الإثنين 29 ابريل 2024

تلك آثارنا (23).. مجموعة السلطان قانصوه الغوري


د. محمد ابو الفتوح

مقالات27-9-2023 | 14:46

د. محمد ابو الفتوح

عندما كنت أستمع صغيراً إلى صوت محمد قنديل، وهو يأتي من المذياع منساباً كماء النيل في معية ألحان كمال طويل، ومن شعر محمد على أحمد مردداً في طرب: "يا رايحين الغورية .. هاتوا لحبيبي هدية.. هاتوا لجميل الأوصاف حلق بدلاية.. فوق الخدود رفاف .. يحكي الهوى معايا.. ما قلتله وقاللي نظرة يا متولي.. ده الحلو راضي عليا .. يا رايحين .. يا رايحين ... يا رايحين الغورية ».

لم أكن أعلم ما هذه الغورية التي يتغنى بها هذا الصوت القوي الندي العذب، لأعرف بعد سنوات أنها لم تكن سوى سوق كبير وحي عريق يقع في منطقة الجمالية في القاهرة، وينسب إلى السلطان " قانصوه الغوري (1501-1516م) .

وقد اشتهرت الغورية منذ إنشائها بالوكالات التجارية المتخصصة في البيع والشراء التي أصبحت الآن مبان أثريه عتيقة، لعل أهمها وكالة الغوري، التي لم يكن صاحبها يتخيل أن تصل إلى ما وصلت إليه الآن وأن يتغنى بها الناس.

كما لم يكن يتخيل عندما تولى أمور السلطنة وهو كاره لها أن تكون نهايته أن تدوسه سنابك الخيل في أرض المعركة، وألا يعثر على جثته، فلا يدفن في مدفن ولا يحتوي جثته ضريح. فهو لم يسع إلى السلطنة بمحض رغبته، كما يفعل البعض ويستميت للوصول إليها، فلم تكن من طموحه، وإنما كُلِّف بها مرغماً، وقبلها باكياً، ولم يكن أقوى المماليك وأفضلهم، لكن الأمراء الكبار تجنبوا وهج السلطنة خوفاً من أن تنالهم نيرانها، وأن يفتك بعضهم البعض في سبيلها، وأجمعوا على توليه السلطنة لتحقيق مطامعهم على حساب شخصه الضعيف؛ وليكون كبش الفداء عند الحاجة إلى ذلك، فأحضروا له القضاة والخليفة العباسي المستمسك بالله يعقوب وبايعوه بالسلطنة، لكنه كان يخشى بطشهم به، فاشترط عليهم  ألا يقتلوه إذا أرادوا خلعه، فقبلوا منه ذلك. لكنه مع ضعفه كان يتصف بالدهاء والحنكة فما لبث بمرور الأيام أن تخلص من أكابر الأمراء ومراكز القوة فيهم واحدً واحداً حتى تخلص منهم حتى لم يتبق له فيها منازع فصفت له السلطنة، واستمر في السلطنة خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.

وأثبت خلال فترة حكمه مقدرة على إدارة البلاد، فاهتم بتأمين موارد الدولة بعد أن فراغ خزانتها، وأنفق منها على زيادة قواته العسكرية من المماليك، وعلى أسطوله الحربي والإصلاحات العامة بالدولة وعنى بتشييد العمائر، فأنشأ مسجداً ومدرسة بالقاهرة، ضمن مجموعته المعروفة بحي الدرب الأحمر، وشيد قلعة العقبة وأقام مباني جديدة في القلعة، وحصَّن ثغري الإسكندرية ورشيد وغيرهما، وحفر الآبار على طريق الحج، وجمَّل مكة وأنشأ السواقي على النيل، وحفر بعض الترع، وجدد خان الخليلي فأنشأه من جديد، وأصلح قبة الإمام الشافعي ومسجد الإمام الليث، وأنشأ منارة للجامع الأزهر بخلاف إنشائه للقصور والوكالات والخانات.

