الجمعة 27 سبتمبر 2024

بطل الحرب وغصن السلام

4-10-2017 | 15:58

بقلم: محمد الحنفى

مع كل ذكرى تحل على استشهاده يوم النصر الأكبر.. يوم السادس من أكتوبر.. أرانى أزداد عشقا لهذا الزعيم الذى سطر بأحرف من نور تاريخا مصريا مشرفا، تتوارثه الأجيال جيلا من بعد جيل.. أرانى أزداد انبهارا بهذا البطل الذى تجرع مرارة الظلم على مدى عقود كثيرة، رغم ما حققه من انتصارات وصولات وجولات.. سبق عصره بعبقريته الفذة وحسن قراءته للمستقبل، وربما لو لم يقاطعه القادة العرب عندما عقد اتفاقية كامب ديفيد لتغير وجه التاريخ، ولأصبح للفلسطينيين دولة معترف بها من العالم كله، ولتحررت الجولان السورية التى لا تزال محتلة حتى اليوم، ولانتهى الصراع العربى الإسرائيلى إلى الأبد، لكنه عناد تدفع بعض الشعوب العربية ثمنه حتى الآن!

إنه الزعيم الراحل محمد أنور السادات الذى أعاد لنا كرامتنا وعزتنا وأرضنا المحتلة، بالحرب وبالسلام، ورغم هذا لم ينل البطل حظه من التكريم وظل مكروها من أبناء الحقبة الناصرية الذين ناصبوه العداء فى حياته وبعد مماته، ولم يعترفوا بإنجازاته، حتى نصر أكتوبر لم ينسبوه له، بل قالوا إنه نتاج لتخطيط الرئيس عبد الناصر، وأن ما فعله السادات لم يتعد قطف الثمار!

ورغم هذا لم يلتفت الزعيم الراحل لتلك المهاترات ومضى فى طريقه نحو البناء والتنمية ونثر أغصان الزيتون فى العالم.

لقد مرت حياة الرئيس الراحل بمحطات شهدت كفاحا ونضالا وحرمانا بلغ حد الشقاء، الأمر الذى زاده حنكة وكياسة، وصنع منه «داهية» فى عالم السياسة، لم لا وهو الذى اعتقل وسجن وعذب ورفت من الخدمة العسكرية فى اتهام باطل بمقتل أمين عثمان، أثبتت الأيام براءته وردت له اعتباره لينضم إلى تنظيم الضباط الأحرار ويصبح واحدا من أهم قادته، ويمهد مع رفاقه لثورة ٢٣ يوليو المجيدة، كما كان دوره محوريا حين وظف علاقته ببعض رجالات القصر المقربين من الملك فاروق لخدمة تنظيم الضباط الأحرار ومدَّهم بمعلومات مهمة ساهمت بشكل كبير فى إنجاح الثورة التى شرف بإلقاء بيانها صبيحة الثالث والعشرين من يوليو.

ولولا براعة السادات ما كان عبد الناصر قربه إليه فى آخر سنوات حكمه ووضعه على رأس قائمة المرشحين لخلافته.

لقد امتلك الزعيم الراحل قرون استشعار جعلته من أوائل من تنبأوا بسقوط الاتحاد السوفييتى وقيل أنه نصح جمال عبد الناصر بضرورة تنوع مصادر السلاح خاصة من الغرب، حين تأكد من أن الاتحاد السوفييتى يماطل فى إعطائه أسلحةً هجومية من النوع الذى يمكنه من تحرير الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى ٥ يونيو١٩٦٧، ومن هنا جاء تحريض عبد الناصر لعدد من الحكام العرب وعلى رأسهم الرئيس القذافى الذى حصل على طائرات الميراج من فرنسا، كما حصلت كل من السعودية والعراق على مقاتلات غربية أصبح لها دور فيما بعد فى حرب أكتوبر، ولتأكيد تلك الرواية يحكى البعض أن جمال عبد الناصر فى إحدى لحظات الغضب من السوفييت قال: «أنا سأجيب لهم اللى يعرف يتعامل مع الغرب» وكان يقصد بذلك أنور السادات!

وفى الوقت الذى كان العالم كله يرى أن هناك قوتين عظميين تحكمه، كان السادات يستنكر ذلك ويؤمن بأن هناك قوٌة دوليةٌ واحدة هى الولايات المتحدة فقط!.

