الخميس 2 مايو 2024

الطهطاوي والغرب.. اقتباس لا تقليد


الطهطاوى

مقالات11-8-2023 | 10:35

حسن حافظ

 

  • قدم الطهطاوى، الذي يعد بداية النهضة العربية، إجابات حقيقة بأن نقف أمامها عند التعرض لملف النهضة والتعامل مع الغرب والتعاطى مع المنتج الحضارى المستورد
  • نهل رفاعة من التقدم العلمى عندما زار باريس، وبعد عودته إلى مصر تولى قيادة روح جديدة فى مصر لا تستنكر للتراث وماضيه ولكنها لا تقف أمامه موقف الجمود والتقليد
  • اهتمام الطهطاوى بتاريخ مصر القديم والتاريخ الإسلامى؛ يعبر عن وجهة نظر عميقة للتاريخ تقوم على فهم أن المصرى المعاصر يستقى تراثه من رافدين

 

منذ أن ضرب الغزو الفرنسى مصر 1798، والعلاقة إشكالية بين المجتمعات العربية والغرب ممثلا فى الدول الاستعمارية أساسا، إذ شكل دخول العرب في المنظومة العالمية الجديدة بداية من القرن التاسع عشر من موقع التابع مأزقا نفسيا للنخب الثقافية التي تعاطت مع الغرب على أكثر من مستوى، فالبعض لجأ إلى التقليد الأعمى والنقل بلا تحفظ، باعتبار أن لا حل للتقدم وطريق إلا ما يقدمه الغرب، والبعض لجأ إلى التقوقع والردة الحضارية لحماية الذات من الانسحاق أمام الآخر الغربى ولكن النتيجة تعميق التأخر الحضارى، بينما تقدم فريق ثالث فرأى أن الاقتباس من الغرب لابد أن يتم فى الأمور العلمية والتكنولوجية مع إحياء الجوانب المبدعة من التراث المحلى.

وأمام هذه الحيرة وتضارب المسارات على مدار قرنين من الزمن، لا يزال اسم رفاعة رافع الطهطاوى الذى رحل عن عالمنا قبل 150 عاما وتحديدا في مايو 1873م، مطروحا فى قلب هذا النقاش المحتدم والذى استغرق أجيالا متعاقبة من المثقفين، فالرجل الذى يعد بداية النهضة العربية قدم إجابات حقيقة بأن نقف أمامها عند التعرض لملف النهضة والتعامل مع الغرب والتعاطى مع المنتج الحضارى المستورد.

فتجربة الطهطاوى قائمة على إمكانية الاقتباس العلمى والفكرى من أى مصدر خارجى، دون الوقوع فى فخ التقليد والاتباع الأعمى، ومن جهة أخرى التمسك بالتراث الذاتى للحضارة التى انتمى لها على مختلف طبقاتها الحضارية، والعمل على استعادة الجوانب الإيجابية لهذا التراث من أجل حماية الهوية من الانسحاق أمام الآخر من ناحية، والعمل على خلق تجربة حضارية جديدة تبنى على منجز الآخرين وتستفيد منه، وتمزج ذلك كله مع تراثها لتقدم فى النهاية تجربة حضارية تعانق المستقبل، ولا تخاصم الماضى.

اسم رفاعة رافع الطهطاوى سيطرح نفسه بقوة على الجميع، فهذا الشاب القادم من الريف المصرى، والذي بدأ أولى خطواته العلمية فى الأزهر، لم يقف موقف الجمود أمام الجديد، بل نهل من التقدم العلمى. الحاصل فى أوروبا عندما زار باريس، وبعد عودته إلى مصر تولى قيادة روح جديدة فى مصر لا تستنكر للتراث وماضيه ولكنها لا تقف أمامه موقف الجمود والتقليد الأعمى، ولا تنبطح أمام الغرب الأوربى ومنجزه العلمى، ولكنها تنقل منه خلاصة علمه وفكره وتسعى لزرعه فى تربة مصرية خصبة، قدم النموذج الرافض لصراع الحضارات وقدم رؤية للاستفادة من منجز الآخر الحضارى. كان الطهطاوى المفكر الأول فى مصر الحديثة والرجل الذى شق الطريق لكل من جاء بعده، وقدم الإجابة التى انحرف البعض عنها.

في الأزهر الشريف التقى الطهطاوى بأستاذه العلامة حسن العطار، الذى يعد واحدا من أهم الشخصيات التي تركت أثرها فى تكوين الطهطاوى، إذ أولى العطار عناية خاصة للطهطاوى بعدما لاحظ فيه علامات النبوغ، فكان للطهطاوى "فضيلة الامتياز عند الأستاذ العطار عن سائر طلبته، وكثيرًا ما كان يلازم بين الأستاذ المذكور في غير الدروس ليلتقى عنه علوما أخرى كالتاريخ والجغرافيا والأدب"، بحسب ما يذكر السيد صالح مجدى كاتب سيرة الطهطاوى وتلميذه.

