الثلاثاء 21 مايو 2024

"رفاعة الطهطاوى".. الصعيدى الذى أنصف المرأة والتاريخ

رشدى الدقن

ثقافة10-8-2023 | 17:34

رشدى الدقن

● اتهم أعداء المرأة بالجاهلية،  ودافع عنها  وفند اتهـام البعض لها بالمكر والدهاء ورفض النظر لها "كوعاء يصون مادة النسل"

● تبنى رفاعة مشروعا تنويريا كاملا، واشتغل بالترجمة فى مدرسة الطب، وعمل على تطوير مناهج الدراسة في العلوم ومن أعظم إنجازاته افتتاح مدرسة الترجمة 

● هاجم الطهطاوى نقل مسلة الكرنك لباريس والتى أهداها محمد على باشا لفرنسا حيث كان الوحيد الذي شعر بقيمة تراث بلده

 

فى العام 1840 كان قد مر على عودته من باريس 9 سنوات،عاشها مؤمنا بحرية المرأة وبحقوقها كاملة غير منقوصة ..ولم يكن هذا الراى أو التوجه الغريب حينها - وللأسف حتى الآن  لايزال غريبا فى بعض الأماكن والقطاعات – مجرد إدعاء للمدنية والفكر الأوربى الذى تشبع به طوال إقامته فى فرنسا التى امتدت خمس سنوات، إنما كان هو منهج حياته والذى طبقه فى زواجه من ابنة خاله ..فقبل إتمام العقد، خط الشيخ الأزهرى المعمم"رفاعة الطهطاوى "، لعروسه وثيقة أثارت ضجة حينها، فقد تنازل عن حقوق أباحها له الشرع، إيمانا منه بحقوق المرأة وحريتها في مواجهة مجتمع فرض عليها الحصار وتعامل معها باعتبارها متاعا يملكه الرجال.

كتب رفاعة الطهطاوى فى عقد قرانه نصا: «التزم كاتب الأحرف رفاعة بدوى رافع لابنة خاله المصونة الحاجة كريمة بنت العلاَّمة الشيخ محمد الفرغلى الأنصارى أن يبقى معها وحدها على الزوجيَّة دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أياَّما كانت، وعلَّق عصمتَها على أخذ غيرها من نساء أو تمتع بجارية أخرى.. فإذا تزوَّج بزوجة أخرى أى ما كانت، كانت بنت خاله بمجرد العقد خالصة بالثلاثة، وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين، ولكن وعدها وعدا صحيحاً لا يُنقض ولا يخل أنها ما دامت معه على المحبَّة المعهودة مقيمة، على الأمانة والحفظ لبيتها ولأولادها ولخدمها ولجواريها، ساكنةً معه فى محل سكناه،  لن يتزوج بغيرها أصلاً ولا يتمتع بجوار ولا يخرجها من عصمته حتى يقضى الله لأحدهما بقضاء"

ووقع باسمه .. رفاعة بدوى رافع، 14 شوال 1255هـ».

هذه الوثيقة المهمة  لخصت ببساطة ووضوح  نظرة الرجل  للمرأة وحقوقها ...قبل هذا التاريخ المهم عمل الطهطاوى بجدية شديدة على مشروع تنويرى مهم يبدأ من إعطاء المرأة حقوقها كاملة ...وفى كتابه الأشهر " تخليص الإبريز فى تلخيص باريز"قال نصا :«كثيراً ما يقع السؤال من جميع الناس عن حالة النساء عند الإفرنج وكشفهن عن حالهن الغطاء، وملخص ذلك أن عفة النساء لا تأتى من كشفهن أو سترهن بل منشأ ذلك التربية الجيدة أو الخسيسة»

لم يكتف الطهطاوى بذلك بل اتهم أعداء المرأة بالجاهلية .. ودافع عنها  وفند اتهـام البعض لها بالمكر والدهاء ورفض النظر لها "كوعاء يصون مادة النسل" وناقش الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي عن تعليمها فقال: "كيف ذلك، وقد كان في أزواجه، صلى الله عليه وسلم، من تكتب وتقوأ كصفحة بنت عمر، وعائشة بنت أبى بكر، وغيرهما من نساء كل زمن من الأزمان؟ ولم يُعهد أن عددا كبيرا من النساء ابتذلن بسبب آدابهن ومعارفهن، على أن كثيرا من الرجال أضلهم- التوغل في المعارف"، ثم ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من "الشفاء" التي كانت تعلم النساء. فى عهده: "علمى حفصة رقية النمل، كما علمتها الكتابة"

