والتعليم والتعليم الجامعي والبحث العلمي 3% و4% و2% و1% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيًا لتصل للمعدلات العالمية، وهو ما لم يتم منذ وضع الدستور.
وعلى أية حال، فإن النقاش في القضايا التي تضمنتها المحاور الثلاثة في اللجان الـ19 سوف تستمر خلال الأسابيع التالية، ويبدو أن الحد الزمنى الخاص بالانتهاء منها هو بدء إجراءات انتخابات الرئاسة التى تسبق شهر يونيو 2024 بأربعة أشهر كما نص الدستور (مادة140).
مؤشرات النجاح
وهنا يبدو السؤال الختامي.. هل من مؤشرات نجاح للحوار الوطني؟.. للإجابة عن هذا السؤال نطرح بعض الأفكار الرئيسة، وذلك على النحو التالي: -
أولا: من المفيد الإشارة إلى أن هناك قضايا غير مكلفة ماديًا لمن سينفذ مقترحات الحوار الوطني، وأخرى مكلفة. ولا شك أن غالبية المقترحات ذات الطابعين الاقتصادي أو الاجتماعي هي مقترحات مكلفة قد يأخذ تنفيذها بعض الوقت. وعلى العكس فإن القضايا ذات الطابع السياسي سيكون أغلبها غير مكلف. خذ مثلا تقرير سياسة محددة للحبس الاحتياطي أو دعم المجتمع المدني، وهو أمر لا يحتاج إلا لسلامة نوايا لتنفيذها، وقارن بين تلك وبين تقرير خطة لزيادة الصادرات أو زيادة الاستثمارات أو تحسين أوضاع المعلمين، وكلها أمور تتطلب أعباء مالية.
ثانيًا: القضايا التي ستحظى بالتوافق على آراء محددة ستكون أفضل من القضايا التي تحمل تشتت في الآراء. بعبارة أخرى، أنه طالما اتفق منذ البداية على الامتناع عن تصويت المتناقشين حول القضايا المطروحة في الحوار، فإن هناك احتمالين، ظهور توافق أو تباين. هنا يشار إلى أن التوافق مهم للغاية لتمرير السياسات، والبديل عنه تقديم الرؤى المختلفة لرئيس الدولة، حتى يقوم باتخاذ ما يلزم، وهو أمر غير محبب عامة للجميع بما فيه الرئيس. خذ مثلا، مناقشات النظام الانتخابي، أليس من الأنجع رفع تقرير للرئيس يتحدث عن تفضيل نظام انتخابي بعينه، أكثر من تشتيته بوجود عدة نظم انتخابية يعلمها الرئيس جيدا؟ المقصود هنا أنه كلما كان هناك عدم التوافق كلما أدى ذلك لبقاء الوضع غير المرضي والشائك على ما هو عليه.
ثالثًا: كلما كان مخرجات الحوار مرتبطة بشأن داخلي كلما كان فرصتها في التطبيق أفضل كثيرًا لما هو مرتبط بالشأن الخارجي. خذ على سبيل المثال سن قانون الإدارة المحلية أو تأسيس مفوضية للتعليم وقارن ذلك بفتح أسواق لصادرات مصر أو جذب استثمارات أجنبية أو معالجة الدين الخارجي. المؤكد أن الشأن المحلي سيكون أوفر حظًا في التطبيق.
أخيرًا وليس آخرًا، هناك أمور ربما يكون هناك اتفاق على المبدأ وعلى التفاصيل في آن واحد، ومن ثم سيكون حظها كبير في التنفيذ. كمواجهة جميع مشكلات الحبس الاحتياطي، واتباع سياسات محددة لتحقيق ذلك. بالمقابل هناك أمور سيكون هناك اتفاق على المبدأ والخلاف في التفاصيل، مثل سن قانون جديد للتعليم الجامعي أو تعميم تجربة التأمين الصحي أو توافر السماد للفلاح، وهذا الأمر سيأخذ بعض الوقت في التنفيذ بسبب الخلاف على الآلية. مقابل كل ذلك فإن الأكثر وطأة هو الخلاف في المبدأ والتفاصيل معا، كالخلاف على النظام الانتخابي.
على أية حال، فإن تأكيد إدارة الحوار على أن مجلس أمناء الحوار سيرفع مخرجات كل قضية انتهى النقاش فيها لرئيس الدولة على حدى، ورد فعل السلطة التنفيذية وربما التشريعية على تلك المخرجات، سيكون هو الاختبار الحقيقي لمدى نجاح تجربة الحوار برمتها.