الثلاثاء 21 مايو 2024

أيام أكتوبر بين نيكسون وكسينجر «عشب النيكل» الجسر الجوى الأمريكى الذى أبكى جولدا مائير

4-10-2017 | 16:24

تقرير : نهال الشريف

عندما بدأت حرب السادس من أكتوبر ١٩٧٣ كان الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون يمر بأوقات عصيبة. كانت إدارة الرئيس آخذة فى التفكك ولم يكن نيكسون قادراً على أداء دوره كزعيم لأمريكا، وللعالم الحر، وذلك بعد أن أثقلته سنوات الحرب فى فيتنام و١٥ شهراً من التحقيقات بسبب فضيحة ووترجيت ومعاناته من الأرق ليالى طويلة ولجوئه للشراب بشكل مفرط..

أدت هذه الحالة السيئة للرئيس الأمريكى إلى تزايد سيطرة وزير الخارجية هنرى كيسنجر على السياسة الخارجية الأمريكية ومعه ألكسندر هيج كبير العاملين فى البيت الأبيض أو الأمين العام لمقر الرئاسة. وقد بدا للكثيرين أن هيج يتصرف كما لو كان الرئيس الأمريكى.

وعلى حد قول ويليام لويد سيترمان أحد خبراء الأمن القومى الأمريكى فإن هيج كان الرئيس الفعلى للولايات المتحدة. فى تلك الفترة كان نيكسون فى كثير من الأحوال لا يتلقى اتصالات هاتفية بعد منتصف الليل، إما لأنه متعب أو لأنه أفرط فى الشراب أو للسببين معاً.

الكاتب تيم واينر مؤلف كتاب «رجل واحد فى مواجهة العالم.. مأساة ريتشارد نيكسون» يقول فى كتابه إن نيكسون فكر فى الاستقالة وجاء ذلك فى حديث مسجل بين الرئيس وألكسندر هيج فى مايو ١٩٧٣ أى قبل استقالته الفعلية بـ ١٥ شهراً. كان هذا على أثر استقالة سبير آجنيو نائب الرئيس الأمريكى بعد إدانته بالرشوة والفساد.

فى السادسة صباحاً بتوقيت أمريكا تلقى هنرى كيسنجر اتصالاً من إسرائيل يفيد بقيام كل من مصر وسوريا بشن هجوم متزامن على إسرائيل ولكن كيسنجر لم يبلغ الرئيس نيكسون بالأنباء إلا بعد ٣ ساعات ونصف الساعة.

ويقول المؤرخ الرئاسى روبرت داليك فى كتابه «نيكسون وكيسنجر شركاء فى السلطة» إن العلاقة بين الرجلين كانت معقدة برغم وجود صفات مشتركة بينهما مثل الاضطراب والدهاء والقوة والقلق، الكتاب نشرت مقتطفات منه فى مجلة فاينتى فير الأمريكية ومن أهم النقاط التى جاءت فيه أن قوة كيسنجر تزايدت مقابل تراجع دور الرئيس بسبب تورطه فى ووترجيت وأن نيكسون كان يرى أن كيسنجر ينبغى ألا يكون له دور فى معالجة سياسات الشرق الأوسط. وينقل عن نيكسون قوله «أى شخص يهودى لا يمكنه أن يعالج مشكلة الشرق الأوسط ومهما كان كيسنجر منصفاً إلا أنه بلا شك متأثر بما حدث. ضع نفسك مكانه يا إلهى.. لقد قتل شعبه هناك.. ٥ملايين منهم أحرقوا فى أفران الغاز كيف يكون شعوره حيال ذلك».

المؤرخ داليك استغرق ٤ سنوات فى مراجعة وثائق بالأرشيف الرئاسى الأمريكى وراجع ٢٠ ألف صفحة من الوثائق المكتوبة وتفريغ للمكالمات التليفونية ومئات الساعات من الشرائط المسجلة ومليون وثيقة من وثائق الأمن القومى الأمريكي. ومما توصل إليه داليك أن كيسنجر أبلغ ألكسندر هيج بنشوب الحرب قبل إبلاغ الرئيس بساعة كاملة.

فى ذلك اليوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ كان هيج مع نيكسون فى مدينة كى بيسكين بولاية فلوريدا وقال له كيسنجر نحن من يسيطر على الوضع هنا، كما طلب منه أن يكذب على الصحافة وأن يخبرهم أن الرئيس كان على اطلاع كامل بالأمر منذ السادسة صباحاً، وذلك حتى لا يبدو أن الرئيس ليس على علم بمجريات الأمور. وعندما اتصل كيسنجر أخيراً بالرئيس فى الساعة ٩ و٢٥ دقيقة طلب منه الإشارة إلى أنه قد أطلعه على الأمر قبل ذلك.

