الأربعاء 26 يونيو 2024

فرنسيس بيكون.. منطق العلم والتركيب

فرنسيس بيكون

ثقافة2-8-2023 | 14:52

حاتم السروي

إن الحديث عن فرنسيس بيكون هو حديث عن جوهر الفلسفة الحديثة وأساسها، عن النظرة العميقة التي غيرت مسار الحضارة الإنسانية لتكسبها قيمة الفكر السليم القائم على المزاوجة بين العقل البرهاني والنظر الواقعي، فلقد علمنا فرنسيس بيكون كيف نشك حتى نصل إلى اليقين، وكيف نفكر تفكيرًا موضوعيًا بدون أوهام ولا خيالات، منطلقين من المنهج الاستقرائي، ويقصد به استخراج القاعدة العامة من مفردات الوقائع استنادًا إلى الملاحظة.

ولا تعجب إذا عرفت أن هذا المنهج البنائي التركيبي، الذي يبني الكل من الأجزاء، ويصنع النظرية من الوقائع المتشابهة التي يحكمها قانون واحد، هو منهج عربي أصيل كان سائدًا في الأندلس، ومنها انتقل إلى بلاد الغرب ابتداءً من القرن الثاني عشر فما يليه حتى بزغ فجر النهضة الأوروبية على يد فرنسيس بيكون ورينييه ديكارت.

والتفكير الموضوعي عند بيكون يأتي أولًا من رفض المُسَلَّمات، ومن هنا يبدأ البحث عن حقيقة جديدة، من خلال فحص ما اعتبرناه يقينًا مطلقًا بإخضاعه للمشاهدة والتجربة؛ فالإنسان عمومًا حين يبدأ بالشك ثم يمارس البحث بشروطه وأدواته وخطواته فإنه سيصل إلى اليقين؛ أما لو بدأ باليقين فإنه للأسف سينتهي إلى الشك، وقد رأينا ذلك مرارًا، فالذي يشك ويسأل طلبًا للحقيقة وليس للتشغيب حتمًا سيصل إلى إجابات، وسيزداد علمه وتنمو ثقافته وتقوى حجته، ويكون إيمانه بوجهة نظرٍ ما أو بمعتقد معين أثبت وأقوى من هذا الذي لم يعمل عقله ولم ينظر إلى الواقع، وليس هناك أسوأ من الانفصال عن الواقع وتصديق المُحال.

ولكن كيف بدأت رحلة بيكون في عالم الفلسفة؟

لم يكن بيكون إلا دارس فلسفة في عصر ركدت فيه ريحها، وانتابها الخمول، في الوقت الذي كانت فيه التقنية تنمو وتتكامل وتزداد قوة على مر السنين، وكان أن تفكر هذا الدارس في أسباب تراجع الفلسفة، فخرج من بحثه المضني بأن هذا التراجع يعود إلى عوامل عدة، ويمكن لنا تلخيصها في خمسة عوامل على النحو التالي:

  1. كان للنهضة في بدايتها مزايا وعيوب؛ فمن عيوبها أنها جعلت الناس يهتمون بالأساليب والكلمات، واتجهوا لذلك إلى التنميق والبلاغة مع إهمال المعاني؛ لأن اكتساب الآلات والزينة والرفاهية جعلهم يهتمون بالمخترعات الجديدة سعيًا إليها واقتناءً لها على حساب المعاني الجوهرية في حياة الإنسان.
  2. اختلاط الدين بالفلسفة اختلاطًا ظاهرًا، سواءً عند الغربيين الذين اقتصرت الفلسفة عندهم أو كادت أن تقتصر على اللاهوت، أو عند الشرقيين الذين تفلسفوا من بوابة علم الكلام، ومن هنا صارت أدلة الفيلسوف نقلية، فهو يجادل بالنص المقدس في غير موضوع الدين، والدين لم يقل ذلك، وربما اعتمد المتفلسف على أقوال السابقين، وأياً كان الأمر، فإن الفلسفة كما نعرف تقوم على التفكير المحض بدون تلقين خارجي، ولهذا تراجعت الفلسفة جدًا في العصور الوسطى، وحمل رجال الدين على الفلاسفة لأنهم انطلقوا من عقولهم، ولم يشفع لبعض الفلاسفة أنهم زاوجوا بين تفكير العقل والإيمان بالنص في روح توفيقية مرنة لمسناها عند فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية.
  3. وزاد الفلسفة تراجعًا ما انتهى إليه أمر الفلاسفة أنفسهم، فقد خرجوا عن موضوعها وحشوا مؤلفاتهم بالثرثرة والغموض، والفلسفة مجال دقيق يتأسس على تحرير المصطلحات والدقة في استخدامها مع القصد بغير إسهاب لا داعي له، وتوخي الوصول إلى نتيجة دون لغو.
  4. تعصب الناس لموروثاتهم وعاداتهم الاجتماعية وما وجدوا عليه سابقيهم.
  5. عدم تثبت الدارسين في الأمثلة التي يدلون بها والقفز إلى النتائج دون تحليل عقلي وبلا ترتيب وتدرج، وهو ما يسمى بالطفرة، فهذه الطفرة الفلسفية أمر غير محمود.

