الأربعاء 19 يونيو 2024

يوسف القعيد يكتب: أين كنت يوم السبت السادس من أكتوبر ١٩٧٣؟!

4-10-2017 | 16:25

تعالوا نبحث عن يوميات أكتوبر، سواء فى الذاكرة التى لم تعد تتحمل ما يرد إليها والعمر له أحكامه أو فى الأوراق، ومن منا قادر على الاحتفاظ بأوراقه وترتيبها وفهرستها فى مكان أمين؟ لا الإنسان قادر ولا المكان الأمين له وجود، ولكن لأن أكتوبر حدث استثنائى يبقى له وجود استثنائى، سواء فى الذاكرة المتعبة أو وسط أكوام الأوراق المتناثرة هنا وهناك، لدرجة أن الإنسان يعيش فى عالم من الورق.

فى يوم الخميس الرابع من أكتوبر ١٩٧٣، الثامن من رمضان، فى هذا اليوم تم تسريحنا، كنا مجموعة من المستبقين بالخدمة العسكرية من القوات المسلحة، كان التسريح مفاجئاً، وغير متوقع، وقد دهشنا من القرار وحدثت لنا حالة من الاستغراب، ذلك أن قرار عبد الناصر باستبقائنا فى الخدمة العسكرية بعد الخامس من يونيه ٦٧ كان واضحا وصريحاً، لن يسرح أحد من القوات المسلحة قبل أن يتم تحرير آخر شبر من الأراضى العربية المحتلة.

ولأننا كنا نعبر بالنظرات والعيون فقط، فى تلك الفترة الزمنية التى استطالت بين يونيه ١٩٦٧ وأكتوبر ١٩٧٣، فلم يخطر ببالنا سوى أنه تم تسريحنا من الخدمة العسكرية بعد سنوات استبقاء وصلت للسبع سنوات، لم يفرح أحد منا، قلت لنفسى يومها لو جاءت المعركة سنكون قد حرمنا من المشاركة فيها، وإن لم تأت فربما كان تسريحنا مقدمة لها، فعبد الناصر كان قد رحل، والكلام عن تحرير الأرض المحتلة أصبح يراوح مكانه.

تذكرت الخبر الذى كان منشوراً فى صحف الصباح، ويقول إن القوات المسلحة سمحت للضباط بأداء العمرة، وكان هذا يحدث لأول مرة منذ صيف السابع والستين، رحنا نتكلم عن الاسترخاء العسكرى، وعن الحل السلمى، خاصة أن السنة الماضية كانت سنة الضباب، وأن الحسم تأجل ولم يكن قد عرف إلى متى سيتم تأجيل الحسم.

كان من المفترض أن نقدم أوراقنا التى حصلنا عليها من وحدتنا العسكرية إلى جهات أعمالنا المدنية لكى نعود إلى الوظيفة المدنية، بعد أن انتهينا من أداء الخدمة العسكرية، كان اليوم خميس، أى آخر الأسبوع ولذلك كان تقديم أوراقنا إلى جهات عملنا المدنية لابد وأن يتأجل لصباح السبت، وما صباح يوم السبت ببعيد، لا يفصلنا عنه سوى يوم الجمعة وهو إجازة.

ثم جاء يوم السبت السادس من أكتوبر العاشر من رمضان، يوم رمضانى، لم يكن السبت عطلة فى المصالح الحكومية مثلما هو الحال الآن، والثانية ظهراً كانت لحظة ذروة الزحام، وكنت فى ميدان التحرير أبحث عن مواصلة آمنة، لكى أصل لشارع الهرم حيث كنت أسكن.

لم يكن الاختراع الجديد المسمى الميكروباص قد اخترع بعد، ولم يكن فى شوارع القاهرة سوى الأتوبيسات، ولم يكن الأتوبيس أنواعا وأشكالا وألوانا مثلما هو الحاصل الآن، علاوة على التاكسى القديم الأسود والأبيض، وسيارات الملاكى، ولم تكن شوارع القاهرة قد عرفت هذا الكرنفال من السيارات الفارهة لأن الانفتاح «السداح مداح» حسب تعبير أحمد بهاء الدين لم يكن قد عرف طريقه لمصر بعد.

