الخميس 2 مايو 2024

وقفات مع رحلة الحج


د. فراج خليل الصعيدى

مقالات10-7-2023 | 18:36

د. فراج خليل الصعيدى

5 وقفات استوقفنى أثناء أداء فريضة الحج هذا العام 1444 هجرية 2023 ميلادية.

● وقفة ١:
- إن ماكينة الإسلام الضخمة لن يستطيع أحد إيقافها  مهما حاول، ومهما كانت هناك محاولات يائسة من حرق مصحف هنا أو إساءة إلى نبي الإسلام هناك.. إن الشارع الحكيم سبحانه حينما وضع هذا النسك العبقري (الحج) من حيث تجميع هذا الكم الضخم من الناس كل عام في زمن واحد (ستة أيام الحج من يوم ٨ - ١٣ ذي الحجة)، وفي مكان واحد (عرفات ثم مزدلفة ثم منى)، وفي ثياب ذات لون واحد (الإحرام)، بكيفية لبس واحدة (إزار ورداء).. إنها لعبقرية منقطعة النظير، تعطي قوة دافعة ذاتية لهذه الماكينة العملاقة يصعب معها بل يستحيل إيقافها أو حتى تعطيل سيرها أو إطفاء أنوارها. 

 وقفة ٢:
- الحقيقة أن كم الجهد المبذول من حكومة المملكة العربية السعودية في راحة الحجيج وتسهيل أداء المناسك لهو جهد لا تخطئه عين .. الطرق الممهدة والرفادة (الإطعام)، والحجابة (الكعبة وخدمتها)، والسقاية (الماء البارد في كل مكان)، والظل والشماسي المجانية .. والأعمدة العالية على جوانب الطرق لترش رذاذ الماء البارد على الحجيج لتلطيف درجة حرارة الجو، بل إن هناك جنودا يقفون خصيصا في طريق الحجيج ليرشوا علي وجوههم رذاذ الماء البارد في عز الحر  مما يعطي راحة كبيرة وانتعاش للحجاج، كل ذلك مصحوب بالابتسامة وطلب الدعاء من الحجيج.. ولا ننسى هذا المشروع الهائل وهو قطار الحرمين الشريفين (من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة مرورا بجدة)، والذي يختصر قطع المسافة (حوالي ٤٥٠ كم) في ساعتين وربع فقط بدلا من ٦ او ٧ ساعات بالباص .. وسبحان الله تجد كل حاكم جديد من حكام السعودية يأتي فيكون من أولوياته أن يخلّد اسمه في تاريخ الحرمين الشريفين فيتم ذلك إما بتوسعة أو إضافة أو تجديد أو مزيد خدمة للحجاج والمعتمرين (وذلك من باب "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" ).. وكل هذا - على وجه التحقيق - في صالح عمارة الحرمين الشريفين .. وفي النهاية طبعا الكمال لله وحده فلا يزال مطلوب توفير عدد أكبر من دورات المياه في صعيد عرفات لتناسب هذا العدد الهائل من الحجيج؛ وكذلك مطلوب زيادة أعداد الأتوبيسات المجانية من وإلى المسجد الحرام قبل أيام الحج؛ كما أنه مطلوب السماح للحجاج والمعتمرين في عودتهم بحمل ماء زمزم المبارك ولو بحجم زجاجة مياه معدنية واحدة لكل حاج أو معتمر .

● وقفة ٣:
-  الحقيقة إن كم المشتريات التي يقوم بها  الحجاج والمعتمرين المصريين في مولات ومحلات مكة والمدينة شيء فوق الوصف ولا يتناسب أبدا مع الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد .. جلاليب رجالي، عبايات رجالي، عبايات حريمي، طرح حريمي، مصليات، سبح، هدايا وإكسسوارات حريمي بل وأجهزة وذهب أحيانا.. وليس الحل في منع الحجاج والمعتمرين من ذلك ولا في زيادة الجمارك وإنما أقترح على الحكومة المصرية أن يتم إنشاء سوق كبير مستقل متطور (به حمامات و أدوات ترفيه واستراحات بمساحات خضراء)  في مكان ما على أطراف القاهرة يسمى "سوق الأراضي الحجازية" ..  يُجلب إليه نفس البضاعة من نفس بلد المنشأ المُصَدّر لمكة والمدينة وبنفس الجودة وتحت رقابة صارمة منعا للغش والتقليد ولبناءً الثقة .. ويمكن عمل نسخة من هذا السوق الحديث تباعا على أطراف الإسكندرية وأسيوط والأقصر ثم تباعا إلى أن يشمل كل محافظة من محافظات مصر .. وفي هذا توفير للعملة وتشغيل للعمالة وضخ للأموال في اقتصاد الدولة وتخفيف من كاهل الحاج أو المعتمر  بل ويمكن للحاج أو المعتمر شراء هداياهما منه . 

● وقفة رقم ٤:
-  يوم عرفه يوم يستجاب فيه الدعاء.. ويكون يوم طويل ووقته فيه بركة .. وهو فرصة للحاج أن يدعوا لنفسه ولأهله ولأحبابه.. العجيب أنك تجد بذاكرتك شريط يمر أمامك لمن تدعوا لهم أشبه بشريط الفيديو.. الأعجب أنك تجد في هذا الشريط أناسا لم تقابلهم منذ مدة ولم يطلبوا منك الدعاء، ولكنهم يظهرون فجأة في شريط الذاكرة مما يجعلك تدعو لهم وبإخلاص.. على الجانب الآخر تجد أناسا طلبوا منك الدعاء ورغم ذلك يسقط بعضهم من شريط الذاكرة .. فالأمر كله بيد الله.. ولذلك فالأحوط لكل حاج أو معتمر أن يقول في آخر دعائه لنفسه ولأهله ولأحبابه: "اللهم وَكُلّ من حمّلنا أمانة الدعاء وكلّ من وصّانا بالدعاء اللهم أعط كل سائل سؤله فيما يرضيك"؛  وبهذا يجبر الدعاء لمن سقط سهوا من شريط الذاكرة.