لقد أدرك فرنسيس أن العيب الأساسي للفلسفة يكمن في طريقة تفكير الإغريق وفلاسفة القرون الوسطى؛ حيث فشا بين الإغريق الإيمان بأن العقل النظري وحده يكفي للوصول إلى العلم، وبالتالي نشأت لديهم طريقة استخلاص للحقيقة لا تؤدي إلى أية حقيقة من وجهة نظر بيكون؛ لأن النتيجة متضمنة في المقدمات، ولهذا جاءت ثورة بيكون على أفلاطون وأرسطو، أي على المنطق القديم، وبدا له أن الفلسفة المدرسية التي خرجت من عبائتهما مليئة بالثرثرة، غير واقعية، ومملة للغاية، ويضاف إلى عوراتها أنها لا تصل إلى نتيجة جديدة، ولا أمل يرجى منها في تقدم العلوم.

ونظر بيكون إلى الفلسفة القديمة كلها نظرة اليائس، أو لنقل إنها نظرة راديكالية تتقاطع معها، وتحملها وزر الجمود العقلي والفقر المعرفي، ولا نشك أن بيكون قد بالغ؛ إلا أن معه بعض الحق، ويزيدنا تأييدًا له في عالمنا العربي، أننا نحتاج إلى فلسفته العلمية، فقد جعل العلم أداة في يد الإنسان، تعينه على فهم الطبيعة وتطويعها لصالحه، فهو يؤمن بأن الإنسان له السيادة على كل المخلوقات بما أوتي من مزايا العقل واعتدال التكوين والعلم، وفساد العلم هو الذي أدى لفقدان الإنسان لسيطرته وسيادته، وبالتالي أدى إلى خضوعه للطبيعة وخوفه منها، واعتماده على الغيب فقط دون العلم والعمل، وحين دخل بيكون إلى هذه المنطقة اتهمه الآباء الكنسيون تلقائيًا بالإلحاد، ولهذا وضح وجهة نظره قائلًا: " لا يمكن أن أعتقد بعدم وجود عقل مدبر لهذا العالم" فهو إذن يدعونا إلى الإيمان وفي نفس الوقت إلى الأخذ بأسباب النهوض في الحياة.

وهنا نلمس الوجه العملي لفلسفة بيكون، ودعوته إلى اعتماد البحث العلمي وسيلة لمعرفة قوانين الطبيعة ومن ثم خدمة البشرية وتحسين سبل عيشها، وكم كان بيكون جريئًا وهو يدعو بهذه الدعوة التقدمية في ذلك الوقت المبكر الذي عاش فيه، فلقد ولد في لندن لعام 1561م وكان والده رجلًا تقليديًا محافظًا، بحكم البيئة التي عاش فيها، وبحكم طبيعة عمله؛ حيث كان حارسًا للختم الملكي في بلاط الملكة البريطانية "إليزابيث" وهي التي في عصرها انتعشت الحركة العلمية في مختلف بلدان أوروبا؛ فظهر في علم الفلك "كوبرنيكوس" و"جاليليو" وفي علم الكهرباء والمغناطيس "جلبرت" وفي علم التشريح والدورة الدموية "هارفي" وبدأ البشر يتطلعون إلى عصر جديد بعيدًا عن حكايات ما قبل النوم..

ولكن مهلًا، هل كل البشر تطلعوا إلى عصرٍ جديد؟؟ للأسف.. بعض البشر كانوا في عصرٍ جديد بالفعل ثم عادوا القهقرى، وهم العرب؛ إلا أن أمل مفكري العرب لم يعرف الخمود وظلت شعلة الرجاء ملتهبة في نفوسهم، وظهر لدينا دعاة للعلم لا يقلون كفاءة وحماسة عن فرنسيس بيكون.

وفرنسيس بيكون لم يكن فقط فيلسوفًا، بل كان أيضًا رجل سياسة يطبق نظرياته الفلسفية في أرض الواقع لصالح مواطنيه، فلعله كان يطمح إلى تحقيق حلم أفلاطون بوجود الحاكم الفيلسوف، وهو بالطبع لم يكن حاكمًا؛ وإنما كان مسئولًا سياسيًا حاول تنفيذ ما يحلم به، وكان أديبًا بليغًا عُرِف بجمال النثر في أسلوب محكم وعناية بانتقاء الكلمات وروعة في الأداء اللغوي، فهو كاتب قدير ينوع ألفاظه ويملك عنان اللغة.

أما في الجانب الأخلاقي فكانت فلسفته تنزع إلى مبادئ ميكافيللي، من ناحية أن هذه المبادئ توضح لنا حقيقة البشر، فالإنسان بطبعه نفعي وانتهازي والغايات عنده تبرر الوسائل، والدنيا لا يعيش فيها إلا اليقظ، فكن خيرًا كما يتحتم عليك أن تكون، ولكن افهم طبائع الناس، وبالجملة جاءت فلسفة بيكون دنيوية مادية، ولا يمكن الاعتماد عليها وحدها بالطبع؛ ففي الحياة جوانب روحية وعاطفية ولا يمكن أن نملأ فراغ المادة والحس على حساب الوجدان.

على أن رؤيته للعقل الإنساني جديرة بالتأمل والاهتمام؛ فهو يرى أن عقل الإنسان يشبه المرآة غير المستوية التي تنعكس خواصها على الأشياء فلا تعكسها كما هي، بل تظهرها مشوهة، وهذا يعني أن أفكارنا هي صور عن أنفسنا أكثر من كونها صورًا لحقيقة الأشياء، فمن أخطاء التفكير أن صاحبه إذا آمن برأي لسببٍ ما نراه يرغم كل شيء حوله لإثبات رأيه والتأكيد عليه!

وبناءً على ما سبق حدثنا بيكون عن "أوهام الكهف" فلكل إنسان كهف لا يريد أن يبرحه، يعجبه ويرى فيه العالم، كل العالم، مع أنه كهف معزول وضيق، وهذا الكهف حين يدخله بصيص من النور تتراءى فيه الأشياء للإنسان على غير ألوانها الحقيقية، لأن الكهف معتم أساسًا وحين يدخله النور يختلط بظلامه فلا تبدو الأشياء كما هي، وهذا الكهف البشري هو طبع الفرد ومزاجه ما بين العصبية والبرود، وحالة جسمه، وذكاؤه الشخصي، فبعض البشر ينزعون بطبيعتهم إلى التفكيك، تفكيك الأشياء بمعنى تحليلها وردها إلى مكوناتها الأولى ورؤية أوجه الاختلاف والتباين بين الأشياء، وبعض الطبائع تنزع إلى التركيب والبناء، ويقتضي هذا رؤيتها لأوجه الشبه بين الظواهر لتأليف قانون واحد يربطها جميعًا.

وبعض العقول تمجد كل ما هو قديم، فنسمي صاحبها محافظًا، وبعضها تميل إلى كل جديد، فنسمي صاحبها ثائرًا تجديديًا، والقليل من الناس من يستطيع السير في النهج الوسط، وكل هذه الطبائع والعقول لا تصل بصاحبها إلى الحقيقة، فلا يصل إلى الحقيقة إلا المتجرد من طبعه وطريقة تفكيره، فإذا استطاع الإنسان أن يتجرد لينظر إلى الأمور بموضوعية فإن احتمال وصوله إلى الحقيقة كبير، علمًا بان هناك نوع من المسلمات لا يمكن الفكاك منه عند الانطلاق إلى البحث، وذلك النوع هو "البدهيات" وهي معرفة ضرورية غير مكتسبة يعرفها الإنسان تلقائيًا دون تنبيه إليها، ومن ذلك مثلًا أنه لا شيء بدون سبب، فمنكر السببية لا يقع في دائرة البحث الفلسفي وإن حشد في كلامه عشرات المصطلحات الفلسفية، لأنه أنكر معلومًا ضروريًا لا يمكن أن يخوض فيه إنسان عاقل، حتى لو كان هناك مجال للحديث عن فلسفة الاحتمال، فالاحتمال لا يتأتى في القوانين العلمية الثابتة.

وختامًا نقول: إننا بحاجة إلى إعادة النظر في واقعنا العربي، والعودة من جديد إلى العلم والتجريب والتفكر القائم على الدليل العقلي والملاحظة التجريبية، فالعقل لا يعمل بمفرده؛ وإنما يعمل من خلال معطيات واقعية، ولهذا كتب كانط كتابه الشهير "نقد العقل الخالص" وطور أفكار بيكون، وعلى أكتاف بيكون وديكارت وإيمانويل كانط قامت حضارة عصرية نطمح في الوصول إليها ذات يوم على أرضنا العربية.