السبت 4 مايو 2024

مئوية لطيفة

مقالات27-9-2023 | 14:50

في الثامن من أغسطس تكون قد مرَّت مئة عام على مولد الدكتورة لطيفة الزيات، المثقفة والكاتبة القديرة، التي وُلدت عام 1923 في مدينة دمياط؛ تلك المدينة التي أهدتنا أعلامًا - وما زالت - في كل المجالات؛ الشعر والأدب والقصة والمسرح، من طاهر أبو فاشا وعبد الفتاح مصطفى وبنت الشاطئ وسعد أردش إلى فاروق شوشة ويسري الجندي والسلاموني ومحمد الشربيني وبشير الديك وسمير الفيل وفكري داوود، وغيرهم كُثر، وما زال بحر إبداع دمياط يُهدينا دررًا في الكتابة والفكر، من شباب موهوب ناهض، يكتب عنهم ويناقشهم الكاتب الكبير سمير الفيل، وحين ترى صور الصالون الأدبي هناك فإنك تزداد إيمانًا بعطاء هذه المدينة الهادئة التي يحتضن النيل البحر على ضفافها.

 تنتمى د.لطيفة الزيات إلى عائلة الزيات العريقة من أبناء دمياط، والتي كان كثيرون من أبنائها في طليعة العمل الوطني والثقافي لعقود، التحقت بجامعة "فؤاد الأول" -القاهرة الآن- في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين، وإن انتمت أكثر إلى جيل التنويريات المصريات اللاتي تطلَّعن إلى تحرير مصر بعد ثورة 1919، مثل هدى شعراوي وسيزا نبراوي وكوكبة من نساء مصر الكريمات.

 

وكما ذكرت في مذكراتها (حملة تفتيش.. أوراق شخصية ) كيف كان حماس المدّ الثوري لجيلها في الأربعينيات يمتد من الجامعة إلى خارجها، ويتوحد مع فئات المجتمع.

 

وفي أثناء إعدادي رسالة الدكتوراه، درستُ النص المسسرحي الوحيد للدكتورة لطيفة الزيات (بيع وشرا)، ضمن نصوص كثيرة لكاتبات المسرح في مصر، وكانت دراسة رائدة لم يسبق إليها أحد، فتحت الباب للاهتمام بكتابات المرأة للمسرح، ولحق باتجاهها زملاء وزميلات، شرفتُ بمناقشة رسائل بعضهم .

 

وقد نشرتُ الرسالة التي حملت عنوان (صورة المجتمع في مسرح الكاتبات المصريات في القرن العشرين) في كتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2003، تحت عنوان (مسرح المرأة في مصر) بفضل الراحل الكبير د.سمير سرحان، وها أنا ذا أنشر لكم هنا الجزء الخاص بمسرحية د.لطيفة باختصار.

 

 كتبتْ لطيفة الزيات النص الوحيد لها (بيع وشرا) ونشرته عام ١٩٦٥، وهي الفترة نفسها التي نشرت فيها روايتها الشهيرة (الباب المفتوح) التي قدَّمت صورة صريحة لأزمة فتاة الطبقة الوسطى في مصر، من الأربعينيات حتى منتصف الخمسينيات، ليس لشخصية "ليلى" فحسب لكن لأكثر من شخصية.

 

وارتبط اسم لطيفة الزيات -كما ذكرنا- بالعمل الوطني، فهي امرأة جمعت في مسيرة حياتها بين العمل الوطني والأكاديمي والإبداع الأدبي، منذ التحقت بجامعة فؤاد الأول فى أكتوبر عام ١٩٤٢ إلى اندراجها في العمل السياسي وهي طالبة، عندما انتُخبت عضوًا في لجنة الطلاب والعمال عام ١٩٤٦، مرورًا بدخولها سجن الحضرة عام ۱۹٤٩ بعد مطاردة من البوليس السياسي مع زوجها الأول بتهمة الانضمام إلى تنظيم شيوعي، ثم دخلت السجن مرة ثانية عام ۱۹۸۱ مع مجموعة كبيرة من مثقفي مصر وسياسييها في أحداث سبتمبر الشهيرة في ذلك العام(۷.

وتشترك لطيفة الزيات مع كاتبات المسرح محل الدراسة، في أنهنّ كتبن في عدة أنواع أدبية؛ القصة والرواية، لكن لطيفة الزيات بحكم انتمائها للجامعة كتبت الدراسات النقدية والترجمة عن الإنجليزية، ودرَّست وأشرفت على رسائل جامعية طوال أكثر من أربعين عامًا.

ويعد نص مسرحية (بيع وشرا ) النص الأول والأخير، إذ لم تكتب مسرحية أخرى –في حدود ما وصل إلينا- ويقع في ثلاثة فصول، تلتزم فيها الكاتبة الوحدات الكلاسيكية الثلاث؛ وحدة الحدث ووحدة الزمان ووحدة المكان.