على ناصية شارع المعز التاريخي، الكنز الأثري المتخم بالكنوز، وعند تقاطعه مع شارع الغورية، تقع مجموعة السلطان قانصوه الغوري الفريدة في شكل كتلة معمارية فارعة ترفع هامتها في إباء وشمم، حيث بنيت منشآت المجموعة على جهتين متقابلتين بينهما ممر يعلوه سقف خشبي، تضم إحدى الجهتين مسجداً ومدرسة لتدريس العلوم الشرعية بما فيها المذاهب الأربعة «المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية»، بينما الجهة المقابلة تضم القبة الضريحية، وسبيل يعلوه كُتَّاب، وخانقاه للمتصوفين، ومنزل ومقعد للسلطان وكان ضمن المجموعة حمام أثري اندثر في الوقت الحالي. وتجاورها الآن مجموعة ثرية من المباني الأثرية الأخرى مثل: وكالة الغوري، وكالة قايتباي، مسجد محمد بك أبو الدهب، الجامع الأزهر، مسجد الفكهاني، التي أعطت للمنطقة جميعها زخماً تاريخياً يمتد جغرافياً على جانبيها بطول شارع الغورية حتى باب زويلة وبطول شارع المعز حتى بوابة الفتوح، طوق من اللالىء الأثرية يحلي جيد القاهرة القديمة ويشكل متحفاً مفتوحاً وممتداً للآثار الإسلامية خلال العصرين الفاطمي والمملوكي.

ما تزال وكالة الغوري تحتفظ بطابعها المعماري الأصلي، وتتكون من خمسة طوابق، يتوسطها فناء مكشوف مستطيل. استخدم كلاً من الطابقين الأول والثاني لبيع وتخزين البضائع، أما الطوابق العليا فكانت مساكن مستقلة لمبيت التجار الوافدين، وكان بالوكالة مكان للدواب ومخازن للمحاصيل. وهي تتبع الآن وزارة الثقافة باعتبارها أثراً ومركزاً للفنون.

وأما السبيل فمن أبرز ما تتميز به مجموعة السلطان الغوري، وهو يضم ثلاثة شبابيك للتسبيل تطل جميعها على كل من شارع الأزهر وشارع المعز لدين الله، وكانت هذه المنطقة تمثل قلب القاهرة الفاطمية ومركز تجارتها. ويعلو السبيل كُتَّاب لتعليم أطفال المسلمين القرآن. وكان هذا السبيل وقت إنشائه من أكثر أسبلة القاهرة ازدحاماً لوقوعه في السوق السلطانية. وكانت تصرف فيه المياه للظمآنين من الصباح حتى وقت الغروب واتسع صهريجه حتى عشرين ألف حمل بعير من الماء.

وأما المدرسة فهي مستطيله المساحة، فرشت أرضيتها بالرخام الدقيق الصنع والمزخرف بأشكال هندسية رائعة الجمال وأرضية السبيل من الرخام الأبيض المزخرف.

وشمل تخطيط المسجد ثلاث واجهات أهمها الواجهة الشرقية، التي تشرف على شارع المعز ويتوسطها المدخل الرئيسي، وله أربع إيوانات متعامدة يتوسطها صحن مكشوف مربع الشكل تقريباً تبلغ مساحته 11×12متراً ويكسو حوائط وأرضية الصحن والإيوانات رخام متعدد الألوان ويحيط بجدرانها وجدران الصحن وزرة من أشرطة رخامية، ويتوسط الإيوان الشرقي «إيوان القبلة» محراب مجوف من الرخام الدقيق تعلوه طاقية ذات عقد مدبب يكتنفه عمودان مثمنان من الرخام الأبيض، وعلى يمين المحراب يوجد منبر خشبي دقيق الصنع مطعم بحشوات من العاج.

وقد بدأ في إنشاء المسجد والمدرسة الطواشي مختص، كبير السقاة في دولة الظاهر قانصوه أبي سعيد (تولى الحكم في الفترة من 1498-1500م خلفًا للسلطان الناصر محمد بن قايتباي وهو خاله)، ولذلك كانت تعرف باسم «مدرسة المختص»، ولما ولي السلطان قانصوه الغوري صادر أمواله، وكان منها أرض المسجد بما عليها من بناء، فاستلمه السلطان الغوري وهدمه، وأمر بإعادة بنائه وتوسيعه، وبالغ الغوري في زخرفة المسجد وعنى بفخامته، فخرج به من وقار المساجد إلى بهرجة قاعات التجار، وكان جملة ما أنفقه على المسجد حين انتهت عمارته نحو مائة ألف دينار.

