الثلاثاء 30 ابريل 2024

قبلاتي لابنتي الراسبة

مقالات1-8-2023 | 12:07

لم أختلط طويلًا بجدتي زينب (والدة أبي) ربما لأنها كانت تعيش بالمنصورة بمنأى عن عاصمتي.. لكن لطالما استمتعت بالنادر من الروايات التي وصلتني عنها سيما ما قيل لي من تذمر أعمامي صغارًا من موقفها المؤازر للراسب من أبنائها، إذ كانت تراه الأحق بالدعم والمساندة من الناجح الذي يكفيه أن طريقه كان ممهدًا بلا عثرات أو أشواك، عدا تفاخر الأهل وتصفيق المعارف له، إضافة لحلو مذاق النجاح الذي يهديه ثقٍة في نفسه منزوعة من كيان الراسبين.

..

فشريعة جدتي كانت دعم الراسب لتضميد جراحه وإعادة بنيان الثقة لنفسه لتأكيد أحقيته في الإحترام والتقدير خشية أن ينقر سوس التحقير في شخصيته.. ومن ثم فكانت تمد ساعد المواساه لمن تدفق الدمع من مقلتيه كالركايا، تستميل الزاحف بانكسار بربتة لتربط خطاه بسكة حديد الآفاق التي لا توصد أبدا.

..

كان مذهبها أنه إذا اجتمع في بيتها ناجح وراسب، فالأولى إسناد الساقط ولينصرف الناجح مدحورًا حتى تذوب الفواجع وتفنى المواجع وتعود لتبتسم قرائح الجريح، فالمؤازرة والخروجة والهدية من نصيب الراسب للنهوض من كبوته وترميم المتهالك من هشاشة نفسيته خشية أن تخالج نفسه مشاعر عدم الإستحقاق للتقدير لمجرد مادة لم يتوفق فيها أو سنة دراسية لم يَعْبُرُها، فكانت ترى دورها كأم هو أن تصد كدرع بشري نظرات الدونية المصوبة لناظري المخفق.

..

كانت جدتي لا تترك راسبها إلا وقد وعى أن الإخفاق هو أحد مكونات كعكة النجاح، ثم أنها كانت تصر على حقنه بمواد إيمانية ودفعة أحاسيس متعاقبة نحتت وجدان سائر أبنائها تدريجيًا، ففهموا أن من الطبيعي أن يسقط المرء ليعاود الصعود كما كان لديها بذور ثقة أصيلة أجادت زرعها في شتلات بستانها، فأثمر أبناًء واثقين بجدارتهم في حياة لائقة.

..

لقد فعّلت جدوى الحياة وجدارتها بالاستمرارية، فيوم فقدت ابنيها، بكت طويلًا، لكنها سرعان ما كفكفت واستفاقت لتعاود الخطوات الواثقة.. ثم لطمة أشد ضراوة يوم احترقت ابنتها البكرية بنت السادسة عشر عروسًا ” تانت نللي” وكانت صهباء، هيفاء، تناطح جريس كيلي جمالًا، فبكتها حتى إبيضت عيناها – صدقًا لا مجازًا- لكنها قامت ثانيًة لتعاود ممارسة الحياة بعين واحدة وامتنان كبير لرب ترك لها سائر صغارها

مضت جدتي لبارئها.. لكن بقيت ثمالة التذكار تسكرني وتذكرني بجدوى وجودها في دنياي.

..

كانت جدتي زينب خصبة كطمي المنصورة أنذاك، فأنجبت للمجتمع عشرة أبناء “أورجانك” بكامل عزة النفس وتقدير الذات .. وقد لاحظت أن اثنين منهم حازا ثقًة وإعتزازًا بالنفس تكفي شعوب وتفيض .. فكانت عمتي “ناريمان” تروي لي بأسلوبها الآسر والمضحك في آن واحد، كيف كان والدي يستغل سطوته كأخ أكبر فيرصصهم أمامه على الأرض بغرفة النوم ببيتهم في المنصورة ليقرأ عليهم قائمة أمنياته

:سأصبح طيارًا، لكن طيار حربيًا لا طيار مواصلات

وسأقيم بالعاصمة في شقة على النيل

سأطوف العالم عدا اليابان وشرق آسيا وروسيا

سأصبح بطلًأ في الملاكمة

وسأشتري سيارة سبور بمقعدين ووو

كفلق الصبح تحققت أحلامه رغم ضعف علاماته الدراسية.

..