وأدرك العطار أن هناك مسؤولية تاريخية على العلماء، بعدما لمس بنفسه البون الواسع بين أحوال الفرنسيين الذين جاءوا بعلوم حديثة ومعارف مختلفة، وبين أحوال المصريين والشرق المسلم عموما، ولأنه أدرك من البداية أن الصراع الحضارى لا يحسمه السلاح بقدر القدرة على تطويع المعارف الحديثة، فقد قرر منذ البداية أن يوسع أفق تلاميذه ويدفع بهم للنهل من كتب التراث من ناحية مع مزجها بكتب العلوم في أحدث صورها فى أوروبا، لذا عندما طلب منه محمد على باشا اختيار أحد تلامذته لإرساله إمامًا لأول بعثة علمية كبيرة إلى فرنسا سنة 1826، وقع اختيار حسن العطار على تلميذه النجيب رفاعة الطهطاوى ليكون عين العطار لرؤية ما في فرنسا من علوم جديدة، لذا طلب من تلميذه أن يسجل كل ما يرى في بلاد فرنسا، لكن الأغلب أنه كان تلميذا ضمن تلاميذ البعثة كما يتضح من تتبع كلام الطهطاوى نفسه فى كتاب رحلته.

عندما زار الطهطاوى فرنسا وضع نصب عينيه أن ينقل أسباب النهضة الأوروبية إلى المصريين، كأنه يسعى لنقل مشعل الحضارة من أوروبا إلى مصر لتعود كما كانت منارة العلم، لذا يقول في (تخليص الإبريز فى تلخيص باريز): "فإذا نظرت بعين الحقيقة رأيت سائر هذه العلوم المعروفة معرفة تامة لهؤلاء الأفرنج، ناقصة أو مجهولة بالكلية عندنا، ومن جهل شيئًا فهو مفتقر لمن أتقن ذلك الشىء".

هنا وضع الطهطاوى يده على مكمن الأزمة، فى تراجع العلوم فى مصر والشرق المسلم عن أوروبا، ورأى أن النهضة لا تتحق إلا عبر نقل هذه العلوم وزراعتها فى البيئة المصرية، لذا تعلم الطهطاوى الفرنسية ليعرف تفاصيل الحياة العلمية فى فرنسا على أصولها، وبدأ يسجل تفاصيل رحلته في كتابه الأشهر (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز)، إذ درس الكثير من العلوم وبدأ فى عملية الترجمة لبعض هذه الكتب من الفرنسية إلى العربية خلال إقامته فى فرنسا التى استمرت لمدة خمس سنوات، وحصل فيها الكثير من العلوم وبدأت تختمر فى ذهنه صورة واضحة عن أسباب تقدم الدول الأوروبية، ومكامن القوة التى يجب أن ينقله إلى مصر.

عاد الطهطاوى إلى مصر 1831، فصدر أمر الباشا محمد علي بتعيينه مترجما فى مدرسة الطب، فكان أول مصرى يحصل على هذا المنصب، وتنقل بين الكثير من الوظائف ذات الصلة بالتدريس والترجمة، وترجم الكثير من كتب الجغرافية في تلك الفترة، حتى افتتحت مدرسة الترجمة سنة 1835، والتى عين الطهطاوى مديرا لها، وهى المدرسة التي سرعان ما تغير اسمها إلى مدرسة الألسن، وتحولت الأخيرة إلى شعلة نشاط بفضل جهود الطهطاوى، يقول عن هذه المؤسسة الدكتور جمال الدين الشيال فى كتابه (رفاعة الطهطاوى: زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد على): "عاشت مدرسة الألسن نحو الخمسة عشر عاما بدأت فيها تسيطر على شؤون الثقافة العامة فى مصر، وأنتجت في إبانها الإنتاج العلمى الوفير، فلما ولى العرش عباس الأول -ولم يكن على انسجام مع رجال جده وعمه وخاصة رفاعة- أخذ يسعى سعيه للقضاء على هذه المدرسة"، ثم نجد عباس باشا يتخلص سريعا من الطهطاوى بإبعاده إلى السودان ليترأس مدرسة الخرطوم الابتدائية سنة 1849م.

عاد الطهطاوى من السودان بعد إقامة استمرت لثلاث سنوات، بعدما رحل عباس باشا وتولى سعيد باشا حكم مصر، الذى بدأ فى تقريب الرجال الذين أبعدهم سلفه، لذا عهد إلى الطهطاوى برئاسة المدرسة الحربية وهو يحمل رتبة الأميرآلاى واستمر فى وظيفته تلك حتى العام 1861، عندما ألغيت المدرسة، ليظل الطهطاوى بلا عمل حتى تولى إسماعيل باشا أمور البلاد، والذى أعاد قلم الترجمة من جديد برئاسة الطهطاوى، الذى امتد نشاطه فى هذه الفترة إلى تنظيم المدارس بعدما عين عضوا دائما بـ "قومسيون المدارس"، وإلى هذه الفترة يعود تأليفه لكتابه النحوى (التحفة المكتبية في القواعد والأحكام والأصول النحوية بطريقة مرضية)، بهدف مساعدة الطلبة على تعلم النحو، ولما لم يجد ما كتب مناسبة للمطالعة بين يدى الطلاب ألف كتابه (مباهج الألباب المصرية فى مناهج الآداب العصرية)، ثم كتابه (المرشد الأمين للبنات والبنين)، ونرى فى الكتاب الأخير دعوة الطهطاوى المبكرة لتعليم البنات.