فى الثانية وخمس دقائق من السادس من أكتوبر قطع الراديو إرساله، كان الراديو المصرى سلطان الأذن المصرية والعربية، وجاءنا البيان الأول من القيادة العامة للقوات المسلحة، تكهرب الجو، سرت فى الهواء حالة كنا فى أمس الحاجة إليها، بحثت عن تليفون فى ميدان التحرير، خاطبت دار الهلال بالتحديد مجلة المصور، ورد علىّ صبرى أبو المجد، رئيس تحرير المصور، أول من يحضروآخر من ينصرف من المؤسسة كلها.

استبدلت السؤال عن الصحة والحال بأن باركت بالمعركة، عرضت العودة فوراً، قال لى تعالى ليلاً ومعك مقترحات «معركية»، لم أسمع كلامه، غيرت خططى وتغير اتجاهى، ذهبت إلى المؤسسة وكان اقتراحى قد اختمر فى ذهنى، نفذته دون عرضه على أحد، اكتشفت أن المكتبة مغلقة ولن تفتح قبل صباح اليوم التالى، توجهت إلى الأرشيف، لم يكن محمد حسن موجوداً، ولكن مصطفى نفادى كان هناك وجمعت كل ما قيل عن الجيش المصرى عبر قصاصات الصحف التى تدور حول تاريخ العسكرية المصرية، وتركت مقالاً تجميعياً نشر آخر الأسبوع فى العدد الذى خصصته مجلة المصور للعبور العظيم، وكان على غلافه وأنا أكتب اعتماداً على الذاكرة فقط صورة لدبابة تعبر قناة السويس، التقطها المصور الشجاع والجرىء شوقى مصطفى، انتهيت من مقالى التجميعى، وكان عنوانه:

- لو كان معى نصف هذا لجيش لغزوت به العالم.

وكان قائل هذه العبارة نابوليون بونابرت، عدت بعد كل هذه السنوات لنفس الفكرة، ورحت أقلب فى أوراقى وكتبى ومجلاتى بحثاً عما قيل عن الجيش المصرى، الجديد هذه المرة ما قاله الأعداء عن الأداء العظيم للجيش المصرى فى أكتوبر ١٩٧٣.

قال نابليون بونابرت بعد حضوره إلى مصر فى حملته الشهيرة، وفى أعقاب معاركه مع المقاتلين الذين دافعوا عن بلادهم ببسالة وشرف:

- لو كان عندى نصف هذا الجيش المصرى لغزوت العالم.

أفضل ما يمكن أن يقال عن جيش مصر العظيم هو ما نطق به الأعداء، لأن العدو يبقى العدو مهما تغيرت الأمور، العداء من الثوابت وما غيره من المتغيرات، لهذا علينا أن نقرأ ما قالوه عنا فى ذلك الزمان البعيد، مع إيمانى أنا الذى أكتب هذا الكلام أنهم أعداء.

أما ما قيل فيما بعد فهو كثير، وقد تجدد الكلام عن جيشنا العظيم بعد حرب السادس من أكتوبر كأنها شهادة ميلاده، قال الجنرال بوفر رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية الفرنسية:

- يوم السبت السادس من أكتوبر ١٩٧٣م اتصلوا بى وطلبوا منى التوجه لقيادة شبيبة الطلائع المحاربة ففوجئت خاصة أنه تم تسريحى قبل أسبوع فقط، وفى المرحلة الأولى ساعدت المجندين، وعندما أدركوا أن هناك ضحايا ومئات المفقودين وأننا لا نسيطر على الأمور عينونى ضابط تتبع للمفقودين بالقيادة، وعملت لمدة أسبوع فى ذلك وكان أصعب أسبوع فى حياتى، وكان أصعب شىء عندما وجدت فى موقع تجميع القتلى زميلى بالدراسة قتيلاً فعدت إلى القيادة وقلت:

- إننى غير مستعد للاستمرار فى التتبع وأريد أن أكون فى المقدمة مع المقاتلين.

