بقلم – د. محمد فتحى
بحث الناس عبر التاريخ عن “إكسير الشباب” أو مصدر الحياة الطويلة أو الأبدية. ورغم أن أحدا لم يعثر على هذا الإكسير، إلا أن المحاولات ما زالت تجري على قدم وساق.. ويمكن الإلمام بهذه المحاولات عبر كثير من المداخل، التي تناولنا بعضها مرات على صفحات المجلة قبلا.. والمدخل الذي نختاره اليوم هو “تقرير السعادة العالمي” لعام ٢٠١٧.
وتقرير السعادة صدر للمرة الأولى في أبريل ٢٠١٢، دعما لاجتماع الأمم المتحدة الرفيع المستوى الذي كرس لرفاه العيش والسعادة، ومنذ ذلك الحين عدت سعادة البشر مقياسا للتقدم الاجتماعي وهدفا للسياسات العامة، ومن هنا توالى صدور تقارير جديدة للأمم المتحدة عن السعادة العالمية.
ووفق تقرير ٢٠١٧ ظهرت بقاع مختلفة يعيش فيها الناس سنوات أطول من متوسط الأعمار العالمي، الذي يبلغ ٧١ سنة، ولكل من هذه الأماكن مصدر خاص للحيوية التي يتمتع بها.
واعتبارا للمساحة يمكن الكشف في إلماحات سريعة عن الأسباب التي يبدو أنها تؤدي إلى طول العمر هنا أو هناك.
كوريا الجنوبية
كوريا الجنوبية هي الدولة الأولى التي يرتفع فيها متوسط العمر المتوقع ليبلغ ٩٠ سنة، وتنسب دراسات حديثة الفضل في ذلك إلى اقتصادها القوي والمتنامي، والرعاية الصحية المتوفرة على نطاق واسع، ومستويات ضغط الدم الأكثر انخفاضا مقارنة بالدول الغربية.
كما يشيع في كوريا الجنوبية نظام غذائي غني بالأطعمة المخمرة، والتي تتضمن الجبن ومنتجات الألبان. كما أن الطعام الكوري، بشكل عام، غني بالألياف والمغذيات. ويعزى إلى ذلك انخفاض مستويات الكولسترول وزيادة المناعة وانخفاض مستوى الإصابة بالسرطان و... .
وفي كوريا الجنوبية، هناك ميل عام لثقافة التعاون الاجتماعي، مقابل العزلة الفردية. ويسهم التركيز على العلاقات الاجتماعية والتقاليد المرتبطة بها في جودة الحياة اليومية. وعلى سبيل المثال يرى البعض أن الحمامات العامة تجمع الناس للتسلية والاختلاط، مما يساعد على الحد من التوتر .
وإن كان من تعليق قبل استئناف جولتنا بين بلدان العالم فهو أن الاقتصاد القوي المتنامي ملمح مشترك بين كل الدول التي سيقودنا السياق إليها، لأن ذلك يعني فرصا أكثر للعمل المثمر والإنجاز، وهما من أهم العوامل التي تلبي احتياجات أساسية لدى الإنسان، ومن ثم تسهم في صحته البدنية والنفسية. ولعل الملمح المشترك الثاني هو الوعي التأملي الشائع في آسيا، الذي يساعد الناس على التخلص من التوترات والضغوط العصرية والاسترخاء و... .
نعود بعد تعميمي واقع التجربة الكورية إلى محطات جولتنا التالية.
سنغافورة
مع سهولة الاستفادة من مرافق الدولة الطبية المجهزة بأحدث التقنيات، ونظام الرعاية الصحية الذي يحمل اسم “المعجزة”، يُعمر السنغافوريون لسنوات أطول من أي وقت مضى، ويبلغ متوسط أعمارهم ٨٣,١ سنة. كما تتمتع البلاد بواحد من أدنى معدلات الوفاة بين الأمهات والأطفال الرضع في العالم.
وتعتمد سنغافورة على الوقاية محورا للرعاية الصحية. وتُسهم الثقافة والبيئة الحضرية الميسرة في تحقيق متوسط أعمار أطول. فالمتنزهات العامة وفيرة في سنغافورة، ويستخدمها السكان للتريض بل وممارسة الرياضة في الهواء الطلق. هذا كما يرتاد الكثير من الناس الصالات الرياضية، وقد اهتمت السلطات بافتتاح “حدائق علاجية”، صُممت للحد من التوتر وتحسين الحالة الذهنية والصحية لدى المسنين.
وتجدر الإشارة إلى أن التزام “العادات”، أو بالأحرى الرذائل غير الصحية، يزداد صعوبة في سنغافورة. فالسجائر والمشروبات الكحولية مثلا تخضع لضرائب كبيرة، وتزيد أسعارها كثيرا مقارنة بالدول الأخرى.
