الجمعة 24 مايو 2024

«نعمان» يوثق تاريخ النضال الوطني لمحمد صالح يافعي (صور)

مطيع

ثقافة26-9-2023 | 18:48

محمد الحمامصي

تزخر التجربة السياسية اليمنية، بشخصيات بارزة في حقل النضال الوطني والعمل السياسي والتمثيل الدبلوماسي، تميزت بأداء دورها على المسرح السياسي والرقص البارع على حباله الرفيعة، حتى احتلت مكانتها في المشهد التاريخي العام، وبقي ذِكرُها ما بقي المشاهدون يتذكرون تلك التجربة ويستذكرون أبطالها وفرادة أدائهم.

واحدٌ من أبرز العاملين في حقل النضال الوطني اليمني محمد صالح يافعي المعروف باسم مطيع، الذي - عضو مكتب سياسي للحزب الاشتراكي وسكرتير العلاقات الخارجية 79- 80، وشغل وزارات الداخلية والخارجية في الجمهورية العربية اليمنية في الفترة من 1969 و1979، وقد تم إعدامه في مارس 1981 بتهمة الاتصال بالسعودية وإقامة علاقات مالية معها عن طريق مستشار القصر السعودي كمال أدهم.

وهذا الكتاب "مطيع.. التحولات السياسية في جنوب اليمن" للناشط والباحث السياسي لطفي فؤاد نعمان والصادر أخيرا عن مؤسسة أروقة بالقاهرة لا يوثق فقط لشخصية لعبت دورا بارزا في تاريخ اليمن السياسي والنضالي فحسب بل يوثق لجزء مهم من تاريخ اليمن الحديث ككل.. يقول نعمان "يافعٌ من يافِع، اقتحم مضمار النشاط الوطني جنوبي اليمن، وبصم بصمة واضحة عبر مراحل النضال بغية نيل الاستقلال.. فتعزيزه، وتأمينه، باعتباره كادرًا وطنيًا، مؤسسًا فاعلًا، وقياديًا نشطًا واكب تحولات الجنوب وشارك "إحداثها"، وعلى مدى عمره القصير 1943- 1981م شهد الكثير والكثير على مستوى الوطن اليمني شماله وجنوبه. وطوّع نفسه للتلاؤم مع المتغيرات الدائمة والاحتياجات الملحة، أثناء التزامه التنظيمي وانفتاحه الوظيفي.

ورأى نعمان أن يفاعة التجربة بعد استقلال جنوب اليمن عن بريطانيا، وتنظيم الجبهة القومية، وكذا يفاعة معظم كوادرها القيادية - علاوةً على عنفوان الشباب - فرضت انتهاج خطٍ مغاير للأنماط السياسية السائدة مما كان يتبعها بعض تنظيمات تلك المرحلة القائدة للعمل السياسي الوطني في الجنوب.  لقد اختار "يافعو" الجبهة القومية العمل المسلح، الذي نال قسطًا من دعم المعسكر الشرقي أثناء الحرب الباردة بين القطبين الدوليين، وبقي هذا الاختيار لصيقًا بنمط أداء الجبهة القومية و"يافعيها" الشباب على مدى سنوات الاستقلال الأولى ما أدى إلى الصدام السياسي مع "شيوخهم: شيوخ الجبهة".

وأضاف "ما كان لابن يافع "المطيع" أن ينحاز لغير اختيار رفاقه الشباب فيمضي معهم على خطوط "التصحيح" بالجنوب، ويشارك ترتيبات الحركات والانقلابات والتحولات من بعد الاستقلال إلى قبل رحيله، فيصبح وزير داخلية لأربع سنين، ينتقل بعدها إلى تولي حقيبة "الخارجية" ويشارك عضوية مجلس الرئاسة والمكتب السياسي واللجنة المركزية وسكرتارية العلاقات الخارجية، بالحزب الاشتراكي اليمني بعد الجبهة القومية.

 

وأوضح ترأس ابن يافع "المطيع" دبلوماسية الجنوب اليمني المنضوي تحت لواء الشرق الدولي والمعزول عن الغرب وأقرب دول الجوار، ثم نجح في تعديل المسار صوب مقاربة الجوار القريب. إذ بزغت في سنين حياته رؤى جديدة فرضت الانتقال من طور إلى طور، بدءًا من التحول من المجتمع الأمني إلى المجتمع الدبلوماسي وآفاقه الرحبة الممتدة إلى كل الأرض والمتشابكة مع كل العالم، شرقًا وغربًا.