وتقرر تشكيل كتيبة من طلائع الشبيبة وتطوعت لأكون مساعد قائد الكتيبة، وعلى ضفاف القناة ساعدت القائد وقابلت هناك عقيداً يبحث يائساً عن ابنه الذى كان داخل دبابة وسقطت فى المياه تجولت مع الأب لمدة ٤٨ ساعة ولم أستطع مساعدته، وقابلت كثيراً جداً من الرجال المذهولين، ورأيت قادة بوجوه هزيلة، وجنوداً فقدوا أبصارهم.

- قال الدكتور كلوت بك الطبيب الفرنسى، ومؤسس مستشفى قصر العينى، والذى كان موجوداً خلال الفترة الزمنية التى قرر فيها محمد على باشا تجنيد المصريين، وكان ذلك فى النصف الأول من القرن التاسع عشر:

- ربما يعد المصريون أصلح الأمم لأن يكونوا من خير الجنود لأنهم يمتازون بقوة الأجسام وتناسق الأعضاء والقناعة والقدرة على العمل واحتمال المشقة ومن أخص صفاتهم العسكرية الامتثال للأوامر العسكرية والشجاعة والثبات عند الخطر والتذرع بالصبر فى مواجهة الخطوب والمحن.

أما عساف يا جورى أشهر أسير فى حرب السادس من أكتوبر، قائد اللواء ١٩٠ مدرع الإسرائيلى، فقد قال:

- إن خط بارليف أصعب من خط ماجينو الفرنسى فكيف اخترقه المصريون، إن المصريين كانوا يركضون نحو دباباتنا دون وجل، وكانوا يتسلقونها ويقتلون أطقمها بالقنابل اليدوية والصواريخ.

جريدة «نيويورك تايمز» كتبت:

- معظم الحصون محاصرة وعليها أن تصمد بمفردها دون أى معاونة، إنها يمكنها أن تتلقى بعض المعاونة من سلاح المدفعية أو نقاط الطائرات، أصبحت الحصون نقاط ملاحظة وفقدت إدارة النيران، وفى الليل أقام المصريون مزيداً من الكبارى، إن أفراد سلاح المهندسين المصرى يقومون بعمل جيد للغاية ويستخدمون معدات سوفييتية، وكذلك من الإنتاج المحلى، وهناك مضخات من الإنتاج الإنجليزى وتمت إقامة عدد ١١ كوبرى معظمها فى القطاع الأوسط والقطاع الجنوبى، إن المصريين يصعبون المهمة على الطيارين الإسرائيليين بستائر الدخان التى يطلقونها كذلك يقيمون بعض الكبارى الوهمية، ويستغل أفراد المهندسين المصريين فترات التوقف عن القصف ويلقون فى الماء المعديات الحديدية ويستبدلون الأجزاء التالفة من الكبارى، وكلما زادت الإصابة يقومون بفك جزء من الكوبرى ليتم ربطه بالضفة الشرقية فيأتى الطيار الإسرائيلى فيصطاده الدفاع الجوى المصرى، إنها حرب خاسرة.

مناحم بيجين قال عن الجيش المصرى:

- لم يتصور أحد فى إسرائيل أن المصريين يمكنهم القيام بمثل هذه العملية العسكرية، ولا يسعنا الآن سوى أن نصاب بالذهول والوجوم لأننا جميعاً وقعنا فى هذا الوهم الهش الذى كان بعيداً كل البعد عن الواقع.

أما موشى ديان فقد قال يوم ١٤/١٠/١٩٧٣:

- إن حرب الشرق الأوسط حطمت أسطورة أن الجيش الإسرائيلى لا يمكن مقاومته، وأن الأرض التى احتلتها إسرائيل عام ١٩٦٧م لم تعد تشكل ضماناً لأمنها.

وإرييل شارون قال عن الجيش المصرى:

- برهن المصريون على مقدرة جنودهم على القتال وقدرة ضباطهم على القيادة وقدرتهم على استخدام أحدث الأسلحة.

لن نكتفى بالتاريخ القريب، فجيش مصر قادر على إبهار الدنيا بما يقوم به، ليس فى ميادين القتال فقط، وليس فى الحفاظ على مستوى قتالى عالٍ، ولا يقظته فى حراسة أرض الوطن، لكن قوات مصر المسلحة كانت جزءاً أصيلاً من تحديث الحياة وتطويرها، ولا يمكن أن تذهب لمكانٍ فى أرض مصر: شمالها، أو جنوبها، شرقها أو غربها، إلا وتجد مشروعات أقامتها القوات المسلحة فى كل مكان تذهب إليه، طرق، كبارى، مزارع، وأجهزة كثيرة تقدم الخدمات اليومية ليس للقوات المسلحة، ولكن لكل مصرى على أرض مصر.

