الخميس 6 يونيو 2024

١٠سنوات على الرحيل .. «مستجاب».. قاطع الطريق على الأدب

14-1-2017 | 23:59

فقد إحدى عينيه جهلاً، وكاد يفقد الأخرى من الثقافة، محمد مستجاب ابن شرعى أو غير شرعى لجنوب مصر، على ترعة البحر اليوسفى تفتحت عيناه بين عواء الذئاب، وقطاع الطرق، ورقص الغوازى، ونقيق الضفادع.

أولى رواياته “التاريخ السرى لنعمان عبدالحافظ”، كانت لافتة للأنظار، خاصة أن بطل الرواية لم يفعل شيئاً من بدايتها إلى نهايتها، أول مرة شاهدت فيها مستجاب فى نادى الأدب بأسيوط لمناقشة إحدى رواياته.. واصطدمت عيناى بملامحه وبجلبابه الصعيدى وكفه العريض وعينه الفاقدة للحياة، التى تطوع أطباء عائلته فى طفولته بردمها بتراب الفرن.

كان على المنصة إثنان من أساتذة الجامعة، وبعد أن قضيا ساعة فى وصف التشكيل الفنى للقصة عند مستجاب، وقال أحدهم إنه ابتدع اللابطل فى الرواية المصرية.. طلب الحاضرون من مستجاب أن يعلق على ما يقال. وكان قد حضر معه أربعة صعايدة أشداء جلسوا فى الصف الأول، وعندما فوجىء بالسؤال سأل أحدهم : ما رأيك يا حاج محمد – بكسر الميم – ويبدو أن الحاج محمد الذى لا يفهم أى شىء فى النقد الأدبى كان قد نام من الملل والضجر فاستيقظ منزعجاً وهو يقول: “تأخرنا على الجطر – أى القطار – يابوى ياللا نروح !!” وعلى الفور قام مستجاب وانفضت الندوة.

بعدها بسنوات ضبطته يركب ميكروباص التحرير - الهرم جالسا فى الكرسى الأمامى، فجلست إلى جواره، وطلبت أن أقعد بجوار الشباك فاعتذر بأنه يعانى من الربو، وضحكت، ودفعت أجرة إثنين، وعندما سألنى السائق من معك قلت: هذا الأخ الصعيدى، فصاح مستجاب صاخبا: أنت واد مين ملعون الصعايدة؟.

ولد مستجاب فى ديروط الشريف، إحدى قرى صعيد مصر -٣٠٠ كيلومتر جنوب القاهرة – فى يوم ٢٣ يوليو ١٩٣٨، ورحل عن الدنيا فى ٢٦ يوليو ٢٠٠٥، وفي هذه الأيام تحل الذكرى العاشرة لرحيله عن الدنيا، ومازال صاحب أجمل أسلوب في كتابة الرواية العربية.. ربما يرجع هذا إلى صفاء عقله وتجربته من النمط البارد في التعليم والحياة.

يقول: كان بيتنا مجرد كوم من الأخشاب، ينام وسط مستنقعات، ويفتح على حقول كثيرة. وبدأت أخرج فى الليل لأسرق الخيار والطماطم فى عتمة الليل، وتعلمت سحنة أصابعى التمييز بين الطماطم الخضراء والناضجة باللمس، وفى إحدى الليالى هاجمنى عفريت وضربنى بالزخمة، كان صاحب الأرض، واكتشف أبى أننى أعود بالخضار المسروق فزجرنى وامتلأت عيون أمى بالدموع.

فى المرحلة الابتدائية حصلت على المركز الأول بين الطلاب فى السنة الأولى والثانية والثالثة، وعلى الفور تحركت عائلتى لإيقاف هذا القطار، واعترض حكماء العائلة على تعليمى، وأوصوا بأن أساعد أبى المعدم، وبعد أيام اكتشفت أننى لن أساعد أبى لأنه تقريباً بلا عمل.

فى الخطوة التالية، خرج مستجاب من ديروط الشريف مطروداً إلى القاهرة التى لم يذهب إليها للحصول على شهادة، بل للعمل كصبى خياط عند خاله، وتقلب فى مهن عديدة وهو يحلم بأن ينام على سرير نظيف إلى أن التحق بالعمل فى معامل أبو الهول للسينما، ويعلق مستجاب على ذلك ساخراً: عندما شاهدت هند رستم ومريم فخرالدين فى القاهرة تذكرت على الفور علاقتى بتحية كاريوكا، والتى بدأت مع افتتاح السينما فى قريتى ديروط، يومها أخذت تحية وسرحت معها فى الغيطان الشاسعة لنجلس على الحصير ونحتسى الشاى الثقيل بالجنزبيل، وبعد عدة لقاءات ساخنة شعرت بأن هذه المرأة ستخوننى حتماً، فقررت أن أستبدلها قبل أن تستبدلنى وأصبحت فى حيرة ماذا أفعل؟، أخذت فاتن حمامة معى فى ليلة فأراقت على حباً أخوياً وأنا عندى خمس أخوات، ولكى أحب كيتى كنت أحتاج تصريحاً من سفارة اليونان، وراقية إبراهيم انشغلت بالعمل فى الأمم المتحدة.

ووسط كل هذه الحيرة العاطفية ظهرت فى حياتى سامية جمال، وكانت فى خدودها غمازة، وهى إمرأة سمراء.. تشعر أمامها بأن هناك من شدها من أمام الفرن، وشد الرجل للأنثى من أمام الفرن فى الصعيد أمر لا تسمح الظروف بالإعلان عنه، لكنها تترك أثراً حيوياً فى النفوس... سامية جمال كانت تتمتع بذلك عندما أخذتها فى المرة الأولى من على شاشة سينما قرشى إلى كوخنا المتهالك وسط الغيطان، وساعد على علاقتنا أنها كانت خارجة تواً من علاقة مع الملك فاروق.. وقد أطاح به عبدالناصر، وهى فى حاجة إلى رجل مثلى لم يطح به أحد!. عندما خرجت من ديروط ودّعنى أصدقائى الثلاثة باعتبارى ذاهبا إلى الموت، وبعد عشرين عاماً: أحدهم رفسه حمار والثانى وجدوه مبقور البطن فى بيت إحدى الغوازى والثالث غرق فى بحر يوسف.

كانت أسعد لحظات مستجاب إلى قلبه عند الجلوس إلى أمه العجوز القادمة بأشواكها الريفية من قرية ديروط الشريف، كانت صعيديتها لم تتغير على مر الزمن، وكان يحلو له أن يناكفها ويستمع لها وهى تحكى الروايات عن القرية التى لم ينقطع عن زيارتها أبداً حتى آخر لحظة، وكان يحرص على الجلوس مع فلاحيها كواحد منهم للاستماع إلى قصصهم حتى وإن كانت أغلبها كاذبة.. كانت آخر مرة شاهدته فيها قبل رحيله بيوم واحد فى غرفة بمستشفى قصر العينى الفرنساوى التى دخلها للعلاج من فشل كبدى وماء على الرئة. كان راضياً برغم المرض عن نفسه بعد أن تجاوز بشرف محنة مرض ابنته سوسن التى كانت أحب أولاده إلى قلبه، واطمأن إلى زواج إبنته دينا والولدين أحمد ومحمد، لكنه كان مازال مشتاقاً للعودة إلى هناك.. إلى البرارى والصعيد وعواء الذئاب ومراقبة اكتمال القمر.

رحم الله والدي الأديب الكبير محمد مستجاب.

كتب : عادل سعد