المتابع لسيرة رفاعة  الطهطاوى  سيكتشف أنه فور عودته إلى مصر من بعثة باريس عام 1931، والتى ذهب اليها إماما للبعثة المصرية ، بدأ يغرس فى المجتمع المصرى مباديء وأفكار التطور والحرية ومساواة المرأة بالرجل، تحت شعاره الجميل:" فليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة نبنيه بالحرية والفكر والمصنع"! وأنشأ الطهطاوى الكتاتيب لتعليم الأولاد، ووضع مبدأ وبذرة المواطنة فيما أسماه "المنافع العمومية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد".

 وفي عام 1872 أصدر كتابه "المرشد الأمين فى تربية البنات والبنين" داعيا إلي تعليم المرأة واتخاذها صديقا وأختا ورفيقة درب .. مستندآ إلى منطق الإقناع ، فقد قضت التجربة في كثير من البلاد أن نفع تعليم البنات أكثر من ضرره بل إنه لا ضرر فيه أصلا... ويقول الطهطاوى في كتابه: «ليس التشديد في حرمان البنات من الكتابة إلا للتغالى فى الغيرة عليهن من إبراز محمود صفاتهن أيا ما كانت، فى ميدان الرجال تبعا للعوائد( العادات) المحلية المشوبة بجمعية (مجتمع) جاهلية، ولو جرب خرف هذه العادة لصحت التجربة».

وبعد إصدار الكتاب بسنة واحدة ظهرت  أول مدرسة لتعليم البنات "السيوفية"...بدأت الدراسة بالمدرسة السيوفية وكانت داخلية مجانية وبقوام 15 معلمة منهن الناظرة واثنتان من الأجنبيات كما بدأت بخمس تلميذات وكانت أعمار التلميذات تتراوح بين السابعة والخامسة عشرة، تزايدن بعد ذلك فوصلن لمائتى طالبة تهيأت لهن أسباب الراحة.. .من مأكل ومشرب وملبس طوال السنة الدراسية حتى آخر السنة، ونطرا لتشجيع الخديو إسماعيل لفكرة تعليم البنات وتشجيع زوجته للأسر المصرية الراقية علي إرسال بناتها إلي المدرسة فقد أرسلت بعض هذه الأسر بناتها للدراسة مما أدى إلى نجاح التجربة.

وتعلمت  لطالبات  القراءة، الكتابة، ودرسن  الحساب، الرسم، الجغرافيا، الموسيقى أشغال الإبرة، الطبخ، الغسيل، التدبير المنزلى بالإضافة للغتين التركية والفرنسية والقرآن الكريم للمسلمات.

وظلت المدرسة فى مكانها بالسيوفية وكانت القيمة الإيجارية لمبناها ستة جنيهات يدفعها ديوان المدارس لديوان الاوقاف، ثم تنازل ديوان الأوقاف لديوان المدارس عن الإيجار نظير قيام المعارف بما يلزمها من ترميمات.

وحدثت نكسة للمدرسة فى عام 1880 إثر خلع الإنجليز للخديو إسماعيل ورحيله مع زوجاته فحرمت المدرسة من مؤسستها وتأثرت بما حدث من اضطراب فى البلاد فتحولت إلى ملجأ لليتيمات وبنات الطبقات الفقيرة وهبط عدد تلميذاتها إلى مائة تلميذة و6 معلمين ومعلمات.

وفى سنة 1889تسلمتها نظارة المعارف من الأوقاف، وأطلقت عليها اسم المدرسة السنية نظرًا للتعديلات والانظمة التى جعلتها فى مرتبة أعلى مما كانت عليه من قبل وجعلتها نظارة المعارف نواة أولى لنظام عام لتعليم الفتيات فى مصريضم التعليم الابتدائى وقسم المعلمات.