 يستغرق الحدث الدرامي يومًا واحدًا، يبدأ من الصباح في الفصل الأول وينتهى الفصل الثالث فى صباح اليوم التالي بالحجرة نفسها في المستشفى، حيث يرقد "حازم المنواتي"، كبير عائلة المنواتي مريضًا بين الحياة والموت. تسيطر الحيرة على أشقائه وزوجاتهم بسبب تسلّط زوجته زبيدة هانم واستبدادها وسيطرتها عليه وعلى ثروته، رغم أنها لم تنجب له أطفالًا، فكل ما يشغل الأشقاء وراثة ثروة أخيهم الضخمة بعد رحيله عن الحياة كما يتوقع الجميع.

وتجري حوارات طويلة ومكرّرة عن الفكرة نفسها دون سواها بين الزوجة المتسلطة والأشقاء الطامعين، إلا شخصية واحدة هي "نور صفوت" زوجة حازم الثانية، إذ تزوجها في السر عن قصة حب، وهو السر الذي يعلمه كل أشقائه دون زوجته الأولى، التى يخشى تسلطها.

 تنشغل "نور" بكيفية زيارته والاطمئنان عليه، فى ظل وجود زوجته الأولى المتسلطة (زبيدة)، وتنجح محاولاتها في التسلل عبر نافذة الحجرة وزيارة زوجها وهى والهة في حبه وراضية أن تظل زوجة في الظل، والأشقاء من جانبهم عاجزون عن النفاذ إلى أخيهم وثروته أو معرفة أي شيء عنها، ويظلون مترقبين حدوث شيء مثل موت الأخ أو إفصاح زوجته عن خططها تجاههم، وتجاه ثروة أخيهم، أو أي شيء، لكنهم لا يصلون إلى أي شيء!

 

كان الفعل المنتظر منهم مناصرة "نور"، الزوجة المحبة لأخيهم، لتزوره وتطمئن عليه فقط، لكنهم يجبنون عن القيام بذلك، بل ويتنكرون لوجود الزوجة الثانية أصلًا، ويدَّعون عدم معرفتهم بها، خوفًا من الزوجة الأولى، الأمر الذي يجعل زبيدة مطمئنة إلى سيطرتها على الأمر حتى النهاية.

 وحين يشفى حازم تقيم حفلًا لعيد ميلاده بالمستشفى، في الوقت الذي سقطت فيه "نور" من النافذة وهي تهرب من حجرة زوجها حتى لا تراها زبيدة وماتت، وسط إنكار الجميع عدم معرفتهم بها حتى زوجها المريض.

إن التفسير الطبقي الذي تقدمه لطيفة الزيات لشخصيات المسرحية يؤكد سيطرة طبقة ثرية صاحبة سطوة على طبقة برجوازية أو وسطى، ضعفت عن المواجهة، واهتزت قيمها ومبادئها، فزبيدة شخص واحد، لا تقدم المعالجة الدرامية لها أقارب أو مناصرين، في حين يشكّل زوجها وعائلته من الناحية العددية تفوقًا عليها، ورغم ذلك فهي مسيطرة على مصائرهم جميعًا.

إن ازدواجية الثراء/ الفقر - التسلط/الخضوع، تحكم العلاقات بين الشخصيات في النص، فالزوجة الأولى "زبيدة" تنتمي لأصول عائلية ثرية، ساعدت زوجها "حازم"، حتى أثرى واغتنى فتحكمت فيه بوصفها مصدر الثروة في العائلة، وحرمت الجميع.

ويقدم لنا هذا التحليل الاجتماعي تفسيرًا لتلك العلاقات الشائهة (من خلال الإحساس بالتفوق الاجتماعي لدى الطبقة الأرستقراطية في النظام الإقطاعي، فإن الأيديولوجية الأرستقراطية تعمم نوعًا من التفوق الأبدي الذي يأتي عن طريق الانتماء إلى جنس مختار. وهي بذلك تحول تفوق وضع إلى حتمية حق، أي تحول الحادثة العابرة إلى جوهر أزلي (۹) جي بوريللي –اجتماعية الأدب).

 نهاية المسرحية تؤكد انتصار "زبيدة" الأرستقراطية الثرية في نفي الزوجة الثانية، ونفي إرادة زوجها "حازم المنواتي"، ونفي إرادة عائلته كلها، وفرض إرادتها وسيطرتها على الجميع، وهو أمر يدعو إلى الدهشة في ظل أيديولوجية الكاتبة لطيفة الزيات التي عرفت عنها ودارت حولها أغلب كتابتها الأدبية والفكرية، فهل كانت تدق ناقوس خطر فقط؟ أم كانت تعاني هزيمة خاصة بأفكارها وأيديولوجيتها عبَّرت عنها في هذا الحدث الدرامي؟

 

يقول أحد الآراء عن كتابات لطيفة (من المهم أن نؤكد أن الكشف عن الضعف الإنساني عنصر متوافر في أعمال لطيفة الزيات، وهو كشف تشخيصي يقترب من كشف الطبيب لمواطِن الداء تطلعًا إلى العلاج، ويختلف عن إدانة النفس البشرية أو الاستمتاع بالكشف عن عوراتها، وليس الغرض منه الاعتراف التطهيري أو التلصص الفضولي، بل استكشاف إشكالية الهوية الإنسانية في مرحلة تاريخية معينة من أجل تجاوزها)١٠)فريال غزول- المقاومة عبر المفارقة – ص 197).

