تمر اليوم الذكرى السابعة عشر على رحيل أديب نوبل الروائي الكبير نجيب محفوظ، والذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم عام 2006، بعد رحلة كبيرة وثرية من العطاء الأدبي والفني، و«تعد الثلاثية» أشهر أعماله الخالدة.
ارتبط اسم نجيب محفوظ بالسينما، ارتباطا وصل لحد الغرام، كما عبر في الكثير من الحوارات التي أجريت معه، وقدم للسينما والتليفزيون والمسرح العديد من الأعمال التي صارت أيقونة فنية في تاريخ الفن المصري والعربي، كما شارك في كتابة السيناريو في الكثير من الأفلام المصرية المهمة.
كان «محفوظ» يدين بالفضل دائمًا للمخرج الكبير الراحل صلاح أبو سيف، الذي التقى به وعلمه كتابة السيناريو، وأعطاه من خبرته في هذا المجال، وفتح له آفاقًا رحبة في عالم السينما ولم يبخل عنه بأسرارها.
حوار نادر لنجيب محفوظ مع مجلة الهلال
ومن هذا المنطلق، وفي حوار نادر وشامل، التقت «مجلة الهلال» في عددها الصادر في 1 سبتمبر عام 1996م، بالأديب العالمي نجيب محفوظ، الذي يعد رمزًا للعطاء الثقافي على مدار نصف قرن مضت - وما زالت أعماله الخالدة – تحقق رواجا ثقافيا وفكريا كبيرًا بين أجيال وأخرى.
تحدث نجيب محفوظ من خلال حواره الثريّ، عن علاقته بالسينما وخاصةً بصلاح أبو سيف، وعن أسأليبه الخاصة في الكتابة، وعن جائزته التي تحمل اسمه، وعن أعماله السينمائية، ومعركته مع الشاعر نزار قباني، ورأيه عن إسرائيل ومعاهدة السلام، وتنبؤاته عن حال الثقافة في مصر، وآرائه عن كُتاب المستقبل.
إلى نص الحوار:
*هل كانت علاقتك بالسينما من خلال صلاح أبو سيف فقط؟
**أنا مغرم بالسينما منذ كان عمري خمس سنوات، ولا يمر أسبوع دون أن أشاهد فيلما أجنبيا، وفيلما عربيا، بمعنى أنني من الناس الذين يحبون السينما جدًّا.
أما عملي في السينما، فكنت أعتبره إجازة من الأدب، فحينما كنت أعمل بالأدب، اتوقف تماما عن العمل بالسينما، وحينما أنتهي من كتابة كتاب، فلا مانع لدي من أن أنشغل في كتابة سيناريو مع مخرج مثل صلاح أبو سيف، حيث اعتدنا إعداد فيلم واحد كل عام.
وللسينما ميزة مهمة، هي الجزاء المادي الذي لم نتعود عليه في الأدب، لأننا في ذلك الوقت كنا نكتب الأدب ونصرف على الأدب.. ولأول مرة بعد العمل في السينما أحصل على «قرشين» بشكل جيد لكي أقوم بالصرف على الأدب!.
*أجمع النقاد على اختيارك لتكنيك جديد في كتابتك للسيرة الذاتية ما صحة ذلك؟
**لقد كتبت السيرة الذاتية هذه بعد أن انتهيت من إجراء العملية الجراحية في لندن عام 1992، وقتها لم يكن لدي موضوع معين أكتب فيه، أو رغبة في الكتابة، أشعر بالملل الشديد، فكان كل ما يخطر على بالي أقوم بتسجيله، وعدت إلى مصر لكي أنهى هذا العمل.
وبعد أن انتهيت منها قرأتها مرة واحدة، ووجدت أنني أكتبها على اعتبار أن شخصا يريد أن يملأ الفراغ الذي يحيط به، شخص في ضيق يود أن يملأ فراغ حياته، واكتشفت أنه بالإمكان إصلاح بعض الخلل بها، ولكنني قمت بقراءتها مرة ثانية وأعددتها للنشر، شككت في أنها تصلح للنشر، وكل أصدقائي عرفوا أنني لن أنشرها وكثير من أصدقائي في القاهرة وفي الإسكندرية اقترحوا عليّ قراءتها، وأقسموا لي أنهم سوف يقولون لي بمنتهى الصراحة إذا كان يمكننا نشرها أم لا.
ثم أبعدتها عن ذهني تماما، ثم طلب مني «الأهرام» شيئا للنشر، وبالتالي راودتني من جديد فكرة إعطاء هذه النصوص ونشرها وأصداء السيرة الذاتية، كتبتها قبل القصص التي تنشر لي حاليا، وهذه القصص كنت أعدها حتى قبيل محاولة الاعتداء عليَّ، وكتبتها بنفسي، وأولى هذه القصص الجديدة هي «حديقة الورد».
وأؤكد أنني لا أعرف حكاية التكنيك التي يتحدث عنها النقاد، فقط أكتب خواطر شخص يحس بالضيق الشديد، وجاءت كما ترى إما ذكرى أو شيء من الصبا، أو تأملات، ولذلك كما أشرت حينما أعدتها ساورني الشك في إمكانية نشر هذه الخواطر، وأهملتها مدة كبيرة، وحتى بعد أن نشرت «الأهرام» لم أكن أفكر في نشرها في كتاب، هي ومجموعة القصص.
وذات يوم زارني السحار في بيتي، وقال لي: «إنت ناوي تنشر عند غيرنا».
قلت له: أبدًا.
قال لي: لقد قرأنا لك القصص القصيرة والسيرة الذاتية التي نشرت في «الأهرام» وكان من المفروض فور انتهاء نشرها في صحيفة «الأهرام» أن تقدمها لكي ننشرها كما اعتدنا بالنسبة لكل أعمالك السابقة.
قلت للسحار: ليس لدي أي رغبة في النشر، وعلى كل حال فكل ما تسأل عنه وضعته في درج هذا المكتب وأشرت إليه بأصبعي.
وعلى الفور طلب مني رؤية هذه القصص، وكانت كل واحدة منها قد وضعت داخل مظروف مستقل.
وعلى الفور أخذها السحار.
لكنني استوقفته قائلًا: عليك أن تعلم الأسباب التي منعتني عن نشرها، وأولها أنني لن أستطيع مراجعتها، وثانيهما أنني لن أستطيع أن أحضر عندك كما كان يحدث من قبل، لكي أكتب كلمات الإهداء للأصدقاء على الهدايا من كتبي، والتي اعتدت عليها.
قال لي السحار: كل هذه الأشياء ثانوية، فنحن نقوم بمراجعة كل أعمالك داخل المطبعة، والهدايا ليست مهمة، فلقد أهديت لأصدقائك ولمن تحب خمسين كتابا صدرت لك من قبل!.
*لماذا لم تعد أعمالك مغرية للسينما الآن، هل لأن المخرجين الآن غير قادرين على اصطياد العالم القديم؟
**أغلب كتبي استغلت في الإذاعة والتيلفزيون والسينما، لذلك فإن الذي لم تأخذه السينما قليل جدا وبالتالي لن يجد أي من المخرجين الشبان ما يقدمونه من أعمالي، فضلا عن أنني سمعت من الصديق توفيق صالح أن المخرجين الجدد أغلبهم يقومون بالتأليف والكتابة، وبالتالي فهم لا يحتاجون إلى مؤلفين!.
*معركتك مع نزار قباني أخذت أبعادًا في وقت حساس في الصراع العربي الإسرائيلي ماذا كنت تريد من ذلك؟
**ليس لي أي اعتراض على شعر نزار قباني، ووقت هذه المعركة التي تتحدث عنها كانت قد بدأت خطوات السلام مع إسرائيل، وكنا نسير في طريق السلام، وكان هناك كثيرون من المعترضين على السلام ويهاجمونه بكل ضراوة، وينتقدونه انتقادات حادة.
وكان سؤالي وقتها: ما هو البديل؟.. أنت لا تريد السلام، إذن ماذا تريد؟ هل تريد الحرب مثلًا؟!
كنت في هذه الأثناء أذهب في ندوة أسبوعية بكازينو قصر النيل وكان يأتي إليَّ الكثيرون ويبدون أمامي اعتراضهم على السلام، وهو متحقق، ويعترضون على التطبيع وكنت أكرر نفس السؤال.. ما هو البديل؟! فمن يعترض على شيء ينبغي أن يقدم بديلا له، أم أنه اعتراض فقط!.
*إسرئيل تنقض عهودها ومواثيقها الآن.. هل التطبيع الثقافي معها مازال مجديا؟
**كل الذي جاء بعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، والتصريحات الإسرائيلية أيضًا، أرى أنها تنطوي على تهديد للسلام ونسف كل المجهود الذي أبذل في عملية السلام بيننا وبين إسرائيل.. بين العرب من ناحية، وبين إسرائيل وبيريز من ناحية أخرى.. والكلام المتشدد الذي صرحوا به فور الانتهاء من عملية الانتخابات غير نفوس العرب جميعًا.
ونحن في انتظار أن يتضح الموقف، وليس هذا هو الوقت الذي تحدثني فيه عن التطبيع، فكل ما بداخلي يأبى التفكير في ذلك الآن!.
إن أمامي شخصًا يقول لا.. لا .. لا !
وأقول له طبِّع، أو يقول لي كلاما عن التطبيع.. وأي تطبيع هذا؟!
وأنا الآن لا أوافق على أي شيء حتى يتضح الموقف بيننا وبين إسرائيل.. فأنا لا أدري ماذا يريدون، وحينما يلتقي معهم الرئيس مبارك، وتسمع تعليقاته، نعرف هل نحن سائرون في طريق السلام، أم أن هذا الطريق قد انسد، أم أنه سلام من نوع جديد، وقد نوافق عليه، أو لا نوافق عليه، وتبعا لكل هذه النتائج ، يكون التطبيع والعمل أو عدمه!.
*أحببت عددا من كتاب القصة وأثنيت عليهم من بينهم يوسف القعيد وجمال الغيطاني وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي هل مازلت تتابع كتاباتهم؟
**منذ ست سنوات وأنا لا أقرأ اللهم إلا إذا تفضل البعض وقرأ لي قصة أو قصيدة، وبالنسبة لأصلان والبساطي، فأنا قرأت كتاباتهم التي بدأوا بها واقتنعت بها تماما، ثم ساروا هم بعد ذلك، وأنا توقفت.
وهناك من لم أقرأ لهم، ومن بينهم بهاء طاهر، وحينما كنا نجلس معاً، لم أقرأ له سوى قصة قصيرة واحدة، وأيام أن ابتدأ التأليف، كنت أنا قد امتنعت عن القراءة، وهو الآن نجم لامع، وأصبح كل شيء لدي الآن من خلال السمع! ففي بعض الأوقات كما أشرت تلخص لي بعض القصص، ودعني أؤكد لك بأنني مقتنع بأن جيل الستينات، جيل ممتاز جدا، وفي مقدمته الصديقان جمال الغيطاني ويوسف القعيد وقد قرأت لمحمد المخزنجي وهو قاص جيد جدا، كما قرأت ليوسف أبو رية ولمحمد المنسي قنديل.
وابراهيم عبد المجيد - للأسف - بدأ يكتب قصصا جيدة في الوقت الذي لا أستطيع فيه أن أقرأ الآن، وقد حدثني عنه الصديق حسين حمودة وقال بأنه أصدر روايته الأخيرة (روايات الهلال، الاسكندرية لا تنام) وقال لي إنها رواية جيدة جدا، مما أسعدني للغاية.
*قيل إنك أنشأت جائزة باسمك تعطى لشباب القصة وخصصت مبلغا من المال لذلك؟!
**لم يحدث هذا، إنما هناك جائزة أعلن عنها المجلس الأعلى للثقافة وهناك جائزة أعلنت عنها الجامعة الأمريكية، لكن ما أعلنت عنه هو جائزة للخير، فقد وضعت مبلغا في البنك، والريع الذى يأتي منه سنويا يوزع على المحتاجين. والبعض قال لي وقتها كان ينبغي أن يكون ذلك على هيئة جوائز للأدب، وكانت فكرة جيدة، ولكنني وقتها كنت أفكر في مساعدة المرضى!.
*هل أصبحت الرواية العربية المعاصرة تلعب دورها المنشود، الذى كان يلعبه الشاعر العربي القديم؟
**لاشك في أن الرواية الآن، تعتبر مركز قوة، وأنا دائم السؤال عن التوزيع فيقولون لي: إن دواوين الشعر لا تباع، والشكل الأدبي الوحيد الذي يباع هو الرواية، وكما يحدث عندكم في دار الهلال، فروايات الهلال الجيدة يباع منها الكثير، وكلنا يعلم ذلك ومن الواضح أن هذا العصر هو عصر الرواية، لكن للأسف فإن الثقافة «مضروبة» ونسبة القراء ضئيلة، ففي مصر وحدها 60 مليونًا وتجد نسبة البيع من العمل الجيد، ضمن سلسلة لها قراؤها ضئيل.. وعلى سبيل المثال في بداياتي القصصية كنا نقوم بطبع ألفي نسخة، وكان عدد السكان قليل، وكنت نسبة الأمية وقتها 90%، أما الآن نسبتها أقل.
*وماذا تقول عن جائزة الدولة التقديرية، وهل أنت راض عن القيمة المادية لها؟
**لقد جاءت الجائزة التقديرية هذا العام في محلها تماما ولا اعتراض عليها، ولكني كنت أستغرب كيف لا يحصل مصطفى محمود على الجائزة والحمد لله أنه حصل عليها أخيرا، كما أن الدكتورة لطيفة الزيات تشرف هذه الجائزة.. أيضا كانت دهشتي كبيرة أن الدكتور فؤاد زكريا لم يحصل على الجائزة إلا هذا العام .
وكنت قد اقترحت أن يكون المقابل المادي لهذه الجائزة 50 ألف جنيه، والتشجيعية 10 آلاف جنيه.. وأنا أتعجب أنه لم يتم شيء من القرارات التي اتخذها المجلس الأعلى للثقافة لزيادة الجائزة .
*وقبل أن أنهي حوارى مع الأستاذ سألته؟ هل تقولون كلمة للمجلات الثقافية في مصر؟
**قال: الله يكون في عونكم!.