اليابان
منذ فترة طويلة، يعتبر معدل أعمار اليابانيين البالغ ٨٣ سنة واحدا من أعلى معدلات الأعمار المتوقعة في العالم.
ولطالما اعتبرت جزر أوكيناوا اليابانية (كثيرا ما تدعى “أرض الخلود”)، مركزا عالميا لدراسات أسباب طول العمر، فالجزر اليابانية الجنوبية عامرة بمئات الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم ١٠٠ عام.
ويعزى الكثير من الفضل في ذلك إلى النظام الغذائي المحلي الذي يشمل وفرة في البطاطا الحلوة، وكمية معقولة من الأسماك و... .
وتسهم دوائر النشاط الاجتماعي المنتشر في أوساط المسنين، كما يسهم المجتمع المتماسك أيضا، في انخفاض مستويات التوتر وتصاعد الشعور القوي بالانتماء.
أسبانيا
النظام الغذائي الغني بزيت الزيتون والخضراوات و... الشائع في منطقة حوض البحر المتوسط، ساهم بارتفاع معدلات أعمار الأسبان (متوسط العمر ٨٢,٨ سنة). بيد أن هناك سرا خاصا آخر يتمثل في نوم القيلولة. فغالبية الأسبان يقيلون عندما تغلق المحلات التجارية بين الساعة الثانية والخامسة بعد الظهر.. فإذا كانت لديك نوبة عمل متواصلة، واستراحة لمدة نصف ساعة لتناول الغداء، فإنك تلتهم وجبة جاهزة. وعلى العكس من ذلك، فإذا توقفت عن العمل ثلاث ساعات، تذهب إلى المنزل أو إلى المطعم، لتأكل على مهل وجبة كاملة، ويكون لديك وقت كاف للراحة والهضم جيدا، وذلك أمر صحي أكثر من تناول وجبة جاهزة سريعا.
هذا كما تدفع كثافة المدن الأسبانية الناس إلى الحركة أكثر، إذ أن المتاجر والمطاعم عادة ما تكون على مسافة قريبة من أماكن الإقامة، مما يشجع التنقل على الأقدام. لهذا يفضل الناس هناك المشي أو ركوب الدراجات العادية (الهوائية)، أو حتى المشي مسافات متفاوتة لركوب وسائل النقل العام بدلا من استخدام سياراتهم. وبذلك يشبعون خلايا أجسامهم بالأوكسجين، لتنخفض كمية ثاني أوكسيد الكربون فيها.
سويسرا
الرجال في سويسرا أكثر نجاحا من أقرانهم في كثير من بلدان العالم، إذ يبلغ متوسط أعمارهم ٨١ سنة. وبصفتها واحدة من أغنى الدول الأوربية، تشيع الرفاهية ويسهل الاهتمام بالسلامة الشخصية، والحصول على رعاية صحية عالية الجودة، وجميعها أمور تسهم في التصنيف المرتفع في متوسط الأعمار. وتشير الدراسات إلى أن ارتفاع نسبة استهلاك الأجبان ومنتجات الألبان أحد العوامل الرئيسية في ذلك.
ورغم التركيز الكبير على التقدم المهني وانتقال الكثير من المغتربين للعمل في المقرات الدولية الرئيسية العديدة فيها، ورغم أن ذلك يمكن أن يكون محورا للكثافة الوظيفية إلى حد كبير، فإن موقع سويسرا المركزي يسهم في سهولة تحقيق التوازن بين العمل والحياة، عبر رحلات الاسترخاء المتكررة، فمن السهل قيام المرء برحلات رائعة إلى أي جزء من القارة خلال عطلة نهاية الأسبوع، ناهيك عن قضاء الوقت في الهواء الطلق بسبب القرب من جبال الألب الساحرة.
يبقى التأكيد على مالم يشر إليه “تقرير السعادة العالمي ٢٠١٧”، وهو أن الممارسات التي تطيل العمر (الحركة والتريض وإشباع الجسم بالأكسجين، وتناول منتجات الألبان المخمرة غير الدسمة والأسماك والخضراوات والفواكه والبطاطا الحلوة- مع الاعتذار لـ “شكلاطة” سعاد حسني- والتقييل والاسترخاء و...) يمكن أن لا تكون موقوفة على مدينة بعينها، ويمكن لأي إنسان أن يهتم بها أيا كان المكان الذي يعيش فيه. وكما ذكرنا هناك توجهات عديدة لدراسة أسباب طول العمر لكن هذه الإلماحات هي كل ما تسمح به المساحة هنا، مع التأكيد على الأهمية البالغة لثراء العلاقات الاجتماعية، كما تكرر عاليه، وكما أثبتت أكبر دراسة طولية أجرتها جامعة هارفارد على مجموعة من البشر في عالمنا (منذ عام ١٩٣٨ وحتى اليوم)، ونحن على وعد بالتوقف في مناسبة أخرى مع إلماحاتها.