السبت 11 مايو 2024

ليلة القتلة ومسرح اللامعقول


د. شيماء عمارة

مقالات22-7-2023 | 22:15

د. شيماء عمارة

الصدفة وحدها ساقتني لدخول هذه الليلة العبثية الغامضة، كي أكون جزءًا منها، جزءًا من المسرحية التي لم يكن للممثلين وحدهم أدوارًا فيها، بل توزعت الأدوار على الجميع، كلنا متورطون!
ليلة القتلة – مسرحية للكاتب الكوبي خوزيه ترييانا وترجمها للعربية فتحي العشري، فاز هذا النص المسرحي بجائزة "كازا دي لاس أميريكاس" – وتم تقديمها على معظم مسارح العالم، وللمسرح المصري نصيب الأسد إذ قدمت على مسارح الدولة العديد من المرات من 1974 على يد محترفين وهواة – فاز بتقديمها مسرح الطليعة أكثر من مرة – أولها كان عام 1979 إخراج  الرائع ماهر عبدالحميد، وكانت الأشعار لـ (عمنا) الشاعر الفذ صلاح جاهين – وآخرها كان خلال هذا الشهر إخراج الرائع صبحي يوسف وهو صاحب مدرسة إخراجية متميزة ورؤية فلسفية عميقة ظهرت في التفاصيل الدقيقة التي طعَّم بها النص الأصلي، والأشعار للكبير قيمة وقامة الشاعر الغنائي عوض بدوي.

الذي قرأ النص المترجم لـ "خوزيه ترييانا" هذا الكاتب الثوري المتمرد والذي أطلق على "ليلة القتلة" أنها مجرد لعبة أطفال كي يجد لنفسه الحيلة الأدبية والسردية المناسبة كي ينطلق بهذا النص في أدب اللامعقول إلى أبعد مدى، سيعرف حتما أنه نص متحدٍ للنفس البشرية بكل تغيراتها وتمردها ونزعة تحطيم القيود مهما كانت المبررات السلمية الآمنة ورائها.

ولكن...

صبحي يوسف، الذي وضعنا جميعًا داخل أرض الجريمة، وألقى على جمهوره ثوب المجرم وصولجان الحاكم ومطرقة القاضي وسياط الجلاد، صبحي يوسف لم يستثن أحدا من جمهوره كي يدخله الحلبة معه ومع أبطاله، الأبطال الذين تم انتقائهم بكل عناية كي يقدموا عرضا أكثر من مدهش.

استخدم يوسف ومعه الفنان المتميز "وليد الزرقاني" المخرج المنفذ، تقنية فلسفية للعرض، إذ جعل جميع الأبطال يتبادلون الأدوار، الجميع كان أبا وكان أما، ثم زوج أو زوجة، الجميع متهم، الجميع مجرم وقاتل، والجميع كان مدهشا!

ليس هذا فقط، فقد انقسم المسرح إلى نصفين، كل نصف يحمل ثلاثة ممثلين يؤدون نفس المشهد، بدا الأمر كانعكاس المرآة، المشهد في جهة اليسار ينطبق بدقة مع النصف الآخر جهة اليمين، هذه الرؤية الإخراجية المتميزة التي تمرر بكل نعومة المعاني المقصودة لدى صبحي يوسف، في أن الجميع متورط بشكل ما، كلنا انعكاس للآخر، فأنت ظالمٌ هنا ومظلومٌ هناك والعكس، فصناعة المشهد المتكرر يمين ويسار المسرح؛ وكأن هذه الخلافات الناشئة بين أفراد الأسرة الواحدة (أو المجتمع الواحد) ما هي إلا تكرار يحدث للجميع وإن كان بتفاوت.

ثم تأتي لحظة المحاكمة، من الذي يحاكم من؟!

الذي وراء القضبان يحاكم الأسرة بل ويحاكم القضاة والمستشارين أم العكس، من يحاكم من؟!.. كان هذا هو السؤال المطروح طيلة العرض في كل تفصيلة قدمها الأبطال، بل حتى كان لصمتهم نفس التساؤل ونفس الوجع.

أما عن الإمساك بمرآة حقيقية وتمريرها على وجوه الجمهور واحدا واحدا خلال المحاكمة، فكانت هذه اللحظة التي فجرت بداخلي كل الحماس واستفزت عندي استقراء كل شيء حول هذا العمل المدهش، فقد تعمد يوسف والزرقاني أن يضعانا جميعا داخل القفص، يحاكمانا جميعا، توجيه المرآة على كل واحد من الحضور ما هي إلا صرخة في وجه كل واحد منا، كي نعرف أن الجميع متهم، الجميع يقتل مثل "لاللو" بطل المسرحية حتى لو فقط في الخيال، منا من يقتل الفكرة، ومنا من يقتل الحلم، ومنا من يوأد الأمل في نفس غيره.. منا من ينسحب من الحياة فيقتل نفسه وطموحه، منا من يتحدث بالغيبة عن الآخر فيقتل سيرته في جلسة بين الأصحاب، منا من يقتل الصداقة ومنا من يقتل البراءة ومنا من يقتل أبويه كمدا عليه أو غضبا منه.. وكل لحظة يأس هي قتل.. وكل لحظة إحباط هي قتل.. وكل لحظة ينهش فيها أحدهم لحم الآخر أو يهدد أمنه أو يفشي سره.. ما هي إلا اغتيالٌ بشع.

