الخميس 2 مايو 2024

في رسالة خاصة لـ«الهلال»| تفاصيل لقاء أبو سلمى ومحمود درويش في برلين: «قالوا لي إنني بلا جنسية»

صورة نادرة لمحمود درويش

كنوزنا9-8-2023 | 16:21

بيمن خليل

في مثل هذا اليوم، رحل عن عالمنا، أحد أهم شعراء العصر الحديث، وهو الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، الثائر لوطنه، وللمقاومة الفلسطينية، فقد ارتبط اسمه بشعر الثورة والوطن.

 

في أواخر الستينيات، وصلت رسالة إلى رئيس تحرير مجلة الهلال وقتها، من الشاعر الفلسطيني الكبير «أبو سلمى»، وتحدث في رسالته عن لقاء خاص جمعه في برلين بألمانيا مع شاعر المقاومة في الأرض المحتلة «محمود درويش».

 

ونشرت «الهلال» في عددها الصادر1 يوليو 1969، نص هذه الرسالة، تقديرًا لما تضمنته من معلومات وحقائق عن الأرض المحتلة في ذلك الوقت، وثوارها وشعرائها.. وتقديرًا لذلك اللقاء العزيز الذي تم بين «أبي سلمى» وهو شاعر كان في طليعة جيل المقاومة في ثورة فلسطين سنة 1936م، و«محمود درويش» وهو شاعر يقف في طليعة جيل المقاومة الجديد الذي يناضل اليوم بأقصى ما تستطيع قوته من أجل فلسطين.

 

وسوف تعيد - بوابة دار الهلال – نشر أجزء من هذه الرسالة التي أرسلها الشاعر أبو سلمى خلال لقائه بمحمود درويش في برلين.

 

بداية اللقاء بين أبو سلمى ودرويش

قال أبو سلمى: لا تسل عن سروري، عندما كنت في ضالة فندق «بوهانس هول» في برلين ذات يوم في منتصف الشهر الماضي، وإذا بأحد شبابنا «إسماعيل عبد الرحمن»، الذي هجر الشعر وأصبح دكتورا في الاقتصاد يدخل إلى صالة الفندق، ومعه شاب في مقتبل العمر، نحيل الجسم، يمسك بيديه نظارته، اقترب مني والابتسامة تملأ وجهه ولكن الحزن يترقرق في عينيه.. صحت.. محمود درويش.. عانقته وقبلته.. وكأنني أعانق بلادي فلسطين كلها، بلادي القائمة هناك وراء الدموع.

قلت له كيف أنت يا محمود؟

قال: إنني لاجئ في فلسطين.

وهكذا تهدج الصوتان، الفلسطينيان القريبان، وقلت له حدثني يا محمود كثيرا عن أحبابنا في حيفا وعن شوارعها وبيوتها، وعن الكرمل والشاطئ، وعن كل شيء.

فقال: إننا نذكرك دائمًا.. وطاولتك التي تركتها في حيفا.. إنها موجودة في جريدة «الإتحاد» واسمها «طاولة أبي سلمى»، فيما أوراقك وأشعارك.. لقد قرأت بخط يدك قصيدتك «انشر على لهب القصيد».. وبعض أشعارك تُرفع لافتات في الاحتفالات والانتخابات.

وقد كتب زميلنا الشاعر «حنا أبو حنا» مقالات عديدة عنك، وعن «إبراهيم طوقان» و«عبدالرحيم محمود» في مجلتنا الأدبية «الجديد» وفي كل ليلة نجتمع مع صديقك الحميم «حنا نقارة» ولا يمكن ألا نذكرك ونروي من شعرك ومن قصصك.. نحن امتداد لكم يا أبا سلمى.

 

منع درويش من دخول باريس

قال محمود درويش لأبو سلمى: أنت تمر في قريتي «البروة» تلك القرية القريبة من عكا، قد محتها إسرائيل من الوجود وأقامت بدلاً منها، قرية إسرائيلية: إنني أحمل قريتي كما أحمل وطني بكل جراحاته في قلبي.

 

أبو سلمى: ولقد تذكرت، يا عزيزي، ومحمود درويش يحدثني عن قريته.. تذكرت تلك القرية الجميلة التي زرتها سنة 1945م، وكنت في عكا ونزلت عند آل الدرويش فيها، ولم أكن أعلم في ذلك الوقت أن في الأسرة طفلا عمره ثلاث سنوات اسمه «محمود» سوف يهاجر منها وعمره ست سنوات لم يعود فيراها وقد غابت إلى الأبد ولم يعد يحمل من آثارها إلا «صورة باكية» في عينيه وصورة دامية من قلبه.