هذه الأموال التي أنفقها السلطان الغوري على المسجد، وما صاحب بنائه من إجراءات جعلت عامة الناس  يطلقون عليه اسم «المسجد الحرام»، فالأرض التي بني عليها تم اغتصابها من صاحبها، ومواد البناء تم الحصول عليها بأبخس الأثمان، وجاء بعضها على جثة عمائر قائمة، فتم تخريب كثير من العمائر القائمة للاستيلاء على ما بها من رخام وأخشاب وفسيفساء، كما أن الإسراف في النفقة على بنائه وزخرفته جمعت عنوة عن طريق فرض الضرائب الباهظة. هكذا قال الناس، والناس شهداء الله في أرضه، وليس شيء على الشعب بسر. وربما تسببت مثل هذه الأمور  في تعرض المسجد في أكثر من جزء منه للخلل مما اضطر إلى إعادة البناء لأجزاء منه مثل: المأذنة أو المنارة، والقبة والسقيفة الخشبية.

أما المنارة فبنيت على الطراز الأندلسي وتقع في الطرف القبلي للواجهة الشرقية، وهي مربعة ضخمة أقيمت قاعدتها مع أساس الوجهة، وعلى دورتيها الأولى والثانية مقرنصات دقيقة ومتنوعة، يعلوها دوره ثالثة كانت مكسوة بالقاشاني تحمل مربعاً آخر فوقه خمسة رؤوس خشبية كمثرية الشكل يعلو كل منها هلال من النحاس. وقد طرأت على هذه المنارة منذ نشأتها عدة تغييرات، فقد كانت مع افتتاح المسجد لها أربع رؤوس ثم حدث لها خلل وميل سنة 1505م بسبب ثقل علوها، فأمر السلطان الغوري بهدمها وإعادة بنائها فاستبدلت الرؤوس الأربعة، التي سببت الخلل برأسين على دورة رابعة مزدوجة يحيط بها درابزين من خشب، وظلت على هذا الحال حتى سنة 1850م ثم طرأ عليها التغيير الحالي بعد ذلك.

وكان يغطي ما بين المسجد والقبة سقيفة خشبية بقيت حتى سنة 1882م، وأعيد بناؤها مرة أخرى حديثاً، وكان هذا النوع من السقائف يعم أسواق القاهرة. أما القبة فكان الفراغ من إنشائها مع افتتاح المسجد، وكانت مكسوة بقاشاني أزرق، إلا أنها لم تلبث كثيراً حتى ظهر بها خلل جسيم سنة 1512م فأمر السلطان الغوري بهدمها وإعادة بنائها وكسوتها، ولم يمض عامان على إعادة البناء حتى عاد إليها الخلل سنة  1513م فأمر بهدمها مرة أخرى وإعادة بنائها وكسوتها، ثم هدمت القبة وأبدلت بقبة خشبية سنة1881م، ثم هدمت وحل محلها السقف الحالي، وجدرانها من الداخل حافلة بالنقوش والكتابات.

وعن طريق باب يؤدي إلى سلم صاعد لرواق لطيف يطل على شارع الأزهر، يمكن الوصول إلى الخانقاه وهي عبارة عن مساحة مستطيلة مكشوفة يشرف عليها خمسة مداخل، أربعة منها تفتح على الفناء الجنائزي والخامس لمدخل الممر المؤدى إلى شارع المعز، وبها محراب آخر وعلى يساره باب يؤدي إلى فناء واسع.

 وتضم المجموعة أيضاً المنزل المعروف باسم منزل وقف محمد سعيد باشا، إلى جانب مقعد الغوري الذي يعد النموذج الوحيد الباقي للمقاعد المغلقة.

عنيت لجنة الآثار العربية بإصلاح المسجد والقبة وملحقاتهما، فأجرت بهما ترميمات من سنة 1902 إلى1907م ، ثم أتبعتها بإصلاحات أخرى في نوفمبر 2005 افتتحت أعمال ترميم المجموعة التي استمرت خمس سنوات وركزت على معالجة مظاهر التدهور بالبنايات بداية من ارتفاع منسوب المياه الجوفية وتنفيذ حل دائم للسيطرة عليها، واستبدال غطاء القبة الخرساني بآخر من الخشب أقل في الوزن بأكثر من 60 طناً يرتكز علي كامل محيط القبة حتي لا يشكل أية أحمال عليها ليطيل عمرها الافتراضي لمئات الأعوام.

Dr.Randa
Dr.Radwa