ورأى أنه مع اقتحام مطيع تلك الأطوار بتلك الرؤى المستجدة خلال حياته، وحياة شعب اليمن الجنوبي، عنّ لنا تتبع خطواته، دون المضي في خط تمجيد فرد انفرد بميزاته، أو تضخيم دور أداه ببراعة، وعن جدارة استحق مواقعه. محاولين بسط شطر من تاريخ اليمن الواحد وإن تشطر، لكي يضيء لنا مساوئ التشطير وما ينطوي عليه من صراعات لا تُبقي جمعًا على وحدته ولا تذرُ عقلًا على هداه. ويتبين كم كلّف التشطير وتكلفت صراعاته كثيرًا من الصرعى ماديًا، وتخلف خيرةً من الضحايا.. والجرحى.. معنويًا، باسم الوحدة والاستقلال والثورة والتصحيح وصيانة الوطن، وكان "مطيع" أحدهم رغم محاولات –كما يخيل لنا- النأي بالبلد عن ذلك لولا عجلة المقادير والمزايدة والتطرف التي دهست كل من دهست. وإذ بذر مطيع في حقل عمله ما قطف ثمارَه وطنُه، شهد على مر عمره بذور صراع كان رأسه واحدًا من قطافها.. رغمًا عنه. دون أن ينتقص هذا من ثراء التجربة اليمنية عمومًا مهما بدا تحفظ على بعض جوانبها ومجرياتها، غير أنه يفيد تجنبه مستقبلًا، إن أمكن الاعتبار من تجارب الماضي، وكثر المعتبرون..!

وقال نعمان "استكشافًا لمدى ثراء التجربة اليمنية جنوبًا وشمالًا، بتقدميتها واعتدالها، وحتى تطرفها، وقراءة مسارات ونتائج هذه التجربة برموزها المهدورة، بقاءً وفناءً، ببقائها في فلك اليسار الدولي وتوزعهم وسط اتجاهاته الداخلية من يمين ووسط ويسار، أو متطرفين ومعتدلين كما جرى التصنيف، وتناولهم للظروف الإقليمية والدولية المحيطة بهم وكيفية قراءتهم لها، بعيدًا عن الاختلاف أو الاتفاق مع رؤاهم ومواقفهم المثبتة التي غدت قيد الدرس والنقد لا محل التعديل والتقويم إذ باتت مع أصحابها بذمة التاريخ. نقرأ شخصية وتجربة محمد صالح مطيع وقد بث، ببشاشة وجهه ويفاعة تجربته وحيوية روحه، وذكائه المشهود -ثمة من المعاصرين من رآه ذكيًا، متذاكيًا، ومُذكيًا بعض الصراعات-أملًا بإحداث نقلة نوعية في حياة الشعب اليمني جنوبي اليمن، عبر سياسة خارجية أقرتها قيادة البلاد يومها، وازنت ما استطاعت الموازنة بين خطاب سياسي هائج واحتياج واقعي مائج، وتبينت أن الرفاق بنوا "صرحًا من (شعارٍ) فهوى"، لكنهم استطاعوا التقاط موجات التقارب مع الشقيق الأقرب فالأقرب دون تخلٍ عن الصديق البعيد فالأبعد، ودون تفريط أو مخادعة بل برسائل واضحة محددة التفاصيل التي خاضها مطيع مع نظرائه، بتنسيق مع رفاقه أو قناعته الذاتية، أكانت بشأن الوحدة اليمنية أو العلاقات العربية العربية أو الانفتاح على الغرب أو "مصارحة" الشرق بعد "مصارعة" أو "مقارعة" الغرب.

 

وأكد أنه ليست غاية هذا الكتاب التعريض بتجربة مهمة - ضمن تاريخ اليمن المعاصر- اختص بها جنوب اليمن واهتم بها شماله، أو المبالغة في تقويم دور محوري لأحد ألمع ساسة اليمن ونجم من نجوم الدبلوماسية العربية، أكان ما قاده من انفتاح في السياسة الخارجية كسرًا لعزلة الجنوب اليمني عن محيطه الأقرب، أو توسيعًا لنطاق علاقات بلاده، سواءٌ بمبادرة ذاتية أو قرار سياسي بمباركة رئاسية وموافقة تنظيمية، لكنه تم لحاجةٍ وطنية واقعية في كل الأحوال..الغاية هي درس التجربة من خلال استعراض خُطاها وخطابها وسرد مفرداتها الخاصة (التي لا تعني قناعتنا بها) وإبراز تحولاتها، أما خطاياها ومزاياها فتلك مسألة أخرى يقررها الراسخون في العلم وتفاصيل الحدث وقد تحرروا من آثار صراع أودى بهم جميعًا.

 

يذكر أن الكتاب ضم 10 ملاحق من بينها توثيقا للحوارات التي أجريت مع مطيع، ومحاضر لقاءات واجتماعات خارجية وداخلية، وشهادات سياسيين وصور توثيق لمراحل حياة وعمل مطيع السياسي والدبلوماسي. وهنا نورد شهادتين مهمتين:

 

 

شهادة الرئيس حيدر العطاس حول إعدام مطيع: (برنامج الذاكرة السياسية، مع طاهر بركة .. قناة العربية، 14 أغسطس 2021م)

"... ظروف إعدام محمد صالح مطيع غامضة جدًا. كان من أنجح الوزراء وهو زميل لي ورافقته في أكثر من مهمة ( وزيارة خارجية).