كما بدأ الطهطاوى فى تنفيذ فكرته لكتابة تاريخ مصر من أقدم العصور حتى عهده، تحت عنوان (أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل)، لكنه لم يتم إلا الجزء الأول منه والخاص بتاريخ مصر القديمة، كما ألف كتابا تاريخيا آخر بعنوان (نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز) وهى فى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نشرها مسلسلة في مجلة (روضة المدارس) التى تولى رئاسة تحريرها منذ صدورها.

ويرى الدكتور محمود فهمى حجازى فى كتابه (أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي)، أن الأخير نجح فى أن يؤصل التأليف التاريخى بالمنهج الحديث فى مصر من خلال كتابيه، خصوصا أنه اعتمد في كتابة تاريخ مصر القديمة على الكشوف الأثرية الحديثة ليكون صاحب أول كتاب عربى يعتمد هذا النهج، كما يعد كتابه عن سيرة نبى الإسلام أول كتاب في السيرة بمنهج حديث، "وبهذا يعتبر كتابه فى التاريخ القديم وتاريخ صدر الإسلام -بالإضافة إلى مراجعته لترجمة كتب مختلفة في التاريخ الأوروبى القديم- تأصيلا للبحث التاريخي في العالم العربى الحديث".

تركيبة مشروع الطهطاوى القائمة على الاقتباس لا التقليد، وإحياء التراث لا عبادته، هى فى الحقيقة الروح التى نحتاجها حاليا لمعانقة مستقبل هذه الأمة، ومن هنا نفهم أحقية الطهطاوى فى احتلال مكانته باعتباره رائد النهضة الحديثة ليس في مصر وحدها بل فى العالم العربى كله، إذ يقول فهمي حجازى: "هكذا كان الطهطاوى صورة للتحول الثقافى من الأزهر فى أوائل القرن التاسع عشر إلى الحضارة الأوروبية فى فرنسا، وكان رائد العالم العربى الحديث فى أكثر من ميدان: الجغرافيا، التاريخ، التربية والتعليم، التثقيف السياسى، كما كان أول من ترجم فى هذه المجالات وفى الآداب الأوروبية والقانون، وبهذا يعتبر الطهطاوى بحق "رائد الفكر العربى الحديث".

ويلخص الدكتور محمود أمين العالم رأيه فى مشروع الطهطاوى قائلا فى أحد دراساته: "أن رفاعة رافع الطهطاوى كان رائدًا طليعيًا من رواد النهضة الحداثية والتحديثية، داعيًا إلى تطويع الدين للاحتياجات والمنافع العصرية، والتوثيق بينه وبين المدنية الحديثة عامة، وكان العنصر المحرك الدافع فى فكره أساسًا هو العقلانية والرغبة الملحة إلى التمدن والتحضر، مستندًا في هذا إلى الدين الإسلامى دون جمود سلفى أو انغلاق شوفينى". هذه الروح التي يلخصها العالم عن مشروع الطهطاوى هى أحوج ما نحتاج إليه في اللحظة الراهنة، أن استدعاء روح مشروع الطهطاوى فى النهضة وهو رائدها الأول أمر حيوى وحتمى عندما تشرع مصر في البحث عن طريقها إلى النهضة فى القرن الواحد والعشرين.

ونرى أن اهتمام الطهطاوى بتاريخ مصر القديم والتاريخ الإسلامي يعبر عن وجهة نظر عميقة للتاريخ تقوم على فهم أن المصرى المعاصر يستقى تراثه من رافدين؛ الأول هو الحضارة المصرية القديمة، والثانى هو الحضارة الإسلامية، أى أن رائد الترجمة من اللغات الأوروبية كان على وعى كامل بأهمية استدعاء التراث والاحتفاء به، وهنا فى الحقيقة نتقابل مع منجز الطهطاوى كاملا، فالرجل يرى أن نقتبس من الغرب ما ينقصنا على صعيد الناحية العلمية مع إحياء التراث بمفهومه الشامل الذى يعطى طاقة إيجابية لهذه الأمة ويمنعها من التقليد المرضى الذى يؤدى فى النهاية للانسحاق الحضارى، لذا تظل روح مشروع الطهطاوى راهنة وتستحق أن تستعاد رغم مرور 150 عاما على وفاته.

Dr.Randa
Dr.Radwa