ما يدهشني أن لي أقارب أغنى من عائلة والدي، ما لمست يومَا منهم عشر معيشير ثقة والدي وأعمامي بأنفسهم سواء استمروا في الخدمة أو احيلوا للتقاعد، تمتعوا بموفور الصحة أو ارتادوا المشافي، استمروا في زيجاتهم أم انفصلوا، غزر شعرهم، شاب أو أصابهم الصلع .. فقد أتقنت جدتي فصل بذور الثقة في النفس عن أسمدة المعطيات الحياتية .. فحصّنتهم ضد التخبط بين ” ليت واٍه، و لو” أو من شظايا الإستعباد لتقدير الآخرين لهم من عدمه.

وبالمقابل لكثر ما عاشرت من معارف من علية القوم، إلا أن ثقتهم في كفاءاتهم معتمدة على المتخارج من معطيات الأقدار. سواء شهادة من جامعة أجنبية، زيجة سُقع، شعر ليلي ممهد، سيارة مكشوفة، جريمة مستورة، سيولة نقدية، أراض بناء، أو شهادة براءة من العقم.

والنتيجة أنهم لا يفتأون يتقوتون بالتفاخر من موروثاتهم من حسب، نسب أو ميراث، كحيازتهم لبيانو الأميرة شويكار أواقتناءهم لغرفة نوم الملكة فريدة، أو راديو ضخم لم ينزل في مصر سوى قطعتين منه واحدة ببيت الرئيس عبد الناصر والثانية بدارهم .. وعلى هذا، رأيت منهم إدمانًا للسلف كما استجداء للمجاملة حتى اراقوا ماء وجوههم واتلفوا مال إرثهم على السواء.

..

وكنت أحسب إنعدام الثقة بالذات متلازمة مصرية صرفة، حتى صادف يوما كنت أتريض بالمجمع الذي أقيم فيه بغربتي، فوجدت صبية شامية ريانة .. اومأت لها بالتحية، ودعوتها لمصاحبتي، ودار بينا حوار عرفت من خلاله أنها فلسطينية، قلت

:خمنت ذلك، فصدمتني اجابتها

:لو شاهدتني بكامل تبرجي لقلتي لبنانية

..

خطوات وانضمت لنا شابة أخرى وعند التعارف، تداركت الأمر

:أكيد حضرتك لبنانية، فصدّقت حدسي وأضافت

:نعم، لبنانية لكن صدقيني، بقليل من التزين يعتقدون أني باريسية

..

دورتين في مضمار المجمع ثم انضمت إلينا سيدة بَدت مصريتها من لهجتها، فقلن لها

:عرفناك من لهجتك، أنت مصرية ولكن هيئتك جميلة تشي بجذورك الشركسية! فأمّنت على كلامهن بعدما بدا عليها الإنتشاء!

..

لقد هالني المستوى المتدني لنظرتنا لأنفسنا، وتيقنت أن المرآة وحدها ليست أهلاً لمنح الإنسان شهادة ثقة حتى في هيئته. فكلمة إطراء قد ترفع منسوب ثقة الفرد في نفسه ككل -ليس في هيئته فحسب- فيما نظيرتها السيئة كفيلة بتقويض إحساس الإنسان بجدارته لاستحقاق التقييم الجيد أو ما يعرف بالقيمة الذاتية.

“self- worth”

فقصور المؤسسات التعليمية واضح ومن قبله قصور دور البيت في ادارك أن من أهم شروط عمران النفس هو سد حاجة العيش من التقدير لدعم بناء الأبناء في تكوين صورة صحيحة عن ذواتهم,

..

..

لقد وهبنا الله أبناء، هم أشد الكائنات حياة، فاجتهدنا لقتل الحياة فيهم.. فلا غرب أن نجد بناتنا يعلقن بأول عابر سبيل مهما كان هلفوتًا، رويبضًا بمجرد ما يلمح لهن أنهن جديرات بالإعجاب كوننا عطشناهن للتقدير.. فتضيع حياتهن هباء.

..

..

إن للكلمة لقوة، فما بالنا بأٍب ينهال على ابنه بوابل من السباب، بالتقريع، بالتسفيه، بالسخرية، بالمقارنة، بالضرب، بالتهميش، بالتحسيس بالدونية، بالتفاكه، بالتحديق، بالتندر على سلبيات الابن للتوبيخ؟

أي منتج بشري متوقع من هكذا تدمير لحظي لأغلى ما وهبنا الله؟

ولصالح من يقترف الأباء تلكم الشناعات بدم بارد وبتكرار مطمئن من أي عقوبة؟

..