صبيحة يوم السادس من أكتوبر ١٩٧٣ لم تكن هناك أية تقديرات لدى الاستخبارات الأمريكية «سى أى إيه» تفيد باحتمال نشوب حرب وبالتالى لم تكن هناك إمكانية لحماية إسرائيل من تلقى الهجوم المصرى - السوري.

تقرير الاستخبارات فى ذلك اليوم جاء فيه أن الطرفين العربى والإسرائيلى يشعران بالقلق تجاه كل منهما الآخر من حيث القوات والأنشطة العسكرية ولكن لا يبدو أن أياً من الطرفين سيبدأ بالهجوم.

هذا التقدير الخاطئ حدث برغم أن إحدى وثائق يوم ٦ أكتوبر ذكرت أن ست طائرات عسكرية سوفييتية طارت إلى دمشق فى اليوم السابق ٥ أكتوبر - بالإضافة إلى رحلتى ذهاب وعودة إلى القاهرة وهى رحلات مخصصة للشخصيات الهامة. كما ورد فى وثيقة أخرى أن تلك الرحلات خصصت لإجلاء عائلات السوفييت، ووفقاً لرئيسة وزراء إسرائيل - فى ذلك الوقت - جولدا مائير لم تكن الحكومة الإسرائيلية تشعر بالقلق من احتمال التعرض للهجوم، وفى تقدير إسرائيل كانت المناورات المصرية عادية وكانت المناورات السورية دفاعية.

فى تحديث للمعلومات فى اليوم التالى تلقت الولايات المتحدة معلومات من مصدر موثوق بأن مصر وسوريا تخططان لهجوم متزامن عبر قناة السويس وهضبة الجولان قبل حلول ليل يوم السادس من أكتوبر. وهنا قام كيسنجر بتحويل الرسالة إلى البيت الأبيض لما يعرف بغرفة الأزمة وكان هذا فى السادسة صباحاً بتوقيت أمريكا الواحدة ظهراً بتوقيت إسرائيل. ولكن الهجوم بدأ بعد ساعة واحدة فقط وليس قبل حلول الظلام.

وفى كتاب تيم واينر «مأساة ريتشارد نيكسون» يقول إنه فى اجتماع طارئ للإدارة الأمريكية يوم ١٨ أكتوبر قال كيسنجر إن كل المعلومات التى كانت لدينا أكدت أنه لن يحدث هجوم وتساءل لماذا لم تتوقع إسرائيل نشوب الحرب.. ولكنه أجاب بنفسه على السؤال.. قال كيسنجر إن إسرائيل اعتقدت أن العرب ضعفاء وأنه لا خطر على إسرائيل ولذلك فسروا المعلومات التى وردت إليهم على هذا الأساس.. ونحن - الأمريكيين - فعلنا نفس الشىء.

المثير للدهشة أن كلاً من السوفييت والسعوديين حذروا واشنطن من أن الحرب ستندلع فى الشرق الأوسط.. فقد التقى ويليام كيسى نائب وزير الشئون الاقتصادية ومساعده ويليس آرمسترونج مع وزير الخارجية السعودى فيصل بن عبدالعزيز ووزير البترول السعودى أحمد زكى اليمانى على مائدة غداء.. ويقول آرمسترونج أنه يتذكر جيداً ما قاله الجانب السعودى «ما لم تفعلوا شيئاً للسيطرة على إسرائيل ستكون هناك حرب فى الشرق الأوسط وإذا ما وقعت الحرب سنقوم بحظر البترول عن الولايات المتحدة».. ويضيف آرمسترونج أنه عندما سأل ويليام كيسى هل نكتب ذلك فى التقرير أجاب كيسى لن يصدقنا أحد.

ولكن فى واقع الأمر هذا هو ما حدث.. فقد تضاعفت أسعار البترول خمس مرات بعد وقت قصير من وصول شحنات السلاح الأمريكى لإسرائيل قبل أن يتم فرض الحظر الكامل على البترول.