تقنية استخدام المرآة على وجه الجمهور كانت اللحظة الأصدق التي قالت كل شيء وأدانت الجميع.. وصبحي يوسف  صاحب رؤية فلسفية، استحق بها أن ترفع له القبعة.

استخدام الكراسي والحبال والملابس بشكلها الكلاسيكي أحيانا والساخر أحيانا أخرى، كل تلك التفاصيل الدقيقة التي تم الاستفادة بها خلال العرض كانت في مكانها تماما، خلقت لوحة متكاملة من الإبداع، كانت بطلا إضافيا وضعه يوسف واستخدمه الزرقاني بكل حرفية، كي يستنطقا الجماد!.

نأتي للأبطال: ياسر مجاهد – لاللو – شاب متألق وفنان مجتهد ومدهش، فقد كان أداؤه الرائع بمثابة النافذة الحقيقية التي خرج بها هذا الدور المعقد في أبهى صورة – ياسر القاتل والمقتول – الطاغية والمظلوم – استطاع بكل احتراف أن يقدم شخصية مركبة نفسيا مليئة بالتناقضات بطريقة سلسة جعلت الجميع يتسلق معه جبال الخيال التي بثها خلال العرض، أما عن الفنان ايميل شوقي وهو الانعكاس لشخصية لاللو – أو النموذج المكرر على المسرح لـ لاللو.. فقد أبدع في التماهي مع الشخصية بحيث كان الانتقال بينه وبين ياسر في منتهى النعومة والمرونة، فهو كفنان محترف يعرف كيف يلتقط الشخصية وكيف يضعها في السياق المنضبط.

شيماء يسري – الصوت الذي تألق خلال العرض، فهي ليست فقط ممثلة بارعة لكنها أيضا مطربة رائعة، فقد امتلأت القاعة رقة وعذوبة وشجن بصوتها الرقراق وأدائها المتميز، كي تكمل اللوحة العبقرية التي رسمها المخرج صبحي يوسف.

مروج جمال – تلك الفتاة الصغيرة الجميلة، التي استطاعت بكل حرفية أن تتقمص العديد من الشخصيات بشكل أبهر الجمهور.

أما نشوى اسماعيل ولمياء جعفر، فقد رأيت منهما خفة الظل والقدرات التمثيلية البارعة، فهما ممثلتان لهما باعا كبيرا في عالم الفن، وجاء أدائهما مختلفًا متميزًا.

أما عن الأغاني والتي كتبها الشاعر الكبير عوض بدوي ولحنها الموسيقار محمد حمدي رؤوف، فقد كانت أكثر من رائعة، خدمت العرض المسرحي بشكل مذهل، جاءت متماشية ومتماهية مع الرؤية المسرحية الجديدة للعرض، فالكلمات جاءت معبرة عن الألم والإحباط وفقدان الشغف، جاءت معبرة عن قتل الأحلام وسفك دماء الأمل، هكذا الموسيقى لم تقل روعة عن الكلمات في نفاذها إلى القلوب، وقد رأيت بعيني من الجمهور الذي بكى مع بعض الأغنيات المقدمة خلال العرض.

الديكور والإضاءة لم يكونا أقل روعةً وإدهاشا من كل ما تقدم، فكان هذا هو الإبداع الموازي.

هذا العرض سيظل محفورا بذاكرتي طويلا، هذا العرض الذي يضعك أمام نفسك، كما ظهر لاللو (ياسر مجاهد – ايميل شوقي) فهو في الأصل المجني عليه المقيَّد، الشاعر بالظلم والانكسار، وهو في نفس الوقت الذي يمارس الطغيان على أخته كوكا، ويلعب التمرد مع أخته ببا على والديهما وعلى البيت والأثاث والجدارن وحتى الهواء في الحجرة، هو السجين الذي تتم مقاضاته بتهمة القتل، فهو قاتل أبويه، وهو أيضا القاضي الذي وجه العديد من التساؤلات وفتح الأفق لأن يتهم الجميع نفسه، فقد كان مقتولا في الأصل!.

هذا العرض مدهش! هذا العرض مجتمع بأكلمه! ... ويستحق المشاهدة.

شكرا صبحي يوسف – شكرا وليد الزرقاني – شكرا عوض بدوي – شكرا محمد حمدي رؤوف.

كل الشكر لأبطال العمل الرائعين: ياسر مجاهد – شيماء يسري – مروج جمال  - نشوى اسماعيل – لمياء جعفر – ايميل شوقي.

شكرا وزارة الثقافة العودة لفن المسرح الأصيل – فالجميع يحتاج لمثل هذه الوجبات الفنية المعتقة بالإبداع.

Dr.Radwa
Egypt Air