تركت المقال فى السكرتارية، واتجهت إلى الشئون العامة التى أصبح اسمها فيما بعد الشئون المعنوية، أحاول الحصول على التصاريح المطلوبة من أجل عمل تحقيق صحفى عن وجبة طعام ساخنة فى رحلتها من المنطقة المركزية «القاهرة طبعاً» إلى آخر نقطة فى الجبهة، قدمت الطلب فى الإدارة بمصر الجديدة وتحركت إلى شارع الهرم، فى الليل نزل المطر غزيراً، تذكرت كل حكايات حياتنافى قريتنا عن الخير الذى تحمله الأمطار عندما تأتى وعن القحط والجفاف عندما تشح الأمطار.

وجدت صعوبة فى العودة إلى منزلى مرتين، الأولى فى العثور على أكثر من مواصلة، والثانية المسافة التى مشيتها على قدمى من محطة الأتوبيس فى شارع الهرم إلى منزلى فى محطة حسن محمد، وقد سكنت فى المنطقة وغادرتها دون أن أعرف من هو حسن محمد؟ وكان جارى فى هذه الفترة الباحث والمفكر الجميل الدكتور محمود إسماعيل.

عدت إلى البيت لأجد أن مندوب التجنيد قد ترك لى فى البيت، تحت الباب مباشرة استدعاء للالتحاق بوحدتى ابتداء من الساعة ٦٠٠ من صباح الغد، من باب الاحتياط كانت هناك إشارة على الباب الحديدة الخارجى تقول إن لى رسالة هامة تحت «عقب الباب».

نصل إلى اليوم الثالث، إنه الأحد السابع من أكتوبر الحادى عشر من رمضان، القاهرة مع أول ضوء، قطعت المسافة من شارع الهرم حتى وحدتى فى غمرة بوسط القاهرة، كانت من أعذب الرحلات، هدوء وسكون، لكن الجديد كان نظرة الناس لمن يرتدى الزى العسكرى، حب وإنسانية قرأتها فى أعين كل من شاهدونى فى هذا الصباح، فى وحدتى عرفت أن هذا التسريح المفاجئ من الخدمة كان جزءاً من خطة تمويه نادرة الحدوث، حتى لا يكتشف العدو خطط أكتوبر ويستعد لها.

كان قرار العبور العظيم أهم قرار فى التاريخ المصرى الحديث، وربما القديم والوسيط، تمكن المصريون من تكتمه وعدم إعلانه، وكانت مفاجأة العدو أكثر من مذهلة، كتبت الآن عن تجربتى فقط، المهم أن يكتب المسئولون للأجيال القادمة كيف فاجأنا العدو بهذا العبور العظيم، وكيف نجحنا فى إخفاء كل التحركات التى سبقت لحظة العبور من حائط الصواريخ للساتر الترابى؟ وكيفية التعامل معه بالمياه، وإقامة المعابر على قناة السويس التى عبرت فوقها الدبابات، كل هذا دون أن يدرى العدو ما يجرى أمامه، أن فعلوا هذا وقدموا لنا قصة التمويه على العدو، يمكن بعد ذلك أن نكتب نحن ماذا فعلنا بهذا النصر؟ إن بطولة أكتوبر الأساسية هى فى خطة الخداع الاستراتيجى التى مارستها مصر، وأخفت كل ما تقوم به عن العدو، ومن المؤكد أنه فوجئ، ثم فوجئ، ثم فوجئ بلحظة العبور العظيمة، وما كان خبر السماح لضباط القوات المسلحة لأول مرة بأداء العمرة منذ ١٩٦٧ ولا تسريح عدد من المستبقين بالقوات المسلحة ظهر الخميس إلا جزءاً من خطة عملاقة قادتها مصر سميت تاريخياً بالخداع الإستراتيجى، وهى بالفعل كانت خداعًا وكان استراتيجياً.