مع استمرار الحرب ازداد تدخل السوفييت فى الشرق الأوسط عن طريق تزويد حلفاء موسكو فى القاهرة ودمشق بالسلاح.. وأرسل الرئيس السوفييتى سلسلة من الرسائل الحادة إلى نيكسون فى منتصف أكتوبر.. الأولى اقترح فيها العمل الدبلوماسى المشترك لوقف الحرب.. والثانية اقترح فيها قوة عسكرية سوفييتية أمريكية تعمل كقوة لحفظ أو مراقبة السلام.. وبعد التوصل إلى وقف لإطلاق النارلم يستمر بعد أن خرقته إسرائيل بمهاجمة الجيش المصرى، جاءت الرسالة الثالثة من بريجينيف تحمل صيغة التهديد بأن القوات السوفييتية ستتحرك بشكل منفرد فى الشرق الأوسط.. وبالفعل كان التهديد جاداً.. حيث رصدت أجهزة استشعار أمريكية فى مضيق الدردنيل الذى يربط البحر الأسود بالبحر المتوسط تحرك سفن سوفييتية تحمل أسلحة نووية.. هذه المعلومة تأكدت بعد ٣٠ عاماً من حدوثهاعلى لسان دافيد مايكل رانسوم وهيلموت سوننفيلت اللذين عملا فى مجلس الأمن القومى الأمريكى تحت رئاسة كيسنجر.. هذه المعلومة أدت إلى تحرك كيسنجر بأقصى سرعة لإنهاء القتال.

فى اجتماع مهم فى غرفة الأزمة لم يحضره نيكسون ويقال أنه كان قد أفرط فى الشراب، كان الحاضرون هم هنرى كيسنجر ووزير الدفاع شيلزنجر والأدميرال فورار رئيس هيئة الأركان وألكسندر هيج ومدير السى أى إيه بيل كولبى واتفق الجميع على أنه لابد من عمل أى شىء يمنع المواجهة بين السوفييت والأمريكان على أرض الشرق الأوسط وإلا فإنه سيكون اليوم الأول للحرب العالمية الثالثة.. وفى تقدير كيسنجر كان السوفييت يستغلون فرصة غياب الدور الفاعل للرئيس نيكسون.. واتفق الحاضرون على عدم السماح لهم بذلك ولهذا تم رفع درجة الاستعداد النووى للمستوى الثالث وهى المرحلة ما قبل الحرب النووية الفعلية مباشرة وبرغم استمرار كيسنجر فى التأكيد على أن وضع الدولة فى حالة التأهب القصوى هو مسئولية نيكسون إلا أن المؤرخ داليك يشير فى كتابه لعدم وجود أى وثيقة تظهر بتوقيع للرئيس نيكسون على ذلك القرار.

بناء على القرار بغض النظر عمن أصدره تم إرسال ٣ سفن أمريكية إلى البحر المتوسط.. وتم تحريك الوحدة ٨٢ المحمولة جواً و٧٥ قاذفة B.٥٢ للقنابل النووية هذا بخلاف تحريك عدة آلاف من الجنود والبحارة والقوات الجوية.. وأراد الأمريكان بذلك إيصال رسالة للسوفييت بأنهم يأخذون الأمر على محمل الجد.

برغم كل ما يقال عن الرئيس الأمريكى نيكسون وعن تراجع دوره بسبب مشاكله الداخلية إلا أنه فى نهاية الأمر كان هو الرجل الذى أنقذ إسرائيل من الضياع الكامل، فقد توجه إلى الكونجرس لطلب إرسال معونات استثنائية لإسرائيل وانطلقت عملية عشب النيكل كأكبر جسر جوى فى التاريخ.. شملت العملية ٥٧٦ مهمة طيران نقلت ٢٢ ألف طن من المعدات بخلاف ٩٠ ألف طن نقلت بحراً وقالت جولدا مائير إنها ما إن سمعت ببدء الجسر الجوى أثناء اجتماع لمجلس الوزراء أخذت فى البكاء.

بدأت عملية عشب النيكل يوم ١٣ أكتوبر واستمرت لمدة ٣٢ يوماً.. وكانت الطائرات تتوقف فى مطار لا جيس فى جزر الآزور للتزود بالوقود فى منتصف المسافة تقريباً بين أمريكا وإسرائيل.. ونظراً لحساسية الموقف واعتماد الدول الأوربية على بترول الخليج عملت الطائرات الأمريكية على عدم التحليق فى المجالات الجوية لأى من هذه الدول وإنما حلقت فقط فى الأجواء الدولية فوق البحر المتوسط.. واستمر عشب النيكل حتى إعلان وقف إطلاق النار فى يوم ٢٢ نوفمبر ١٩٧٣.