 

قال لي محمود قد سمعت صوتك في الإذاعة وأنت تنشد قصيدتك في مهرجان الشعر في بغداد، وكنت في حيفا عند الشاعر عصام العباسي، وقد سجلنا قصيدتك وقصيدة نزار قباني.

سألت محمود درويش، كيف جئت إلى برلين؟!

قال: ذهبت إلى باريس لحضور ندوة لجمعية الصداقة الفرنسية العربية، فأوقفتني السلطات الفرنسية في المطار ليلة كاملة، ولم تسمح لي بالدخول إلى باريس، لأنني لا أحمل جواز سفر، وإنما أحمل تذكرة مرور «ليسيه باسيه*».

وقيل لي في المطار: إنك بلا جنسية، ولذلك لن تدخل باريس، وفي اليوم الثاني حملوني إلى طائرة كانت مسافرة إلى بولندا، وقد ذهبت إلى وارسو، ومنها جئت إلى برلين.. إن وراء ذلك دون ريب السفارة الإسرائيلية في باريس.

ثم قال محمود درويش: إنني اتفاوض هنا في برلين مع ناشر ألماني لطبع دواويني باللغة الألمانية.

ثم قال: انظر يا أبا سلمى، ابن فلسطين لا جنسية له في فلسطين حيث ترفض إسرائيل أن تعطيني جواز سفر.. كل ما أملكه هو «الليسيه باسيه».. تذكرة المرور، بينما اليهودي.. أي يهودي يأتي من أي مكان في العالم، عندما يصل إلى شواطئ فلسطين فإنه ينال الجنسية وجواز السفر في الحال.. ثم تقول إسرائيل بأنها ليست عنصرية؟

 

ختام اللقاء

أبو سلمى: قلت لمحمود هل لك ديوان جديد؟

قال: بعد أيام يصدر ديواني الجديد «يوميات جرح فلسطيني».

 

أبو سلمى: امتد اللقاء ثلاثة أيام  بين محمود درويش وبيني، عشت فيها كأنني في حيفا، أتنقل من بيتي في شارع البساتين، إلى كل مكان فيها يغمرني أريج الصنوبر في «الكرمل» وشذا التراب، تراب الوطن، والود المقيم للأصدقاء الذين لم يغادروا حيفا، إنهم يعيشون معنا – على البعد – ونعيش معهم: نسير معًا في هذه الطريق الطويلة، العريضة الواسعة، طريق الشعب في كفاحه من أجل الحرية والتحرير.

 

رسالة محمود درويش الأخيرة

جاءني محمود درويش ليودعني في اليوم الثالث للقائنا وحملني سلامه إليك وإلى كل أخ يكتب عنه كلمة طيبة..

قال لي محمود درويش: قل لهم إنني أخ عربي لهم، تفتحت عينا طفولتي على المأساة وكان عمري ست سنوات.. وأنا الآن لاجئ فلسطيني في وطنه فلسطين، أدافع عن الحرف العربي، ومن الأرض العربية، وعن الإنسان العربي.

لقد انتهى الحلم وسأعود.. وعندما أصل إلى أرضي حيفا يدخلونني إلى غرفة التفتيش وينزعون عني كل ثيابي، فدائمًا يخاف الظالم من الكلمة.

 

أبو سلمى: تعانقنا والدموع في قلوبنا وعيوننا معا، ثم ذهب.. وأنا أنظر لهذه الغرسة الكريمة في بلادي تعود إلى الوطن، لتحمل إلى عروق هذا الوطن المنكوب دماء الحياة من جديد.. هذا اللاجئ الفلسطيني في وطنه فلسطين، يعود ليصرخ أمام أعتى الطغاة وتدوي صرخته في أنحاء العالم كله: «سجل أنا عربي.. عشت وسلمت يا أخي».

 

*هي اصطلاح دولي للإشارة إلى وثائق مرور لمن ليس لديهم جنسية محددة ولا يحملون جواز سفر، أو لمن لا يستطيع طلب جواز سفر من دولته.

 

Dr.Randa
Dr.Radwa