إعدامه من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها المكتب السياسي (للحزب الاشتراكي اليمني)، إذ لم يمر عبر محاكمة، ولم يمر عبر أي إجراءات قانونية، إنما المكتب السياسي اتخذ القرار (بالإعدام).

وعندما تلا الإعلامي طاهر بركة على مسامع الرئيس العطاس، متسائلًا عما إذا يصدق على ما سطره الصحافي اللبناني خير الله خير الله في كتاب "حرائق اليمن":

أعدم بعد لقاءات أجراها مع مسئولين من دول أخرى، لكنه كان يُعلِم المكتب السياسي بكل خطوة يُقدِم عليها.

أجاب العطاس: نعم. وأضاف يقول: إن مطيع كان صريحًا ويتكلم عن كل شيء. وبالتالي فإنه -أي العطاس- يثق في علم المكتب السياسي بكل خطوات مطيع.

ومستطردًا قال: لكن كان هناك خط لم يكن متحمسًا للعلاقة مع الأشقاء، في الخليج، واستطاعوا أن يحيكوا الدسائس ويدفعوا بهذا القرار.. وهذه هي المشكلة، وفقًا للرئيس العطاس، التي وراء اغتيال مطيع واتُهِم فيها الرئيس علي ناصر وبعض الإخوان.

وختم العطاس شهادته لقناة العربية قائلًا: في تقديري الشخصي إن الخط الذي يتبناه بعض الأشخاص ممن هم وراء إعدام سالمين وبعض الشخصيات وقحطان (لعله يقصد اعتقال الرئيس قحطان الشعبي وإعدام فيصل الشعبي)، بدفع (من) الخط اليساري المتطرف.

 

مطيع، كاريزما القيادة وفن الحوار وإدارة الاختلاف .. د. يس سعيد نعمان ..فيسبوك: 14 يونيو 2021م

"سيذكر عام 1974، بالنسبة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، كعام للانفتاح السياسي والدبلوماسي على دول الجوار.

فمنذ الاستقلال عام 1967 ظلت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة مع دول المنطقة فيما عدا الكويت التي رحبت فور استقلال الجنوب بإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع الدولة الوليدة، وأنشأت مكتبًا لهيئة الخليج والجنوب العربي الذي أشرف على إقامة الكثير من المشاريع في مجال التعليم والخدمات الاجتماعية.

كان محمد صالح مطيع رحمه الله هو وزير خارجية جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية منذ العام (1973 حتى 1980) ، وكان يعد مهندس الانفتاح السياسي على دول الجوار. ولا يختلف كثيرون أن محمد صالح يافعي، الذي عرف باسمه الحركي "مطيع" قد تميز ببعد النظر في قيادة دبلوماسية الجنوب، وعلاقات الدولة السياسية آنذاك على الصعيد الإقليمي والدولي في ظروف غاية في التعقيد.

في عام 1974 دشن بداية العلاقات الدبلوماسية بزيارته التاريخية لكل من البحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة، وكنت ضمن الوفد الذي زار هذه البلدان بقيادته ولمست عن قرب حجم الجهد الذي قام به لتحقيق هذا الهدف.

وفي عام 1976 تم استكمال بناء العلاقات الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية. وبقيت عمان لوقت متأخر لأسباب يطول شرحها.

في عهده كوزير للخارجية شهدت العلاقات الدبلوماسية لليمن الديمقراطية ازدهارًا كبيرًا على نطاق واسع، وعمل بكل جهد على استعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقام بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي بزيارة عدن كتمهيد لاستعادة العلاقات الدبلوماسية التي كانت قد قطعت عام 1969.

تمتع "مطيع" بعلاقات ممتازة مع رفاقه ومع العاملين في السلك الدبلوماسي ومع دوائر اجتماعية وسياسية واسعة، ولعب دورًا إيجابيًا في الحوارات السياسية بين فصائل العمل الوطني التي أدت إلى قيام التنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية، ثم الحزب الاشتراكي اليمني.

كان "مطيع" صاحب كاريزما قيادية تجيد فن الحوار وإدارة الاختلاف، لكن الظروف التي صاحبت كثيرًا من المحطات السياسية قد أسهمت في بناء تراكمات لم تترك في كثير من الأحيان غير خيار المواجهة.

من عجائب السياسة في اليمن أن يثير مثل هذا النجاح أسئلة لا لون لها، مهمتها البحث عن أسباب النجاح بعيدًا عن الحقيقة، وهي نفس الأسباب التي دائمًا ما تكون إجاباتها جاهزة وتصب في خانة الصراع على السلطة.

أعدم مطيع، في لحظة من اللحظات التي دائمًا ما كان فيها الوعي بقيمة الحياة تستغرقه سلطة تتهشم قوائمها بمقارع التطبيل لخلق الزعامات.

حدث هذا مرارًا في اليمن وفي تجارب كثيرة، ولم تنفرد اليمن الديمقراطية بمسار مختلف.

كان إعدام مطيع خسارة كبيرة، فتحت ثغرات كبيرة في الجسم الذي كان يتهيأ للانتقال إلى مسارات أرحب، وكان ما كان.