وكما طالب رفاعة  الطهطاوى بتعليم البنات..نادى أيضا بحقها فى الخروج للعمل قائلآ :«إن كل ما تطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة»، هذا إلى جانب قوله أن العمل يصون المرأة عما لا يليق بها ويقربها من الفضيلة.

لم يكن رفاعة الطهطاوى مناصرا للمرأة فقط.. فمنذ عودته من باريس، مفعما بالأمل، وما تمكن من تحصيله من علوم في فرنسا، تبنى مشروعا تنويريا كاملا .. اشتغل بالترجمة في مدرسة الطب، ثم عمل على تطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية، ومن أعظم إنجازاته العلمية افتتاح مدرسة الترجمة عام 1835، التي صارت فيما بعد مدرسة الألسن، وعين مديرا لها، بجانب عمله فيها مدرسا.

مشروع رفاعة الطهطاوى الثقافي الكبير فى مصر ،وضع الأساس لحركة النهضة العلمية في تلك الفترة، فقد عمل على ترجمة الفلسفة والتاريخ الغربى، ونصوص العلم الأوروبر المتقدم، بالتزامن مع جمع الأثار المصرية القديمة و استصدار أوامر لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع.

رفاعه رافع الطهطاوى رائد التنوير كان صاحب مبادرة الحفاظ على الاثار المصرية، حيث أطلق مبادرة أن كل من وجد شيئا قديما أن يقدمه لمدرسة الألسن التى أسسها وهذه هى النواة الحقيقية لإنشاء المتحف بل كانت النواة الحقيقية لصدور أول مرسوم فى مصر للحفاظ على الآثار المصرية.

وهاجم  الطهطاوى نقل مسلة الكرنك لباريس والتى أهداها محمد على باشا لفرنسا حيث كان الوحيد الذي شعر بقيمة تراث بلده فى وقت لم تكن فيه صحافة، ولم يكن فيها معارضون حيث كان محمد على باشا يمسك مقاليد الأمور،  فالمعارضة ليس من مصلحتها أن تخالف أوامر ولى النعم  إلا إن رفاعة الطهطاوى كان يملك الكثير من الشجاعة وعارض فى وقت عزت فيه المعارضة.

وأكد روبرت سوليه فى كتابه "الرحلة الكبري للمسلة"، أن كتاب رفاعة الطهطاوى والذي تم نشره عام 1834م لمشاهداته عن باريس، يحتوى على سطور جريئة، فكتب رفاعة: "إن الفرنجة المنبهرين بغرابة تلك المسلات، قاموا بنقل اثنتين منها إلى بلدهم، إحداهما إلى روما فى وقت سابق، والأخري إلى باريس فى وقتنا الحالى، بناء على الكرم الفائض لولى النعم أى محمد على باشا"ووصف قيام الأجانب بأخذ الآثار المصرية لأوطانهم بطريقة السلب والنهب"، مؤكدا أنها تشبه سلب البعض مصوغات غيرهم فهى عملية نهب واضحة لا يلزم لها أى إثبات"، وقد استمر الشيخ رفاعة فى رفضه لنهب الآثار حتى تم إصدار مرسوم من الدولة فى 15 أغسطس عام 1835م؛ للحفاظ على التراث المصرى.

 

وكانت تحذيرات رفاعة لها صداها، حيث قررت الحكومة منع تصدير الآثار لخارج، كما حددت مكانا فى القاهرة لمخزن للآثار تحول فيما بعد لمتحف ، إلا إن القانون كان يطبق بطريقة متسامحة لدى محمد على باشا وخلفائه من بعده ،أما المحافظون على التراث المصرى أمثال رفاعة الطهطاوى، فقد كان عليهم مراقبة الحاكم حتى يمنعوه من الإسراف فى التساهل فى نهب الكنوز القومية وتصديرها للخارج .وظل جهد رفاعة الطهطاوي في تنامي مستمر، وأنشأ أقساما متخصصة للترجمة مثل أقسام الرياضيات والطبيعيات والإنسانيات، كما أنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية.