التقى جمهور معرض الكتاب الأول بالسويس بالكاتب الصحفي والفنان التشكيلي محمد بغدادي في حوار مفتوح حول نشأته ومراحل تكوينه في السويس، ثم تجربة التجهير وذهابه إلى القاهرة، وعمله في مؤسسة ومدرسة روز اليوسف الصحفية، وما قدمه من تجارب إبداعية، وأدار الحوار الكاتب أنور فتح الباب.
تقول إيفي جوردان، الباحثة في شأن مجتمعات المهجرين في مدن القناة من جامعة برلين، في مقال بعنوان "أشباح السويس": دائمَا تطارد أهل السويس أشباح من الماضي، وكأن هناك شيئًا ما ضائعًا، وغير مرئي، لكنه يظهر لنا بطريقة خاصة، إنه الفقد لأشياء تختفي، ولكنها ماثلة في الذاكرة، وهي: الشبح الأرضي وهو معسكرات التهجير، وتجارب النساء وبخاصة الأمهات، والسويس المفقودة والباقية من الذكريات، سويس ما قبل الحرب.. بهذه المقدمة الأدبية قدم فتح الباب الحوار الذي امتد لساعتين مع جمهور المعرض.
وبدأ بغدادي: السويس مدينة بعمق التاريخ، وبحجم الوطن، وزخم واتساع أمة بأكملها.. من عاش في السويس قبل حرب 1967، يعرف الحد الفاصل بين حياتين، الحياة قبل الحرب، سبيكة سحرية لمدينة ساحلية كوزموبوليتانية، متنوعة الثقافات مبانيها خشبية، كل فرد يعرف الجميع فمثلًا في مدرسة السويس الثانوية كنا أنا والدكتور الإعلامي عادل معاطي، والباحث سمير غطاس، ونبيل عتريس والكابتن محسن خليفة.. سبيكة واحدة لبشر محبين للحياة وشغف بالقراءة ورغبة في التحقق والوجود.. أبناء هذا الجيل الذي التحق بالتعليم الابتدائي في منتصف الخمسينيات وُجِدَ في مناخ ومعطيات تجعلك بالضرورة إنسانًا مثقفًا، ومحبًا للمعرفة.
ويستطرد بغدادي: بدأت بعمل مجلات الحائط بالمدرسة، ثم مجلات الحائط في الشارع، ثم مجلة "الرأي" في أمانة الدعوة والفكر في فترة المحافظ شعراوي جمعة، ثم تعلقت بحب حياتي مجلة "صباح الخير" والتي كان يشتريها أخي الدكتور ماهر، كنت لا أنتظر انتهاء أخي من قراءة العدد، أذهب إلى عم فتحي جامع بائع الجرائد، وأدفع مصروف يوم كامل، وأقرأ العدد على الرصيف، أقرأ صلاح جاهين، فتحي غانم، مصطفى محمود وغيرهم، وأتأمل رسوم جمال كامل.. ذهبت إلى القاهرة في التهجير، وكان أخي ماهر في كلية الطب والتحقت بمدرسة السعيدية الثانوية، ومنها إلى كلية التجارة، ثم فترة تجنيدي ضابط احتياط في الجيش المصري، وجاء تعييني في العلاقات العامة بمحافظة الجيزة، رفضت العمل الوظيفي، وذهبت للتدريب في روز اليوسف، إلى أن أصبحت المدير الفني لمجلة "صباح الخير"، ثم التحقت بدبلوم الدراسات العليا في الإعلام وتعرفت على الدكتورة عواطف عبد الرحمن وخليل صابات وتعلمت منهم الكثير وكانا دائمًا ما يؤكدا أننا زملاء، وذلك لعملي في مؤسسة ومدرسة روز اليوسف الصحفية، هذه المدرسة التي تنحاز للناس وتتشابك مع قضاياهم.
وينتقل الحوار إلى المشروع الإبداعي الذي قدمه محمد بغدادي من خلال وسيطين الكلمة واللون، والذي تشكل من خلال تراكم مفردات متنوعة من التراث والحضارات وقد تبلور على مدار أربعين عامًا، قدم خلالها خمسة دواوين شعرية، وأوبريت وخمس مسرحيات، ورواية ومجموعتين قصصيتين وثماني مجموعات قصصية للأطفال، ومئات الأغلفة والرسومات والإشراف الفني على كثير من المطبوعات.
أشار بغدادي إلى أن الشعر بدأ معه من السويس، من مدينة الغناء، كل من جاء إلى السويس كان يحمل معه غناءه الخاص به، تراث من الغناء متنوع، وأضاف كتبت قصيدة بعنوان: "جواب إلى السويس"، وألقيتها في عيد السويس القومي في 23 مارس 1968، واستمر الشعر معي دائمًا، في كل مراحل حياتي، وكتبت أشعار مسرحيتي "كارمن"، و"سكة السلامة" لمحمد صبحي، و"قلب في الروبابيكيا" لمحمود رضا، وأوبريت "الفن أصل الحياة"، وكتبت سداسيات محمد بغدادي، في الفترة من 1989 إلى 2002، ومنها:
أحلى ما فيك يا وطن إنك جميل حساس
بتعرف المدعي من صادق الإحساس
العشق ليك بهدلة والحب فيك إدمان
والندى فيك ارتوى والشهم فيك عطشان
وأنت وديع منتظر صابر ع المكتوب
سامحت كل البشر وحضنت كل الناس.
ويضيف وكتبت قصة وسيناريو وحوار مسلسل "فارس بلا جواد " بالاشتراك مع الفنان محمد صبحي. ومن تجربتي في مدرسة روز اليوسف كتبت أربعة كتب: "صلاح جاهين أمير شعراء العامية"، و"حجازي فنان الحارة المصرية"، و"جورج البهجوري أيقونة مصرية"، و"إشكاليات الإخراج الصحفي بين الفن التشكيلي والحاسب الآلي".
ويختتم الندوة بالحديث عن السويس كما بدأ، ويقول: السويس مدينة لا تعرف الخوف، تكره الحزن، تعشق الحياة، تنتزع البهجة والفرح من قبضة الهموم والأحزان، فهي مدينة الغرباء، يأتيها الوافدون من كل فج عميق، فأطلق عليها أهلها "السويس بلد الغريب"، في إشارة مستترة لأن بها مقام "سيدي غريب"، وأخرى واضحة إلى أنها تحتضن الغرباء بحميمية دافئة.