● وقفة رقم ٥:
-  تحية إجلال وتقدير لدار الإفتاء المصرية  .. فهم راسخون في العلم حقا .. فوالله ما أردنا فتوى في دقائق أمور الحج إلا وكان لها الغلبة والسبق في أمور التيسير على الحجيج ودفع المشقة عنهم .. وسأكتفي بخمسة أمثلة : 
الأول : أنهم قالوا بأن الذهاب إلى منى في يوم التروية (٨ ذو الحجة) هو سنة وليس واجب كما أفتى غيرهم؛ وبذلك يجوز الذهاب إلى عرفات مباشرة دون النفير إلى منى ومن فعل ذلك فليس عليه دم (ذبح شاة أو سبع بقرة أو سبع بدنة) .. لأنه كما تعلمون حضراتكم أنه من ترك واجبا من واجبات الحج (كالمبيت بمزدلفة أو رمي الجمرات أو من جاوز الميقات دون أن يحرم) فعليه دم .. وهذه الفتوى الرائعة من دار الإفتاء المصرية فيها تيسير كبير على الحجيج. 

الثاني: أنهم قالوا أن المبيت بمنى ليس واجبا وإنما سنة، ومن ترك المبيت في منى ولو كل الثلاثة أيام التشريق فلاشيء عليه (ليس عليه دم)  في حين أفتى غيرهم بأن المبيت في منى واجب ومن لم يبت ليلتين على الأقل فعليه دم.. وهنا عبقرية الفكر الفقهي التجديدي لدار الإفتاء المصرية .. لأنهم قالوا إنما سنّ النبي صلى الله عليه وسلم المبيت في منى في ثلاثة أيام التشريق وذلك ليس للمبيت في حد ذاته وإنما تيسيرا على الحجيج ليكونوا على مقربة من رمي الجمرات في منى  .. وأضافوا أنه لو كان المبيت بمنى واجبا لما رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعمّه العباس رضي الله عنه بترك المبيت في منى والمبيت في مكة للسقاية.. وبهذا يجوز للحاج المبيت في أي مكان بمكة ثم يذهب ليرمي الجمرات الثلاث ثم يعود إلى سكنه وهكذا في ثلاثة أيام التشريق إن لم يتعجل في يومين وإن تعجل في يومين فلا إثم عليه.. وهذه الفتوى الرائعة من دار الإفتاء المصرية فيها تيسير كبير على الحجيج. 

الثالث:  أنه يجوز تأخير طواف الإفاضة إلى يوم المغادرة وبالتالي يدخل فيه طواف الوداع (السنة في الركن) أي يؤدي طواف الإفاضة  وطواف الوداع بطواف واحد (السبعة أشواط) ثم يسعى ولا يحلق مرة أخرى  لأنه بالفعل قد حلق بعد رمي جمرة العقبة  الكبرى  يوم النحر وتحلل التحلل الأصغر.. وبهذا يكون قد أنهى الحاج أعمال الحج كاملة.. وهذه الفتوى من دار الإفتاء المصرية فيها تيسير كبير على الحجيج. 

الرابع: أنه يصح حلق الرأس ولو بقص بثلاث شعرات فأكثر.. وهو مذهب الشافعية (على اعتبار أن الحلق ليس من النسك (الإحرام) وإنما هو مفارقة للنسك).. في حين يفتي غيرهم بأنه لا يصح التقصير إلا بتعميم حلق شعر الرأس.. وهنا نقطة مهمة : طبعا الحلق أفضل من التقصير وتقصير عموم شعر الرأس أفضل من قص جانب منه.. لكن لا يحق لمن يفتي أن يتبنى رأيا واحدًا وأحجب باقي آراء الفقهاء كرأي الشافعية المعتبر ثم أقول للناس أنه يحرم التقصير إلا بعموم شعر الرأس.. بينما دار الإفتاء المصرية  بينت الآراء المختلفة في المسألة (الحلق أو التقصير بعموم شعر الرأس أو ببعضه وأقله ثلاث شعرات)  وتركت الباب مفتوحًا للحاج يأخذ بالأيسر له.. وهذه الفتوى الرائعة بتبني مذهب الشافعية فيها تيسير كبير على الحجيج  .. 

الخامس: يكره صيام يوم عرفه للحجيج؛ و ليس هناك صلاة عيد في حق الحجيج .. ولكن من صلاها يؤجر. 

وعلى العموم فإن عبقرية دار الإفتاء المصرية تتجلى في أنها تبين الآراء المختلفة للفقهاء وقد تتبنى أحد هذه الآراء  ولكن لا تقول بأن باقي الآراء باطلة ولا تصح وديدنهم  أن اختلاف الفقهاء رحمة للناس.. أما غيرها فلا يعرضون الآراء المختلفة للفقهاء وإنما يعرضون الرأي الفقهي الذي يتبنونه وفقط ويؤكدون على أن ما دون ذلك باطل ولا يصح .. ومن هنا - ليس تحيزًا وإنما بميزان المنطق -  تتجلى عبقرية دار الإفتاء المصرية. 

أسأل الله تعالى أن  يكتب حج بيته الحرام لكل مشتاق، وجزى الله تعالى عنا سيدنا محمد ﷺ بما هو أهله.

Dr.Randa
Dr.Radwa