لهذا السبب بدأ أنور السادات حقبة رئاسته لمصر انطلاقًا من هذه القناعة، فأخذ يبحث عن طرق لفتح قنوات اتصال سرية أو معلنة مع الغرب وربما مع الولايات المتحدة مباشرة، ومن يقرأ مذكرات الدكتور مراد غالب الذى كان سفيرًا لمصر فى الاتحاد السوفييتى لفترة طويلة حتى صار من أكبر الخبراء فى شؤونه يدرك نفاذ بصيرة أنور السادات السياسية فى هذه المسألة لا سيما أن عددًا من القادة السوفييت كانوا منذ الستينيات قلقين على مستقبل الاتحاد السوفييتى بسبب تأخره التكنولوجى والاقتصادى، وحتى لا يزايد عليه البعض..هناك أدلة قوية على أن عبد الناصر طرق أبواب الغرب والأمريكان سرا وتحديدا عقب نكسة ٦٧ لكن محاولاته باءت بالفشل.

إن حرب السادس من أكتوبر كانت نتاجا خالصا لإعداد وتخطيط وتنفيذ أنور السادات وقادة القوات المسلحة الذين اختارهم بنفسه بعد ثورة التصحيح فى مايو عام ١٩٧١، ولم يكن أبدا مجرد قاطف لثمرة جهود عبد الناصر كما ادعى الناصريون.

إن مفاتيح نصر أكتوبر كانت فى رأس السادات وحده وأكد ذلك فى مذكراته ومنها أنه غيَّر ساعة الصفر عدة مرات على مدى سنوات، حتى استقر على يوم السادس من أكتوبر الموافق العاشر من شهر رمضان المبارك، إدراكا منه بأن الحرب خدعة، ولم يفش ذلك السر إلا لأقرب المقربين من قادة الجيش المصرى وبالتنسيق مع الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد والعاهل السعودى الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز الذى لعب دورا تاريخيا فى هذا النصر العظيم.

وفى أحد حواراتى معها أقسمت السيدة جيهان السادات بأنها لم تكن تعلم بموعد ساعة الصفر إلا من خلال البيان رقم واحد الذى أذيع عبر الراديو فى الثانية من بعد ظهر السادس من أكتوبر، وأن الرئيس السادات خرج فى ذلك اليوم من بيته مبكرا كعادته دون أن تظهر عليه أية علامات تشير باحتمالات قيام الحرب المنتظرة التى حلم بها المصريون على مدى ست سنوات كاملة من الحزن والانكسار فى وقت لم يفاجئ فيه العدو الإسرائيلى وحده بذلك الموعد بل فاجأ به العالم كله بما فى ذلك الشعب المصرى نفسه، وتلك قمة المكر ومنتهى الدهاء من رجل عسكرى بارع ورجل سياسة داهية!

لقد تحمل الرئيس السادات الكثير من الإهانات والنقد اللاذع والهجوم الشرس والغبن من داخل مصر وخارجها منذ تولى حكم البلاد فى الخامس عشر من شهر أكتوبر عام ١٩٧٠ حتى حباه الله بالنصر الأكبر وجعلنا نمضى مرفوعى الرأس .

ولم يهنأ الرئيس بفترة الهدوء كثيرا.. فبعد مرور ٤ سنوات فقط على نصر أكتوبر هبت عاصفة قاسية من الهجوم على السادات، عندما فجر قنبلة الذهاب إلى إسرائيل ومد يده للسلام مع إسرائيل بقراره الجرىء الذى أدهش العالم.

وكانت نقطة البداية من خطابه أمام مجلس الشعب فى افتتاح دورته يوم ٩ نوفمبر١٩٧٧الذى قال فيه “إننى أعُلن أمامكم وأمام العالم إننى على استعداد للذهاب حتى آخر العالم من أجل تحقيق السلام.. بل إننى أُعلن أمامكم وسوف يدهشون فى إسرائيل وهم يسمعون ذلك.. إننى على استعداد للذهاب إلى القدس ومخاطبة الإسرائيليين فى عقر دارهم فى الكنيست الذى يضم نواب شعبهم من أجل تحقيق السلام».

وقامت الدنيا ولم تقعد.. وأصابت الصدمة والذهول البعض، ولم يصدق مناحم بيجين ما سمعه، وقرر باسم الحكومة الإسرائيلية إرسال دعوة للسادات عن طريق السفير الأمريكى.