وتنفق الباحثة مع فكرة الكشف عن الضعف الإنساني التي طرحها هذا الرأي، لكن هناك اختلاف مع فكرة عدم الإدانة أو الكشف عن العورات، وبالتحديد فيما يخص شخصية نور صفوت الزوجة الثانية التي تقبل أن تعيش في ظل رجل تحبه، متنازلة عن جميع حقوقها، وهو الأمر الظاهر لزوجها وعائلته، لكن الحقيقة التى تنكشف أمامنا هو احتقار نور لنفسها لما قبلته من نكران، وإهانة وإدانة المعالجة الدرامية لها كنموذج مهزوم من الداخل قبل أن يهزمه أحد.

(حازم: أنا عارف إن الصدمة جامدة عليك لكن أنا مضطر.. زبيدة تقدر تجرجرني وتجرجرك فى المحاكم وتخلي اسمي طين في الحيا والموت.

نور: لا تسمع حازم، تتوقف وتتحدث عن نفسها وكأنها إنسان آخر .

في إيه غلطت وامتى؟ يوم ما باعت الدنيا واشترته؟ يوم ما بقى هو قِبلتها ودنيتها؟ يوم قالت حاضر يا حبيبى زى ما انت عايز؟ كان فيه كلمة ترد عليها امبارح وتضمن لها بُكره، وضاعت الكلمة وعلى الكرسى اتولدت وماتت مستنية) ف 2- ص 76.

بعد قراءة هذا الجزء من الحوار الداخلي لشخصية "نور" يمكننا أن نرجِّح أن "نور" ربما لم تسقط مصادفة من النافذة كما يوحى الحدث المسرحي، بل إنها انتحرت بعد أن كشفت لها الوقائع ضعف الحبيب عن المواجهة والدفاع عن حب، والدفاع عنها أمام الجميع، خاصة زوجته الأولى. اكتشفت ضعف حبيبها النفسي أمام المال والسلطة، واجهت الوهم الذي قدَّرته حبًا وإخلاصًا وحقيقته ضعف إرادة أمام ميراث من الخنوع، توارثته عن أمها والمجتمع، مُجمل هذا اكتشاف ضياع الحلم الرومانسي الذي ضحَّت في سبيله بكرامتها وكيانها، فلم يعد لحياتها معنى لتحرص عليها!

أغلب الظن أن صوت الكاتبة المرتفع فى كتابة شخصية "نور"، يردد صدى أفكار لطيفة ذاتها عند الوقوع بين براثن الازدواجية الاجتماعية التقليدية، كما توضحها لطيفة بقولها :

(علّمتني أمي كيف ألغي ذاتي في المحبوب لكي أكون أو بالأحرى لكي لا أكون، وتعلمت فيما تعلمت أن أقهر ذاتي، واقتضاني التحرر من تربيتي المقموعة عمرًا، أقع بلا وعي في الموروث وأعاود وقفتي بالوعى المكتسب. واندرجت حياتي في ظل هذا المفهوم صراعًا بين طرفي الثنائية الضرورة والحرية، صراع ذاتي ذاتي ضد موروثات الشخصية، صراع ذاتي موضوعي ضد ضرورات الواقع الموضوعي، ولكنها لم تندرج أبدًا في خط صاعد، لقد جبنت كثيرًا عن خوض الصراع واستسلمتُ كثيرًا لموروثي كأنما هو قدري وصنعت بيدي في كل مرة سجني(۱۱. (لطيفة الزيات – الكاتب والحرية – ص 14).

إننا عند تأمل السطر الأخير من الفقرة السابقة والسطر الأخير من كلمات شخصية "نور"، نجد مشاعر الندم والشجن التى تعانيها الشخصية الدرامية والشخصية الواقعية والتطابق في المواقف والرؤية الفكرية، لتحليل الذات ووضعية المرأة الاجتماعية، التي تندرج فيها ذات الكاتبة بوصفها امرأة، وهو موقف شديد الجرأة في الكتابة، أعطى مصداقية درامية لشخصية نور، رغم رفضها فكريًا بوصفها نموذجًا للمرأة الضعيفة الحائرة.

Dr.Randa
Dr.Radwa