يقيني يقين أن الصورة المشوهة للإنسان عن نفسه هي أبسط نتائج هذا الدمار العائلي المُهَنْدَس من قبل أسر ومؤسسات تعليمية تستبيح كرامة الطالب لمجرد أنهم آمنين من العقاب الدنيوي. فكم العنف المعنوي والمادي الممارس في بيوتنا يثاني ممارسات العنف في السجون ويفوق نظيره في أفلام الأكشن والكارتون وأحينا أفلام الرعب.

..

وكيف لذاكرتي أن تتناسى ما سمعته من أحد اكابر المفكرين العرب المفوهين حين اعترف بعجزه عن كتابة عمل أدبي بمستوى كبار أدباء الغرب، مع أن ما يتلفظ به هذا المفكر بشكل دارج، يسطرونه بماء الذهب، بل نتلقفه نحن الكتاب كما يتلقف الفلاحون أمطار الغوث من السماء، فنعنعن عنه ونقتبس من نصاعة منطوقه وبريق مفرداته لنزرعه في متون حقولنا الأدبية. لكن المشكل أنه غُرس في أعماقه عدم لياقته ليطال قامة أدباء الغرب، حتى أنه مهما قيل له أن عمله الفكري يفوق ما سطروه ويعلو، فلن يصدق ..على أن هذا المفكر يرتجل دررًا، وأعني بالإرتجال افتقاده لفرص التصويب، التعديل، الحذف والإعادة كتلك المتاحة للكتّاب.

..

يبدو أن الانسان ينظر لمواهب الآخرين ممن سبقوه بإجلال تستهين معه نظرته لما وهبه الله، مع أن الواهب هو الوهاب، القادر على كسر القالب وخلق قوالب أفضل.

وجدير بالإنسان أن يثق في منحة الله وقدرته على خلق بشر مبدعين. فجملة ما فينا من حُسن ومواهب ما هو سوى وحي وتنزيل من غيث السماء وهباتها، فيما يشكر الإنسان من مدحوا موهبته لاعتقاده أنهم يمدحون ميزة فيه ويكأنه صنعها، على أنها محض هبة ربانية، ما عليه سوى العناية بها وتنميتها بغزلها ونسجها لتقديم منتج رائج منها. ولا يحق له بحال الاستهانة بهبات الوهاب.

لذا، فلا يروقني ان اسمع فتاة تلقت إطراًء بصدد هيئتها، فيكون تعليقها

:لا، ليس لهذا الحد

ويكأنها صنعت نفسها أو لتحسبن المجاملة لها لا لخالقها!

..

إننا نعيش موسم الإحتفالات بالناجحين وصورهم تعج بها مواقع التواصل، فألف مبروك للمتفوقين، لكني في الوقت ذاته أؤكد لأبنائنا ممن لم يحصلوا على

A+

أو من خالفهم التوفيق هذا العام أننا نعتز بهم اعتزازنا بإخوتهم .. وأنا على ثقة من

نجاحهم العام القادم.. وسيظلوا بأعيننا نجحوا أم رسبوا، أخطأوا أم أصابوا.

..

ادعم صغيرك الراسب بالعناق، بالقبلات، بربته الكتف، بالتصفيق، “بضغطة لايك".

ادعم ابنك بالبشاشة، بالقبول أو بالمساندة لحظة السقوط.

تلك أشياء لا تشترى.. لكنها ثمينة كونها ترفع قيمة المرء أمام نفسه والأخرين .. وتؤكد له جدارته، ما يحول دون انجرافه لأصدقاء سوء .. لأزواج اسوأ أو لأي فرصة يجد فيها المرء وردًا لكلمٍة طيبٍة اعتازها ولم يسمعها، فيرتج ارتجاج الأفلاك في مدارات من يستغل احتياجه للتقدير.

..

إني اعوذ بالرحمن منك أن تكون كمن حول صغاره كخراف اضطرها راعيها “غير الصالح” لقبول تناول الدريس العفن، حينما منعها من أبسط حقوقها في غذاء صالح لحياة كريمة.

..

أبدًا، ليست دعوة للإغراق في المدح و ليست مطالبة بمفرخة ثناء ولا في الإنسياق للقدح، فكلاهما كفيل بطمس حقيقة الإنسان ووعيه بحاله.

قبح الله من يتاجرون ببضاعة التقدير الصينية .. أولئك القادرين على تحويل نفس الضعيف لخصم يهوي به في قرارات الخسران

اضغط “لايك” أيها الراعي الصالح على شهادة ابنك .. لتحيي نفس صغيرك.

بقلم/ داليا الحديدي

كاتبة مصرية

Dr.Randa
Dr.Radwa