وقتها انصبت اللعنات على السادات واتهم بالخيانة والعمالة وانقسم الرأى العام العربى ولا يزال إزاء هذه الزيارة، البعض نظر إليها على أنها شق للصف العربى وخذلان لرفقاء حرب وطعن فى ظهر أشقاء ساندوا مصر فى حرب ١٩٧٣ بالعتاد الحربى والمال وسلاح البترول.

فى حين نظر إليها البعض الآخر على أنها بُعد نظر، وتفكير سابق للعصر، وقراءة واعية لخريطة القوى بعد هزيمة ١٩٦٧ وبعد عوامل الضعف التى بدأت تنخر فى جسد الحليف السوفييتى، وبعد التوصل إلى قناعة أكدتها حرب ١٩٧٣ مفادها «استحالة» تحقيق نصر عسكرى حاسم على إسرائيل بسبب قوتها لا سيما النووية منها، فضلا عن الدعم الأمريكى السياسى والعسكرى والمالى اللامحدود.

وفى التاسع من شهر ذى الحجة عام ١٣٩٧هـ الموافق السبت ١٩ من نوفمبر١٩٧٧، وبينما جموع المسلمين وأفئدتهم وعقولهم معلقة بجبل عرفات والمشعر الحرام فى مشهد يباهى به الله سبحانه وتعالى ملائكته، كانت أنظار العالم وآذانه مشدودة إلى حدث فريد وعجيب احتبست فيه الأنفاس وساد الصمت المطبق والسكون الرهيب إلا من صوت باب طائرة يُفتح، والرئيس الراحل أنور السادات يهبط من سلمها ورئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجين واقف فاتحا ذراعيه مرحبا بضيفه الكبير، بعدما كان السادات العدو الأول لهم وأول من أذاقهم مرارة الهزيمة فى ٦ أكتوبر ١٩٧٣وبجوار بيجين وقف موشى ديان، وأرييل شارون، وإسحق شامير رئيس الكنيست، وعلى يساره وقفت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة التى عبرت عن دهشتها الشديدة حين رأت السادات قائلة «هذا شىء لا يصدقه عقل»!

وعندما سئل الزعيم الراحل عن أسبابه فى اتخاذ ذلك القرار الصعب، أجاب بأن بعض إخوانه من القادة العرب خذلوه عندما طلب مساعدتهم لإعادة تعمير البلاد وأن أحدهم كان يفضل التبرع بملايين الدولارات لحديقة حيوانات لندن ويبخل على مصر، وهم الذين حققوا ثروات طائلة بعد حرب أكتوبر التى كانت سببا رئيسا فى اشتعال أسعار النفط، فما كان منه إلا أن غير وجهته وفضل حقن الدماء وإسدال الستار على صراع مصرى إسرائيلى استمر على مدى ٣٠ عاما!

وكانت اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل والتى تم التوقيع عليها فى ١٧ سبتمبر ١٩٧٨ بين السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجين برعاية الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر والتى جاءت بعد ١٢ يوما من المفاوضات فى منتجع كامب ديفيد الرئاسى بولاية ميريلاند القريب من العاصمة الأمريكية واشنطن.

وبهذه الاتفاقية نجح الرئيس السادات فى استرداد الأرض المصرية المحتلة دون إراقة نقطة دماء واحدة من شباب مصر، وأكمل من بعده الرئيس الأسبق حسنى مبارك تنفيذ الاتفاقية واسترد آخر شبر من سيناء الغالية فى التاسع عشر من مارس عام ١٩٨٩ لتنعم بلادنا بسلام دائم مع إسرائيل، وتثبت الأيام أن ذلك الرجل كان سابقا لعصره وقارئا جيدا للمستقبل، وكان نوعا فريدا من القادة الأذكياء الذين غلبوا مصالح الوطن على مصالحهم.

ويشاء القدر أن تواكب ذكرى رحيل البطل ذكرى النصر العظيم، والمسافة الفاصلة بينهما ٨ سنوات.. وكأن الله أراد ذلك حتى لا ينساه أحد.. فكلما احتفل الشعب بنصر أكتوبر ترحم عليه.. رحم الله الزعيم البطل محمد أنور السادات.

وفى يوم السادس من أكتوبر عام ١٩٨١ وأثناء حضوره العرض العسكرى كعادته فى عيد النصر من كل عام صوب مجرمون خونة من داخل صفوف الجيش بقيادة الضابط خالد الإسلامبولى نيرانهم تجاه صدر الزعيم ليواجه الموت واقفا بشجاعة الأبطال، وتخسر مصر قائدا فذا سيظل التاريخ يذكره بطلا للحرب وغصنا للسلام!